تهويد" الوعي الفلسطيني كما يخطط له الصهاينة

mohamadamin

حكيم المنتدى
في الوقت الذي تحاول بعض الحكومات في العالم الإسلامي تقليص تدريس المواد الدينية ضمن إستراتيجية "تجفيف المنابع"، فأن الصهاينة يقطعون أشواطاً طويلة جداً في فرض تدريس كتبهم الدينية على طلابهم حتى العلمانيين، مع العلم أن 30%من الصهاينة في الكيان الصهيوني يعلنون أنهم متدينون. فقد أفصح وزير التعليم الصهيوني الحاخام شاي بيرون عن طابع "الثورة" التي ظل "يبشر" بها دون أن يفصح عن مكنونها، حيث أعلن أنه سيتم ابتداءً من العام القادم فرض تعليم "التناخ"(العهد القديم)، وتضمينه مناهج التعليم لكل المستويات التعليمية، سيما في مدارس التيار التعليمي العام، التي يؤمها العلمانيون على وجه الخصوص.
ولم يفت بيرون الإشارة إلى أنه سيتم التركيز على تدريس مركبين أساسيين من مركبات "التناخ" الثلاثة، وهما كتابا: "الأنبياء" و"الإدبيات"(خوتفيم)، الذان يعنيان بشكل خاص بسرد الرواية التاريخية، التي استندت إليها الحركة الصهيونية في نسج مسوغاتها لاغتصاب فلسطين.
هذه الخطوة تأتي في ظل استعار الحرب تستعر الحرب التي يشنها الصهاينة في محاولاتهم تحصين روايتهم التاريخية وتزداد ضراوة، سيما في ظل احتفالهم بحلول الذكرى السادسة والستين بنكبة فلسطين وإعلان كيانهم. وقد كان آخر أدوات هذه الحرب مشروع قانون أساس "الدولة اليهودية"، الذي تعهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتمريره في الكنيست خلال الصيف، والذي تنص المادة الأولى فيه على أن "أرض إسرائيل هي الأرض التاريخية للشعب اليهودي"، أي نفي أي حق للشعب الفلسطيني على هذه الأرض أو جزء منها. لكن محاولات تحصين الرواية لا تقف عند سن هذا القانون، بل تتمثل أيضاً في رسالة واضحة وصريحة يحاول الكيان الصهيوني المواظبة عليها. ففي خطابه أمام مؤتمر "أيباك" الأخير زعم نتنياهو أنه في كل ما يتعلق بالملكية على أرض فلسطين، وتحديداً في الضفة الغربية، فأن هناك "حقيقة تاريخية واحدة".
فحسب نتنياهو، فأن الخليل هي: "مدينة الآباء التي اشترى فيها إبراهيم مغارة"، والقدس:"صخرة وجودنا التي حكم داود مملكته منها"، في حين أن "بيت إيل"( مستوطنة تقع للشمال من رام الله) تمثل:"المكان التي حلم فيها يعقوب حلمه". ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أن الكيان الصهيوني وصل إلى حد مطالبة الفلسطينيين بشكل معلن بفك الارتباط مع روايتهم التاريخية، وقبول الرواية الصهيونية. ومن الواضح أن حرص نتنياهو ونخب الحكم في تل أبيب على تكريس "الحقيقة التاريخية الواحدة" لا يهدف لإبراز "حجم الثمن" الذي يبدون استعدادهم لدفعه من أجل تسوية سياسية للصراع، بل تحديداً لتبرير رفض إبداء أية تنازلات حقيقية.
من هنا، فأن نتنياهو يتعهد مجدداً أمام نواب حزبه الليكود بعدم إخلاء أية مستوطنة من المستوطنات المقامة في الضفة الغربية ومواصلة الاحتفاظ منطقتي "القدس الكبرى"، و"غور الأردن"، في أية تسوية سياسية. إن تبعات قبول الرواية التاريخية الصهيونية لا يتحملها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة واللاجئين في الشتات، الذين يتوجب عليهم التنازل عن حقهم في العودة، بل نخب الحكم في إسرائيل ترى أن "الحقيقة التاريخية الواحدة" تبرر السعي لتحقيق "النقاء العرقي" عبر التخلص من فلسطينيي 48، وهو ما تعبر عنه خطة "تبادل الأرض والسكان"، التي يتشبث بها وزير الخارجية أفيدور ليبرمان. فليبرمان يدعي أن القانون الدولي يجيز نقل فلسطينيي 48 لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة، حتى بدون موافقتهم.
