H
haytham_chemist
Guest
الموضوع دة كنت هاحطة فى قسم النقاشات الهادفة والبناءة ولكن ما نفعش........المهم اليكم الموضوع
------------------------
اولا:المقدمة
1- مقدمة
الحَمدُ للّهَ رَب العالَمينَ، الرحمَن الرَّحيم، وأشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحده لا شَريكَ لَهُ يَهدي مَن يَشاءُ إلى صِراط مستَقيم، وأشهَدُ أن مُحمَداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ صاحِبُ الهَديِ القَويمِ، صلى اللَهُ عليهِ وعلى آلِهِ وَمن سارَ على هُداهُ وَاقتَفى أثَرَهُ إلى يوم الفَصلِ العَظيمِ..
أمابَعدُ..
فإن اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى نَصَبَ لهذا الدينِ المعالِمَ، وأقامَ بِما بينَ في الكِتابِ لأتْباعِ هذهِ الملةِ الدعائمَ، فَحَفِظَ ما تَستمِر بهِ الحُجةُ على الخَلقٍ ما بَقِيَت العَوالِمُ، فتلكَ المعالِمُ ظاهِرات، والدعائمُ ثابِتات، عصمةً لأهلِ العلمِ والإيمانِ، ونورا يَهتدي بهِ الراغِبُ من بَني الإتسانِ، فالحمد لله على عَظيمِ المنَّةِ، وواسِعِ الفَضلِ والرحمَةِ لهذهِ الأمةِ.
وَدونَ ذلكَ من مُكملاتِ الإيمانِ، وصالحِ عَمَلِ الإنسانِ، شَرائِعُ وأحكامٌ ، يَرِدُ متها الوارِدُ بحَسَبِ قَدرِ طَمَعِهِ فيما عندَ رَبهِ، وحرصهِ على زِيادَةِ القرب والتحليق في رِياضِ قُدْسِهِ، كَما قالَ اللّهُ تعالى في الحديثِ الإلهي: "ما تَقرب إلي عَندِي بشَيءٍ أحَب إلي مِما افتَرَضتُ عليهِ، وَما يَزالُ عَبدِي يَتَقرب إلي بالنوافلِ حَتى أحِبهُ ".
والنوافل ما زادَ من صالحِ العمَلِ على أمهاتِ الفَرائضِ والأصولِ، ومنْهُ كُلُ مُستَحب من القُرُبات.
كَما أن متهُ ما يَعود في تَقدير درَجَةِ حُكمِهِ إلى النظَرِ، ولم يَفْصِلْ في حُكمِهِ الخَبَر، فَمن بَدا لَه فيهِ وجه الطاعَةِ والقربةِ دَخَلَ في ذلكَ، سَواء عَده بنَظَرِهِ واجِباَ أو مَتدوباً، إذْ كل ما ليسَ مِما حكَمَ اللهُ وَرَسولهُ بفَرضَهِ فالقَولُ بفَرْضِهِ ظَن رَجَحَ لناظِرِ، وبنَدبِهِ ظَن مالَ إليهِ آخَر، ورُبما عتدَ ثالث لم يَبلُغ أن يَكونَ من قَبيلِ الظاهرِ، أي لم يَثبُت حُكمُهُ لخَفائهِ، وأرَدتُ بلفظ (الظاهر) مَعناهُ الأصولي، وَهُوَ اللفظُ الدال على المرادِ منهُ بنَفسِ صِيغَتِهِ من غَيرِ تَوقفِ على أمر خارجي، وليسَ المرادُ متهُ هُوَ المقصودَ أصالَة مِنَ السياقِ، ويَحتَمِلُ التأويلَ.
وهذا بابَ يَدخُلُهُ كل مَسائلِ الخلافِ في الفقهِ الإسلامي، وكل ما عادَ تَقديرُ حُكْمِهِ إلى الاجتِهادِ، وَلذلكَ وَسِعَ المتَنازِعَينِ فيهِ الدخول في رَحمَةِ اللّهَ بالأجرِ أو الأجرَينِ، كَما قالَ النبي
: ((إِذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجتَهَدَ ثُمَّ أَصابَ فَلَهُ أَجْرانِ، وَإذا حَكَمَ فاجتَهَدَ ثُم أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، وَقَد قالَ اللّهُ تعالى: (مَا عَلَى المُحسِنِينَ مِن سبِيل وَإنَهُ غَفُور رَحِيم) التَّوبة:91،، فهذا في كُل مَن قَصَدَ الإحسانَ، أصابَهُ أو أخطأهُ.
وَالمقصودُ: أن يُدرِكَ من يَشتَغِلُ بفِقهِ شَرائعِ الإسلامِ أن الحق مَقطوع بهِ مُطلقاً في أصولِ الدينِ وَمقاصِدِهِ، لا في تَفاصيلِ شَرائعِهِ، فتلكَ للنَاسِ فيها الفُسحَةُ والسعَةُ.
فإذا استَحضَرتَ هذا المعنى، فاتظُر مَعي مِن بَعدُ متأملَا هذهِ المسألَةَ التي بينَ يَديناَ، وتعرف على منزِلَتِها في دينِ الإسلامِ من خلالِ ما وَرَدَ فيها من النقلِ، إذ هُوَ طَريقُ التعريفِ بحُكْمِها، ولاحِظ بنَفْس مُتجردة وعَقْلِ مُتفتحِ، وحيثُ بُغيَتُكَ الدليلُ من الكِتابِ والسنةِ فهو مَحل اتفاقِنا، فليسَ مِنا أحَد يَستَطيعُ المزايَدَةَ عليهِ، ولا الرضا بغيرِهِ.
