حول العقـل و الطبيعة البشرية (الجزء الثاني) :
أذكر فيما يلي قصة واقعية جرت لي في الأسكندرية بمصر في تموز 1969. خلاصة القصة اني كنت حينذاك في الأسكندرية وقد أعتدت أن أقضي بعض الوقت في الجلوس الى شخص أعرفه هناك, وهو يملك دكاناً لبيع السلع المتنوعة بالقرب من محل أقامتي. و كان هذا الشخص له أصدقاء يرتادون دكانه و يجلسون معه لتبادل الحديث فيه . و كانوا جميعاً من الأميين أو أنصاف المتعلمين و كنت أستفيد من الحديث أليهم لما في ذلك من دراسة عملية للتفكير البشري كما هو في الواقع لا كما يتحذلق به المفكرون الطوبائيون.
جئت إليهم في صباح أحد الأيام لأبشرهم بصعود أول أنسان الى القمر . و كان هذا الخبر قد أذيع في الليلة السابقة, و لكنهم نظروا الي مستنكرين قولي و متعجبين من تصديقي لهذا الخبر الذي هو غير معقول في نظرهم لا يمكن أن يصدق به أنسان له ذرة من العقل حسب قولهم. فقلت لهم : لابد أنكم شاهدتم في التلفزيون أمس صورة هبوط الرجل على سطح القمر, فما قولكم في هذه الصورة؟ فأنبرى احدهم في الرد علي قائلاً : اذا كانت الصورة التي ظهرت في التلفزيون حقيقية و ليست مصطنعة فهي تدل على ان أرض القمر هي كأرضنا مكونة من تراب , فأذا كان الامر كذلك فلماذا لا يسقط التراب علينا من القمر؟!
أخذت أتباع المناقشة معهم لكي أتعرف على أدلتهم الأخرى . فقلت لهم أن التراب لا يسقط علينا من القمر تحت تأثير قانون الجاذبية فالأرض لها جاذبيتها والقمر له جاذبيته. و الأنسان الذي يقف على الأرض يعتبر ما تحت قدمه (تحت) و ما فوق رأسه (فوق) وكذلك الذي يفعل في القمر.
أن هذه الأدلة التي جئت بها لم تلق قبولاً منهم . بل لقيت استهزاءاً او أستنكاراً . و قال أحدهم و هو يخاطبني بلهجة الناصح : (أن الله أعطانا العقل لكي نميز به الأشياء ! القمر فوق ونحن تحت !) و لم أجد تجاه الأدلة القاطعة التي أوردوها الا الأذعان, و أعتذرت لهم عن تصديقي لهذا الخبر الذي لا يقبله العقل, و شكرت تنبيههم لي. أولائك الأميين الأسكندرانيين أعتمدوا في جدلهم على الحقائق المطلقه التي لاشك فيها في نظرهم و في نظر من لا يعرف قانون الجاذبية. و نحن الذين نعرف قانون الجاذبية قد نصبح مثلهم تجاه من يعرف قانون آخر من قوانين الكون لا نعرفه.
تبين الآن علمياً انه لا وجود للحقائق المطلقة أو الكليات العقلية العامة , في هذه الدنيا . فأن ما يعده الناس في عصر من العصور من الحقائق المطلقة ليس سوى مألوفات أعتادوا عليها و أعتبروها كذلك, و هي قد تنقلب في عصر آخر الى أوهام و اباطيل لا أساس لها من الصحة
-من مقالة لجريدة الاتحاد العدد (110) 1989 م .
علي الوردي
أذكر فيما يلي قصة واقعية جرت لي في الأسكندرية بمصر في تموز 1969. خلاصة القصة اني كنت حينذاك في الأسكندرية وقد أعتدت أن أقضي بعض الوقت في الجلوس الى شخص أعرفه هناك, وهو يملك دكاناً لبيع السلع المتنوعة بالقرب من محل أقامتي. و كان هذا الشخص له أصدقاء يرتادون دكانه و يجلسون معه لتبادل الحديث فيه . و كانوا جميعاً من الأميين أو أنصاف المتعلمين و كنت أستفيد من الحديث أليهم لما في ذلك من دراسة عملية للتفكير البشري كما هو في الواقع لا كما يتحذلق به المفكرون الطوبائيون.
جئت إليهم في صباح أحد الأيام لأبشرهم بصعود أول أنسان الى القمر . و كان هذا الخبر قد أذيع في الليلة السابقة, و لكنهم نظروا الي مستنكرين قولي و متعجبين من تصديقي لهذا الخبر الذي هو غير معقول في نظرهم لا يمكن أن يصدق به أنسان له ذرة من العقل حسب قولهم. فقلت لهم : لابد أنكم شاهدتم في التلفزيون أمس صورة هبوط الرجل على سطح القمر, فما قولكم في هذه الصورة؟ فأنبرى احدهم في الرد علي قائلاً : اذا كانت الصورة التي ظهرت في التلفزيون حقيقية و ليست مصطنعة فهي تدل على ان أرض القمر هي كأرضنا مكونة من تراب , فأذا كان الامر كذلك فلماذا لا يسقط التراب علينا من القمر؟!
أخذت أتباع المناقشة معهم لكي أتعرف على أدلتهم الأخرى . فقلت لهم أن التراب لا يسقط علينا من القمر تحت تأثير قانون الجاذبية فالأرض لها جاذبيتها والقمر له جاذبيته. و الأنسان الذي يقف على الأرض يعتبر ما تحت قدمه (تحت) و ما فوق رأسه (فوق) وكذلك الذي يفعل في القمر.
أن هذه الأدلة التي جئت بها لم تلق قبولاً منهم . بل لقيت استهزاءاً او أستنكاراً . و قال أحدهم و هو يخاطبني بلهجة الناصح : (أن الله أعطانا العقل لكي نميز به الأشياء ! القمر فوق ونحن تحت !) و لم أجد تجاه الأدلة القاطعة التي أوردوها الا الأذعان, و أعتذرت لهم عن تصديقي لهذا الخبر الذي لا يقبله العقل, و شكرت تنبيههم لي. أولائك الأميين الأسكندرانيين أعتمدوا في جدلهم على الحقائق المطلقه التي لاشك فيها في نظرهم و في نظر من لا يعرف قانون الجاذبية. و نحن الذين نعرف قانون الجاذبية قد نصبح مثلهم تجاه من يعرف قانون آخر من قوانين الكون لا نعرفه.
تبين الآن علمياً انه لا وجود للحقائق المطلقة أو الكليات العقلية العامة , في هذه الدنيا . فأن ما يعده الناس في عصر من العصور من الحقائق المطلقة ليس سوى مألوفات أعتادوا عليها و أعتبروها كذلك, و هي قد تنقلب في عصر آخر الى أوهام و اباطيل لا أساس لها من الصحة
-من مقالة لجريدة الاتحاد العدد (110) 1989 م .
علي الوردي