ولَستُ أريدُ منكَ أن تَتتَهِيَ إلى ما انتَهَيتُ إليهِ، ولكني أرَدتُ أن أطلِعَكَ على نَظَرٍ قَد تَكونُ عتهُ غافلاً، كَما أرَدتُ أن تَعتَرِفَ بحقي في الرَأي كما تَراهُ لنَفسِكَ، إذْ نَستَقي جَميعاً من مَعينِ واحد. وَاعلَم أن هذا النقاش لا يقصد به الترف ، ولا الطَمَع في زائلٍ كَمن يَعْبُدُ اللّهَ على حَرف، بل يُعني بهِ تَشخيصَ واقع، بإبْرازِ قَدْرِ ما خَلَصَت إليهِ الأمةُ اليَوْمَ من تَعظيمِ مَسائلَ والمبالَغَةِ فيها إلى حَدٌ أن تكون قضايا مُفاصلَة في الدينِ، فيَفجُرُ بسَبِبها الأخُ أخاهُ، وُيفسقُهُ، وتارَة يُكفرُهُ، وُيقدَمُ آخَرُ وُيعَظمُ قَدرُهُ بسَبَبِ ما لَهُ من تلكَ المظاهرِ من حَظّ وافرٍ ، وَما يَبْلُغُ الأمْرُ ذاكَ، كالشأنِ في هذهِ المسألَةِ، وكمسألَةِ صِفَةِ اللباسِ، وكَثيرِ مِما يتصِلُ بجِنسِ النساءِ مِنَ الأحوالِ والأعمالِ، إلى قَضايا كَثيرَةٍ تُلامِسُ نُفوسَ المسلمينَ تتعلقُ بآدابِهم وأخلاقِهم وصِلاتِهم ببَعْضِهم، لا يَجوزُ الاستِهانَةُ بها بحال، ففَهمُها جُزْءٌ من فَهْمِ ذاتِنا وتَشخيصِ عِلَلِنا، وتَقديرُها منازِلَها جُزء من فَهمِ دينِنا، والمسألَهُ من هذهِ المسائلِ لا يَكمُنُ إشكالُها بالنظَرِ إليها من جِهَةِ جُزئيَّتِها، وإنما في منهجيةِ التفكيرِ ودَرَجَةِ التقديرِ عتدَ أصنافِ كَثيرَة من مُجتَمعاتِ المسلمينَ.
فَقد قالَ قائلْ: (حالِقُ اللحيَةِ فاسِقْ)!!
قلتُ: كَيفَ أفَسقُ مُسلماً بغيرِ حجًة من اللهَ ورَسولِهِ
، مُسلماً يَقِفُ إلى جانبي في صَف الصلاةِ، وحبه لدينِهِ وانتِصارُهُ لَهُ مِما يُنافَسُ فيهِ، ما بُرهانُ صِدقي في هذا الحكمِ عَليهِ، لو كانَ لي حَق أصلَا أن أنزلَ النَّاسَ مثلَ هذه المنازِل؟
وَحَيثُ حَكَم بفِسقه قالَ: (لا تَصِح إمامَتُه، وَلا يُقْبَلُ قُولُهُ، وَتُرَد شَهادَتُهُ) !!
فقلتُ: ماذا لو كانَ أقْرأَ الحاضِرينَ لكِتابِ اللهِ؟ والنبي
يَقولُ: "يؤم القَومَ أقرأُهم لكِتابِ اللهَ "، ولم يَتقُل أحَدْ في صِفَةِ الإمامِ اعتِبارَ مَتظَرِ أو هَيئةِ، وإنما الأصلُ فيما دلت عليهِ النصوصُ: (مَن صَحَّت صَلاتُهُ لنفسِهِ، صحت صَلاتُهُ بغيرِهِ)، ومن يَزعُمُ أن حالِقَ اللحيَةِ لا تصح صَلاتُهُ لنَفسِهِ فإنه يَزعُمُ الباطِلَ، وَيفتَري على دينِ اللّهَ الكَذِبَ.
جُزئية يَنبني على الرأيِ فيها مثلُ هذا الفَهمِ، مِما يَقَعُ بمِثلِهِ الاعتِداءُ والظلمُ، ألا يَجدُرُ بأهلِ الذٌ كرِ أن يُبينوا قَدرَها للناسِ، ويَكشِفوا عن حَقيقَةِ ما حاطَها من الالتِباسِ؟
وليسَ العَجَبُ في وُرودِ مِثْلِ هذا الخَلَلِ من بَعضِ عامةِ المسلمينَ، وَلا بَعضِ المنتَسبينَ لطَلَبِ العُلومِ الدينيةِ، فهؤلاءِ بسَبَبِ ضَعفِ المقدماتِ العلميةِ الشَرعيةِ لدَيهِم، مَعَ استِفزازِ الواقِعِ، يَصيرونِ كَثيراَ إلى أعرافٍ وعاداتِ غايَةُ أمرِها في الشرعِ أن تَكونَ مُباحَة، فيعدونَها هويةً تَعريفيةَ، فتَنبني عليها المفاصَلَةُ بَينَهم وبينَ مَن سِواهُم، وأدنى ما يَكونُ منهُم أن يَعدوا من لم يتصور بتلكَ الصورَةِ دونَ مَن أتى بها في القَدرِ والمكانَةِ والدينِ، رأينا ذلكَ في صُوَر شَتَى، شأن مَن يُصلي كاشِفَ الرَّأسِ عتدَ بَعضِ المسلمينَ، فكَيفَ باللحيَةِ التي وَجَدُوا شُبْهَةَ الأثَرِ فيها فتعلَقوا بهِ؟
وإنما العَجَبُ أن يَصدُرَ مِثلُ هذا الرأيِ من مُشتَغل بالعلمِ مُنتَسبٍ إليهِ، مُتصدٍ للفَتْوَى وَبيانِ شَرائعِ الإسلامِ، فتَتوالى وتتواطَأُ الكُتُبُ والرسائلُ تأتي جَميعاً في سِياق التهويلِ والتعظيمِ، مُورِدَةً على المسلمينَ الحَرَجَ، خارِجَة في أكثَرِ الأحيانِ عن مَتهَجِ البَحثِ، ومُعمِلَة قواعِدَ النظَرِ، ومُتعديَة أدَبَ الفِكرِ، يَنطَلِقُ الكاتِبُ فيها من فِكرَة مُسلمَةِ لديهِ، بل لو قلتَ: من عَينِ الحَقيقَةِ عتدَهُ لم تُباعِد، فيأتي بَحثُهُ دِفاعاَ عَنِ الفِكرَةِ، لا طَريقاَ لاستِفادَةِ الحُكمِ.
لِذا منَ المقصودِ أصالة بهذا النقاش الإيقافُ على الحُكمِ الشَرعي، وقَدرِهِ في الأحكامِ، دونَ المبالَغَةِ وَلا التَّجاوُزِ، مُنطَلقاً من مُسلماتِ الأصولِ، مُتجرداً لِما تَقودُ إليهِ خلاصَةِ البَحْثِ.
كَما أن لي من مِثلِ هذاِ النقاش مآرِبَ أخرَى، هِيَ مُنبهات وإيقاظات وَمعالم على الطريقِ، مِن أهَمها ما يلي:
أولاً: تَجرئةُ أهلِ العلمِ على العَمَلِ على إعادَةِ النظَرِ في كُل ما يَرجِعُ إلى الاجتِهادِ في تَحريرِ حُكمِهِ، وعَدَمِ الخُضوعِ للاجتِهادِ السابقِ كحُكم مُسلَّم، فذلكَ إنما بُنِيَ على نَظَر، ولا يَخلو من أن يَكونَ متأثِّراً بزَمانِ ومَكانِ وحالِ من صارَ إليهِ.
ثانياً: الإبانَةُ عن حُكم من أحكامِ شَريعَةِ الإسلامِ المتعلقَةِ بأفعالِ المكلفينَ من مُتطَلَقِ اعتِبارِ الشموليةِ فيها، حيثُ جاءَت لتَستغرِقَ الحياةَ بتَفاصيلِها، وَذلكَ بإبرازِ مَنزِلَةِ ذلكَ الحُكمِ وقَدرِهِ وُجوباً، أو نَدباً، أو حُرمَة، أو كَراهة، أو إباحَةَ، وإظهارِ مَحلهِ وَدَرَجَتِهِ في التطبيقِ والامِتثّالِ.
مَعَ مُلاحَظَةِ أن جَميعَ أحكام الشريعَةِ واجِبَةُ القَبولِ، لا يُحَقرُ منها شَي: صَغيرِها وَكَبيرِها، فالًذي علَّمنا أن أصلَ الأصولِ (لا إلَهَ إلا اللّه)، هُوَ الذي علمنا استِحبابَ إماطَةِ الأذَى عَنِ الطريقِ، وعَدَّ الجَميعَ مِن شُعَبِ الإيمانِ.
عَن سَلمانَ الفارِسي، رَضِيَ اللهُ عنهُ، قيلَ لَهُ: قَد عَلَمَكُمْ نَبِيكم
كُل شَيء حَتى قضاء الحاجة، قالَ: فَقالَ: أجَل، لَقَد نَهانا أن نستَقبِلَ القِبلَةَ لغائطِ أو بَول، أو أن نَستنجِيَ باليَمينِ، أو أن نَستنجِيَ بأقَل مِن ثَلاثَةِ أحجار، أو أن نَستنجِيَ برَجيع أو بِعَظمِ.
فهكَذا نُؤْمِنُ أن هذا الدينَ كَما علمَ أصولَ الإيمانِ وَقَواعِدَهُ علمَ فُروعَهُ وشُعَبَهُ، وكَما علَمَ العَقيدَةَ علمَ الأدَبَ، وكَما علمَ الصلاةَ علمَ الصِّلاتِ، حتَى استَغْرَقَ بِبَيانِهِ وشُمولِهِ كُل شَيء، فهُوَ الدٌينُ الكامِلُ الَذي لم يَدَعْ بَعْدَهُ لمستَدركٍ قَولًا، إذ ليسَ من شَيءِ خَلا متهُ حُكمُهُ.
ثالثاَ: إبرازُ الاعتِمادِ على الأدلَةِ الشرعيةِ من الكِتابِ العَزيزِ والسنَنِ النبويةِ لتَكونَ دائماً عتدَ مَن يؤمنُ باللهِ وَاليوم الاَخِرِ مَرجعيةَ الأحكامِ، وإليها تَستنِدُ آراءُ المجتهدينَ والحُكامِ، إذ هِيَ الحَكَمُ الفَصلُ فيما تَنازَعَ فيهِ الناسُ.
رابِعاَ: الإعلامُ بضَرورَةِ تَحريرِ صَحيحِ السنةِ، دَفعاَ للتعلقِ في الاَراءِ بِما لا أصلَ لهُ في الوَحيِ، أو بظَن ضَعيف مَرجوح لا يَحْسُنُ أن يُبنَى عليهِ رأيْ. وتَحريرِ النَّقلِ عَن عُلَماءِ الأمةِ، فكَم من رأي حُكِيَ عن إمامِ على غَيرِ وَجهِهِ؟ وكَم مِن إجماع ادُعِيَ فلا تَجِدُ إلا ما يَدل على نَقْضِهِ؟
خامِساً: إشعارُ المتعرٌضِ لإبانَةِ شَرائعِ الدينِ بان الثباتَ على التَقليدِ يُنافي التجديدَ، والخِلافَ لا يُرَد إلى الخِلافِ، والرأيَ قوي بحجتِهِ لا بقائِلِهِ. كَذلكَ، لا فِقْهَ مَعَ التِزامِ ظَاهِرِ الألفاظِ دونَ مَعانيها، ولا مَعَ التعلقِ بقَريبِ دَلالَتِها دونَ مَقاصِدها وَمَراميها. هذهِ المقاصِدُ وسِواها من بابِها ومَعناها، على مِثلها أقمتُ تَحريرَ هذهِ المساْلَةِ، مُستدلاً بثابتِ الخَبَرِ، ومستعملاً بَراهينَ النظَرِ.
كَما زِدتُ الاستِئناسَ بالآثارِ المرويةِ عن عُلماءِ السلَفِ، من الصحابَةِ والتَابعينَ، ثُم عن فُقهاءِ الأمةِ بَعدَهم، كالفُقَهاءِ الأربَعَةِ وأتْباعِهم وغَيرِهم من عُلَماءِ الملةِ والدينِ، ولا أرَجحُ مَذْهباً اْو رأياَ إلا بحسَبِ ثِقَلِهِ في ميزانِ الأثَرِ والنظَرِ.
فتَحَ اللهِ علينا وعليكَ، ورَزَقَكَ الاتصافَ وحسننَ القَصدِ ، ولم يَحرِمنا القَبولَ عندَهُ بمنهِ وفَضلِهِ.
والحمدُ للهَ أولاً وآخراً.
2- تفسير اللحية
اللِّحيَة في كَلامِ العَرَبِ واستِعمالِها:
لا يُختَلفُ في أن اللحيَةَ اسم للشعرِ النابتِ في مَحل في وَجهِ الرجُلِ. وَلا يُختَلَفُ أن ما نَبَتَ مِنَ الشعَرِ بَينَ الأنفِ والشفَةِ العُليا هُوَ (الشَارِبُ)، وهُوَ غيرُ اللحيَةِ، وما نبَتَ على أجفانِ العَينِ (هُدب)، وما نَبَتَ على أسفَلِ الجَبينِ فَوقَ العَينينِ (الحاجِبانِ)، وليسَ من هذا شيء يتصِلُ بمُسمى اللحية.
وإنما بَقِيَ ما سِوَى ذلكَ مِما ينبُتُ في وجه الرجل من الشعَرِ: ما يَتبُتُ على ذَقَنِهِ، وعارِضَيهِ أو خَديهِ، وعَتفَقَتِهِ وهِىَ ما تَحتَ الشفَةِ السفلى فَوقَ الذقَنِ.
لا يُختَلَفُ أن الشعرَ النابِتَ على الذَّقَنِ لحية، والذقَنُ: "مجتمع اللحيَينِ من أسفَلِهما" (القاموس المحيط: مادة "ذقن").
وإليهِ صارَ في تفسير اللحية بعض الفُقهاءِ الشافعية، وَقَصَرُوا مَعناها عليهِ، وَلم يدرجوا فيها ما يَنبُتُ على العارِضَيْنِ أو العنفقة، فَقالُوا فيها: "الشعر النابت على الذقَنِ خاصة".
وأدَق منه في تفسيرها: أنها ما نَبَتَ على اللحي، حَيثُ سميت (اللحية) بذلكَ لكون اللحي مَنبِتها، فاستُفيدَ اسمُها من اسمِ مَحل نَباتِها ، وَ (اللحيانِ): حائِطا الفَم، وَهما العَظمانِ اللذانِ فيهِما الأسنانُ من داخلِ الفَم من كل ذي لَحي .(لسان العرب)
وَ (اللحي) الذي يَنْبُتُ عليهِ العارِضُ. (لسان العرب)
وَالأصل في (العارِضِ): ما يَتبُتُ على عُرضِ اللحيِ فَوقَ الذَقَنِ.
قلتُ: فهذا يَدل على أن اللحي هُوَ العَظمُ الذي يَتتَهي مِن أعلى إلى الصدغ، والصدغ: ما اتحَدَرَ مِنَ الرأس إلى مُرَكبِ اللحي.
ويسمى ما يَنْبُتُ مِنَ الشعر على ما دونَ الصدغ مما يَكونُ عَلى جانِبِ الوجه أيضا (العِذار)، وهُوَ أول ما ينْبُتُ للأفرَدِ في الغالبِ، ورُبَّما أطلِقَ (العِذارُ) على (العارِضِ) ، فيَكونُ اللفظان اسما لِما يَنْبُتُ مِنَ الشعر على اللحيين الذينِ هُما جانِبَا الوجه. وَحاصِلُ هذا يدل على أن اللحية لَيسَتِ مَقْصورَة في استِعمالِهم على الشعر النابِتِ على الذقَنِ، وإنما يَدخل فيها الشَعْرُ النابت على العَظْمَيْنِ في جانِبَي الوجه أيضاَ.
قالَ ابنُ دريد: "اللحية: اسمْ يَجْمَعُ ما على الخدين والذقَنِ مِنَ الشَعْرِ" .
قلتُ: والتَعبيرُ الأدق بِناء على المقدّمَةِ السالِفَةِ أن يُقالَ: اللحية: اسمٌ يَجمع ما على اللحيين والذقَنِ مِنَ الشعر. أما إدخال عُموم (الخدين) في مَنْبِتِ اللحية فتوسع لم أرَ لَهُ شاهِدا في كَلامِهم، فإن غَيرَ العارِضَينِ مِنَ الخَدَّينِ ليسَ مَنْبتا للشعر في الأصْلِ. وَاختِيارُ الحنفية وَالمالكية في تَفسيرِ (اللحية) على هذا الذي بينت عَنْ أهل الفقه أظْهَرُ من اختِيارِ غَيرِهم، حيثُ عدوا الشعر النابِتَ على جانِبَي الوجه على ما بينَ الذَّقَنِ والصْدغ لحيةً، وألْحَقَهُ غيرُهم كالشافِعيةِ والحَنابِلَةِ بأحِكامِها في الوُضوءِ تَبعاَ.
قالَ ابنُ نُجَيمِ عن أصحابهِ الحنفية: "ظاهِرُ كَلامِهم أن المرادَ باللحية: الشَّعرُ النابِتُ على الخدينِ: مِن عِذارٍ وعارض، والذقَنِ ". (البحر الرائق)
وَقالَ الدرديرُ في "شرح مُختَصَرِ خليل" في فقهِ المالكية: "هِيَ الشعر النابتُ على اللحيينِ".
وَهَلِ الشعر النابت عَلى العَتفَقَةِ- وَقد يسمى (العَتفَقَةَ) أيضاَ- مِنَ اللحية؟
ظاهِرُ كَلام اللُّغويينَ أنها لَيسَت لحية، كَما قالَ في "القاموسِ المحيط": "شُعَيرات بينَ الشَفَةِ السفلَى وَالذقَنِ ".
وَعلى ما تقدم في تَفسيرِ (اللحية)، فإن ما نَبَتَ مِنَ الشعرِ على غيرِ الذقَنِ واللحيَينِ فليسَ بلحية.
ووجدتُ في رِوايَةٍ لحَديثِ أنسِ بنِ مالكٍ ، رَضِيَ الله عنهُ، في صِفَةِ النبي
إلحاقَها باللحية، فعَنهُ: أن النبي
لم يَخْضِب قَط، إنما كانَ البَياضُ في مُقدم لحيتِهِ: في العَتفَقَةِ قَليلا، وفي الرأس نَبْذ يَسيرُ لا يَكادُ يُرَى.
قلتُ: لكن هذا غَيرُ مُسلَّمٍ ، لمَجيءِ اللفظِ في رِوايَة أخرَى صَحيحَةِ: كانَ البَياضُ في مُقدم لِحْيَتِهِ، وَفي العَتفَقَةِ، وَفي الرَّأسِ. الحديثَ.
فغايَرَ بَينَ العَتفَقَةِ وَاللحية.
خلاصَة تَعريف اللحية:
يتحصَلُ مِمَا تقدم بَيانُه الاَتي:
أولا: اللحية هِيَ: الشَعْرُ النابت على الذقَنِ والعارِضَينِ مِن وَجهِ الرَجُلِ.
ثانياَ: ليسَ مِنَ اللحية: ما يَتبُتُ على العَنْفَقَةِ، وما يَنْبُتُ مِنَ الشعر على الخَد غَيرِ العارِضَينِ، والشعر الذي يَنْبُتُ على الرَّقَبَةِ خارِجا عَن حَد عَظمَي الفَحِيَينِ والذقَنِ.
------------------------
اولا:المقدمة
1- مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمدُ للّهَ رَب العالَمينَ، الرحمَن الرَّحيم، وأشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحده لا شَريكَ لَهُ يَهدي مَن يَشاءُ إلى صِراط مستَقيم، وأشهَدُ أن مُحمَداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ صاحِبُ الهَديِ القَويمِ، صلى اللَهُ عليهِ وعلى آلِهِ وَمن سارَ على هُداهُ وَاقتَفى أثَرَهُ إلى يوم الفَصلِ العَظيمِ..
أمابَعدُ..
فإن اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى نَصَبَ لهذا الدينِ المعالِمَ، وأقامَ بِما بينَ في الكِتابِ لأتْباعِ هذهِ الملةِ الدعائمَ، فَحَفِظَ ما تَستمِر بهِ الحُجةُ على الخَلقٍ ما بَقِيَت العَوالِمُ، فتلكَ المعالِمُ ظاهِرات، والدعائمُ ثابِتات، عصمةً لأهلِ العلمِ والإيمانِ، ونورا يَهتدي بهِ الراغِبُ من بَني الإتسانِ، فالحمد لله على عَظيمِ المنَّةِ، وواسِعِ الفَضلِ والرحمَةِ لهذهِ الأمةِ.
وَدونَ ذلكَ من مُكملاتِ الإيمانِ، وصالحِ عَمَلِ الإنسانِ، شَرائِعُ وأحكامٌ ، يَرِدُ متها الوارِدُ بحَسَبِ قَدرِ طَمَعِهِ فيما عندَ رَبهِ، وحرصهِ على زِيادَةِ القرب والتحليق في رِياضِ قُدْسِهِ، كَما قالَ اللّهُ تعالى في الحديثِ الإلهي: "ما تَقرب إلي عَندِي بشَيءٍ أحَب إلي مِما افتَرَضتُ عليهِ، وَما يَزالُ عَبدِي يَتَقرب إلي بالنوافلِ حَتى أحِبهُ ".
والنوافل ما زادَ من صالحِ العمَلِ على أمهاتِ الفَرائضِ والأصولِ، ومنْهُ كُلُ مُستَحب من القُرُبات.
كَما أن متهُ ما يَعود في تَقدير درَجَةِ حُكمِهِ إلى النظَرِ، ولم يَفْصِلْ في حُكمِهِ الخَبَر، فَمن بَدا لَه فيهِ وجه الطاعَةِ والقربةِ دَخَلَ في ذلكَ، سَواء عَده بنَظَرِهِ واجِباَ أو مَتدوباً، إذْ كل ما ليسَ مِما حكَمَ اللهُ وَرَسولهُ بفَرضَهِ فالقَولُ بفَرْضِهِ ظَن رَجَحَ لناظِرِ، وبنَدبِهِ ظَن مالَ إليهِ آخَر، ورُبما عتدَ ثالث لم يَبلُغ أن يَكونَ من قَبيلِ الظاهرِ، أي لم يَثبُت حُكمُهُ لخَفائهِ، وأرَدتُ بلفظ (الظاهر) مَعناهُ الأصولي، وَهُوَ اللفظُ الدال على المرادِ منهُ بنَفسِ صِيغَتِهِ من غَيرِ تَوقفِ على أمر خارجي، وليسَ المرادُ متهُ هُوَ المقصودَ أصالَة مِنَ السياقِ، ويَحتَمِلُ التأويلَ.
وهذا بابَ يَدخُلُهُ كل مَسائلِ الخلافِ في الفقهِ الإسلامي، وكل ما عادَ تَقديرُ حُكْمِهِ إلى الاجتِهادِ، وَلذلكَ وَسِعَ المتَنازِعَينِ فيهِ الدخول في رَحمَةِ اللّهَ بالأجرِ أو الأجرَينِ، كَما قالَ النبي
وَالمقصودُ: أن يُدرِكَ من يَشتَغِلُ بفِقهِ شَرائعِ الإسلامِ أن الحق مَقطوع بهِ مُطلقاً في أصولِ الدينِ وَمقاصِدِهِ، لا في تَفاصيلِ شَرائعِهِ، فتلكَ للنَاسِ فيها الفُسحَةُ والسعَةُ.
فإذا استَحضَرتَ هذا المعنى، فاتظُر مَعي مِن بَعدُ متأملَا هذهِ المسألَةَ التي بينَ يَديناَ، وتعرف على منزِلَتِها في دينِ الإسلامِ من خلالِ ما وَرَدَ فيها من النقلِ، إذ هُوَ طَريقُ التعريفِ بحُكْمِها، ولاحِظ بنَفْس مُتجردة وعَقْلِ مُتفتحِ، وحيثُ بُغيَتُكَ الدليلُ من الكِتابِ والسنةِ فهو مَحل اتفاقِنا، فليسَ مِنا أحَد يَستَطيعُ المزايَدَةَ عليهِ، ولا الرضا بغيرِهِ.
ولَستُ أريدُ منكَ أن تَتتَهِيَ إلى ما انتَهَيتُ إليهِ، ولكني أرَدتُ أن أطلِعَكَ على نَظَرٍ قَد تَكونُ عتهُ غافلاً، كَما أرَدتُ أن تَعتَرِفَ بحقي في الرَأي كما تَراهُ لنَفسِكَ، إذْ نَستَقي جَميعاً من مَعينِ واحد. وَاعلَم أن هذا النقاش لا يقصد به الترف ، ولا الطَمَع في زائلٍ كَمن يَعْبُدُ اللّهَ على حَرف، بل يُعني بهِ تَشخيصَ واقع، بإبْرازِ قَدْرِ ما خَلَصَت إليهِ الأمةُ اليَوْمَ من تَعظيمِ مَسائلَ والمبالَغَةِ فيها إلى حَدٌ أن تكون قضايا مُفاصلَة في الدينِ، فيَفجُرُ بسَبِبها الأخُ أخاهُ، وُيفسقُهُ، وتارَة يُكفرُهُ، وُيقدَمُ آخَرُ وُيعَظمُ قَدرُهُ بسَبَبِ ما لَهُ من تلكَ المظاهرِ من حَظّ وافرٍ ، وَما يَبْلُغُ الأمْرُ ذاكَ، كالشأنِ في هذهِ المسألَةِ، وكمسألَةِ صِفَةِ اللباسِ، وكَثيرِ مِما يتصِلُ بجِنسِ النساءِ مِنَ الأحوالِ والأعمالِ، إلى قَضايا كَثيرَةٍ تُلامِسُ نُفوسَ المسلمينَ تتعلقُ بآدابِهم وأخلاقِهم وصِلاتِهم ببَعْضِهم، لا يَجوزُ الاستِهانَةُ بها بحال، ففَهمُها جُزْءٌ من فَهْمِ ذاتِنا وتَشخيصِ عِلَلِنا، وتَقديرُها منازِلَها جُزء من فَهمِ دينِنا، والمسألَهُ من هذهِ المسائلِ لا يَكمُنُ إشكالُها بالنظَرِ إليها من جِهَةِ جُزئيَّتِها، وإنما في منهجيةِ التفكيرِ ودَرَجَةِ التقديرِ عتدَ أصنافِ كَثيرَة من مُجتَمعاتِ المسلمينَ.
فَقد قالَ قائلْ: (حالِقُ اللحيَةِ فاسِقْ)!!
قلتُ: كَيفَ أفَسقُ مُسلماً بغيرِ حجًة من اللهَ ورَسولِهِ
وَحَيثُ حَكَم بفِسقه قالَ: (لا تَصِح إمامَتُه، وَلا يُقْبَلُ قُولُهُ، وَتُرَد شَهادَتُهُ) !!
فقلتُ: ماذا لو كانَ أقْرأَ الحاضِرينَ لكِتابِ اللهِ؟ والنبي
جُزئية يَنبني على الرأيِ فيها مثلُ هذا الفَهمِ، مِما يَقَعُ بمِثلِهِ الاعتِداءُ والظلمُ، ألا يَجدُرُ بأهلِ الذٌ كرِ أن يُبينوا قَدرَها للناسِ، ويَكشِفوا عن حَقيقَةِ ما حاطَها من الالتِباسِ؟
وليسَ العَجَبُ في وُرودِ مِثْلِ هذا الخَلَلِ من بَعضِ عامةِ المسلمينَ، وَلا بَعضِ المنتَسبينَ لطَلَبِ العُلومِ الدينيةِ، فهؤلاءِ بسَبَبِ ضَعفِ المقدماتِ العلميةِ الشَرعيةِ لدَيهِم، مَعَ استِفزازِ الواقِعِ، يَصيرونِ كَثيراَ إلى أعرافٍ وعاداتِ غايَةُ أمرِها في الشرعِ أن تَكونَ مُباحَة، فيعدونَها هويةً تَعريفيةَ، فتَنبني عليها المفاصَلَةُ بَينَهم وبينَ مَن سِواهُم، وأدنى ما يَكونُ منهُم أن يَعدوا من لم يتصور بتلكَ الصورَةِ دونَ مَن أتى بها في القَدرِ والمكانَةِ والدينِ، رأينا ذلكَ في صُوَر شَتَى، شأن مَن يُصلي كاشِفَ الرَّأسِ عتدَ بَعضِ المسلمينَ، فكَيفَ باللحيَةِ التي وَجَدُوا شُبْهَةَ الأثَرِ فيها فتعلَقوا بهِ؟
وإنما العَجَبُ أن يَصدُرَ مِثلُ هذا الرأيِ من مُشتَغل بالعلمِ مُنتَسبٍ إليهِ، مُتصدٍ للفَتْوَى وَبيانِ شَرائعِ الإسلامِ، فتَتوالى وتتواطَأُ الكُتُبُ والرسائلُ تأتي جَميعاً في سِياق التهويلِ والتعظيمِ، مُورِدَةً على المسلمينَ الحَرَجَ، خارِجَة في أكثَرِ الأحيانِ عن مَتهَجِ البَحثِ، ومُعمِلَة قواعِدَ النظَرِ، ومُتعديَة أدَبَ الفِكرِ، يَنطَلِقُ الكاتِبُ فيها من فِكرَة مُسلمَةِ لديهِ، بل لو قلتَ: من عَينِ الحَقيقَةِ عتدَهُ لم تُباعِد، فيأتي بَحثُهُ دِفاعاَ عَنِ الفِكرَةِ، لا طَريقاَ لاستِفادَةِ الحُكمِ.
لِذا منَ المقصودِ أصالة بهذا النقاش الإيقافُ على الحُكمِ الشَرعي، وقَدرِهِ في الأحكامِ، دونَ المبالَغَةِ وَلا التَّجاوُزِ، مُنطَلقاً من مُسلماتِ الأصولِ، مُتجرداً لِما تَقودُ إليهِ خلاصَةِ البَحْثِ.
كَما أن لي من مِثلِ هذاِ النقاش مآرِبَ أخرَى، هِيَ مُنبهات وإيقاظات وَمعالم على الطريقِ، مِن أهَمها ما يلي:
أولاً: تَجرئةُ أهلِ العلمِ على العَمَلِ على إعادَةِ النظَرِ في كُل ما يَرجِعُ إلى الاجتِهادِ في تَحريرِ حُكمِهِ، وعَدَمِ الخُضوعِ للاجتِهادِ السابقِ كحُكم مُسلَّم، فذلكَ إنما بُنِيَ على نَظَر، ولا يَخلو من أن يَكونَ متأثِّراً بزَمانِ ومَكانِ وحالِ من صارَ إليهِ.
ثانياً: الإبانَةُ عن حُكم من أحكامِ شَريعَةِ الإسلامِ المتعلقَةِ بأفعالِ المكلفينَ من مُتطَلَقِ اعتِبارِ الشموليةِ فيها، حيثُ جاءَت لتَستغرِقَ الحياةَ بتَفاصيلِها، وَذلكَ بإبرازِ مَنزِلَةِ ذلكَ الحُكمِ وقَدرِهِ وُجوباً، أو نَدباً، أو حُرمَة، أو كَراهة، أو إباحَةَ، وإظهارِ مَحلهِ وَدَرَجَتِهِ في التطبيقِ والامِتثّالِ.
مَعَ مُلاحَظَةِ أن جَميعَ أحكام الشريعَةِ واجِبَةُ القَبولِ، لا يُحَقرُ منها شَي: صَغيرِها وَكَبيرِها، فالًذي علَّمنا أن أصلَ الأصولِ (لا إلَهَ إلا اللّه)، هُوَ الذي علمنا استِحبابَ إماطَةِ الأذَى عَنِ الطريقِ، وعَدَّ الجَميعَ مِن شُعَبِ الإيمانِ.
عَن سَلمانَ الفارِسي، رَضِيَ اللهُ عنهُ، قيلَ لَهُ: قَد عَلَمَكُمْ نَبِيكم
فهكَذا نُؤْمِنُ أن هذا الدينَ كَما علمَ أصولَ الإيمانِ وَقَواعِدَهُ علمَ فُروعَهُ وشُعَبَهُ، وكَما علَمَ العَقيدَةَ علمَ الأدَبَ، وكَما علمَ الصلاةَ علمَ الصِّلاتِ، حتَى استَغْرَقَ بِبَيانِهِ وشُمولِهِ كُل شَيء، فهُوَ الدٌينُ الكامِلُ الَذي لم يَدَعْ بَعْدَهُ لمستَدركٍ قَولًا، إذ ليسَ من شَيءِ خَلا متهُ حُكمُهُ.
ثالثاَ: إبرازُ الاعتِمادِ على الأدلَةِ الشرعيةِ من الكِتابِ العَزيزِ والسنَنِ النبويةِ لتَكونَ دائماً عتدَ مَن يؤمنُ باللهِ وَاليوم الاَخِرِ مَرجعيةَ الأحكامِ، وإليها تَستنِدُ آراءُ المجتهدينَ والحُكامِ، إذ هِيَ الحَكَمُ الفَصلُ فيما تَنازَعَ فيهِ الناسُ.
رابِعاَ: الإعلامُ بضَرورَةِ تَحريرِ صَحيحِ السنةِ، دَفعاَ للتعلقِ في الاَراءِ بِما لا أصلَ لهُ في الوَحيِ، أو بظَن ضَعيف مَرجوح لا يَحْسُنُ أن يُبنَى عليهِ رأيْ. وتَحريرِ النَّقلِ عَن عُلَماءِ الأمةِ، فكَم من رأي حُكِيَ عن إمامِ على غَيرِ وَجهِهِ؟ وكَم مِن إجماع ادُعِيَ فلا تَجِدُ إلا ما يَدل على نَقْضِهِ؟
خامِساً: إشعارُ المتعرٌضِ لإبانَةِ شَرائعِ الدينِ بان الثباتَ على التَقليدِ يُنافي التجديدَ، والخِلافَ لا يُرَد إلى الخِلافِ، والرأيَ قوي بحجتِهِ لا بقائِلِهِ. كَذلكَ، لا فِقْهَ مَعَ التِزامِ ظَاهِرِ الألفاظِ دونَ مَعانيها، ولا مَعَ التعلقِ بقَريبِ دَلالَتِها دونَ مَقاصِدها وَمَراميها. هذهِ المقاصِدُ وسِواها من بابِها ومَعناها، على مِثلها أقمتُ تَحريرَ هذهِ المساْلَةِ، مُستدلاً بثابتِ الخَبَرِ، ومستعملاً بَراهينَ النظَرِ.
كَما زِدتُ الاستِئناسَ بالآثارِ المرويةِ عن عُلماءِ السلَفِ، من الصحابَةِ والتَابعينَ، ثُم عن فُقهاءِ الأمةِ بَعدَهم، كالفُقَهاءِ الأربَعَةِ وأتْباعِهم وغَيرِهم من عُلَماءِ الملةِ والدينِ، ولا أرَجحُ مَذْهباً اْو رأياَ إلا بحسَبِ ثِقَلِهِ في ميزانِ الأثَرِ والنظَرِ.
فتَحَ اللهِ علينا وعليكَ، ورَزَقَكَ الاتصافَ وحسننَ القَصدِ ، ولم يَحرِمنا القَبولَ عندَهُ بمنهِ وفَضلِهِ.
والحمدُ للهَ أولاً وآخراً.
2- تفسير اللحية
اللِّحيَة في كَلامِ العَرَبِ واستِعمالِها:
لا يُختَلفُ في أن اللحيَةَ اسم للشعرِ النابتِ في مَحل في وَجهِ الرجُلِ. وَلا يُختَلَفُ أن ما نَبَتَ مِنَ الشعَرِ بَينَ الأنفِ والشفَةِ العُليا هُوَ (الشَارِبُ)، وهُوَ غيرُ اللحيَةِ، وما نبَتَ على أجفانِ العَينِ (هُدب)، وما نَبَتَ على أسفَلِ الجَبينِ فَوقَ العَينينِ (الحاجِبانِ)، وليسَ من هذا شيء يتصِلُ بمُسمى اللحية.
وإنما بَقِيَ ما سِوَى ذلكَ مِما ينبُتُ في وجه الرجل من الشعَرِ: ما يَتبُتُ على ذَقَنِهِ، وعارِضَيهِ أو خَديهِ، وعَتفَقَتِهِ وهِىَ ما تَحتَ الشفَةِ السفلى فَوقَ الذقَنِ.
لا يُختَلَفُ أن الشعرَ النابِتَ على الذَّقَنِ لحية، والذقَنُ: "مجتمع اللحيَينِ من أسفَلِهما" (القاموس المحيط: مادة "ذقن").
وإليهِ صارَ في تفسير اللحية بعض الفُقهاءِ الشافعية، وَقَصَرُوا مَعناها عليهِ، وَلم يدرجوا فيها ما يَنبُتُ على العارِضَيْنِ أو العنفقة، فَقالُوا فيها: "الشعر النابت على الذقَنِ خاصة".
وأدَق منه في تفسيرها: أنها ما نَبَتَ على اللحي، حَيثُ سميت (اللحية) بذلكَ لكون اللحي مَنبِتها، فاستُفيدَ اسمُها من اسمِ مَحل نَباتِها ، وَ (اللحيانِ): حائِطا الفَم، وَهما العَظمانِ اللذانِ فيهِما الأسنانُ من داخلِ الفَم من كل ذي لَحي .(لسان العرب)
وَ (اللحي) الذي يَنْبُتُ عليهِ العارِضُ. (لسان العرب)
وَالأصل في (العارِضِ): ما يَتبُتُ على عُرضِ اللحيِ فَوقَ الذَقَنِ.
قلتُ: فهذا يَدل على أن اللحي هُوَ العَظمُ الذي يَتتَهي مِن أعلى إلى الصدغ، والصدغ: ما اتحَدَرَ مِنَ الرأس إلى مُرَكبِ اللحي.
ويسمى ما يَنْبُتُ مِنَ الشعر على ما دونَ الصدغ مما يَكونُ عَلى جانِبِ الوجه أيضا (العِذار)، وهُوَ أول ما ينْبُتُ للأفرَدِ في الغالبِ، ورُبَّما أطلِقَ (العِذارُ) على (العارِضِ) ، فيَكونُ اللفظان اسما لِما يَنْبُتُ مِنَ الشعر على اللحيين الذينِ هُما جانِبَا الوجه. وَحاصِلُ هذا يدل على أن اللحية لَيسَتِ مَقْصورَة في استِعمالِهم على الشعر النابِتِ على الذقَنِ، وإنما يَدخل فيها الشَعْرُ النابت على العَظْمَيْنِ في جانِبَي الوجه أيضاَ.
قالَ ابنُ دريد: "اللحية: اسمْ يَجْمَعُ ما على الخدين والذقَنِ مِنَ الشَعْرِ" .
قلتُ: والتَعبيرُ الأدق بِناء على المقدّمَةِ السالِفَةِ أن يُقالَ: اللحية: اسمٌ يَجمع ما على اللحيين والذقَنِ مِنَ الشعر. أما إدخال عُموم (الخدين) في مَنْبِتِ اللحية فتوسع لم أرَ لَهُ شاهِدا في كَلامِهم، فإن غَيرَ العارِضَينِ مِنَ الخَدَّينِ ليسَ مَنْبتا للشعر في الأصْلِ. وَاختِيارُ الحنفية وَالمالكية في تَفسيرِ (اللحية) على هذا الذي بينت عَنْ أهل الفقه أظْهَرُ من اختِيارِ غَيرِهم، حيثُ عدوا الشعر النابِتَ على جانِبَي الوجه على ما بينَ الذَّقَنِ والصْدغ لحيةً، وألْحَقَهُ غيرُهم كالشافِعيةِ والحَنابِلَةِ بأحِكامِها في الوُضوءِ تَبعاَ.
قالَ ابنُ نُجَيمِ عن أصحابهِ الحنفية: "ظاهِرُ كَلامِهم أن المرادَ باللحية: الشَّعرُ النابِتُ على الخدينِ: مِن عِذارٍ وعارض، والذقَنِ ". (البحر الرائق)
وَقالَ الدرديرُ في "شرح مُختَصَرِ خليل" في فقهِ المالكية: "هِيَ الشعر النابتُ على اللحيينِ".
وَهَلِ الشعر النابت عَلى العَتفَقَةِ- وَقد يسمى (العَتفَقَةَ) أيضاَ- مِنَ اللحية؟
ظاهِرُ كَلام اللُّغويينَ أنها لَيسَت لحية، كَما قالَ في "القاموسِ المحيط": "شُعَيرات بينَ الشَفَةِ السفلَى وَالذقَنِ ".
وَعلى ما تقدم في تَفسيرِ (اللحية)، فإن ما نَبَتَ مِنَ الشعرِ على غيرِ الذقَنِ واللحيَينِ فليسَ بلحية.
ووجدتُ في رِوايَةٍ لحَديثِ أنسِ بنِ مالكٍ ، رَضِيَ الله عنهُ، في صِفَةِ النبي
قلتُ: لكن هذا غَيرُ مُسلَّمٍ ، لمَجيءِ اللفظِ في رِوايَة أخرَى صَحيحَةِ: كانَ البَياضُ في مُقدم لِحْيَتِهِ، وَفي العَتفَقَةِ، وَفي الرَّأسِ. الحديثَ.
فغايَرَ بَينَ العَتفَقَةِ وَاللحية.
خلاصَة تَعريف اللحية:
يتحصَلُ مِمَا تقدم بَيانُه الاَتي:
أولا: اللحية هِيَ: الشَعْرُ النابت على الذقَنِ والعارِضَينِ مِن وَجهِ الرَجُلِ.
ثانياَ: ليسَ مِنَ اللحية: ما يَتبُتُ على العَنْفَقَةِ، وما يَنْبُتُ مِنَ الشعر على الخَد غَيرِ العارِضَينِ، والشعر الذي يَنْبُتُ على الرَّقَبَةِ خارِجا عَن حَد عَظمَي الفَحِيَينِ والذقَنِ.