والتسليم بـ "الحقيقة التاريخية الواحدة" يعني قبول واقع التمييز على أساس عنصري الذي يتعرضه فلسطينيي 48، بحجة أن "الدولة اليهودية" تسدي لهم معروفاً لمجرد القبول ببقائهم في تخومها. لذا، فلا يفترض أن يحتج أحد عندما تكشف دراسة صهيونية حديثة، أن مستوى الخدمات التي يحصل عليها فلسطينيو 48 تقل بنسبة 60% عن تلك التي يحصل عليها اليهود. ومن الواضح أن نتنياهو يأمل من خلال محاولته تحصين الرواية الصهيونية، إضفاء شرعية على الموقف الصهيوني من الصراع، ولتبرير رفضه لمشاريع التسوية التي تطرح بين الفينة والأخرى، والتي كانت آخرها، الخطة التي قدمها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري.
إن الإصرار على "الحقيقة التاريخية" يعني بالنسبة للنخبة الصهيونية الحاكمة صهينة الوعي الجمعي للفلسطينيين. فوزير المخابرات والعلاقات الدولية يوفال شطاينتس يرى أن إعادة صياغة مناهج التعليم الفلسطينية متطلب مهم قبل حتى مجرد الشروع في بحث قضايا التسوية الرئيسة. ويضيق شطاينتس ذرعاً بمادة الجغرافيا على وجه الخصوص لأنها تكرس لدى النشئ الفلسطيني الشعور بالحق المطلق على فلسطيني من خلال دراسة خارطة فلسطين وتضاريسها. ويعد شطاينتس مناهج التعليم الفلسطينية "تحريضاً" يتوجب أن يتوقف. والمفارقة أنه تكمن من اقناع لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ الأمريكي بالربط بين المساعدات الأمريكية المالية للسلطة وبين وقف هذا "التحريض".من هنا، لم يخطئ المفكر اليهودي زئيف شترينهال عندما عد أي اعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية بأنه "أوضح إقرار فلسطيني بالهزيمة التاريخية".
إن التشريع الذي يوشك نتنياهو على سنه وجملة الإجراءات الهادفة لتحصين الرواية الصهيونية تشي أكثر من أي شئ آخر بتهافت الرواية التاريخية الصهيونية وتفضح الإحساس العميق بغياب المشروعية، علاوة على أنها تعكس ضعفاً وانعدام ثقة. وعلى الرغم من أن الاعتراف بيهودية الكيان الصهيوني يعني إضفاء شرعية نظام الفصل العنصري القائم في الكيان الصهيوني، إلا أن الولايات المتحدة تقف سداً منيعاً أمام أية محاولة للتعرض لهذا النظام بالنقد. فقد اكفهرت وجوه نواب الكونغرس الأمريكي لمجرد أن حذر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من إمكانية يتحول الكيان الصهيوني إلى دولة فصل عنصري "أبارتهايد"، وأجبروا كيري على الاعتذار وسحب ما ورد على لسانه. أن هؤلاء النواب مدعوون لأن يرسلوا مجموعة منهم لمعاينة الشعارات التي يرددها مشجعو فريق "بيتار يروشليم"، أكبر فرق كرة القدم في الكيان الصهيوني، حيث ترديد "الموت للعرب"، هو الشعار المحبب لدى مشجعي الفريق، الذي تتزلفه نخب الحكم، في سعيها لزيادة رصيدها لدى الجمهور اليميني.
قصارى القول، الصهاينة يحاولون تزييف التاريخ وتهويد الوعي الفلسطيني من خلال فرض ديباجات قانونية وتوظيف الثقل السياسي للولايات المتحدة، مع العلم أنه لم يحدث في تجارب التايخية أن تمكنت مجموعة بشرية من فرض روايتها التاريخية بقوة الأمر الواقع، وهذا ما يدلل على أنه لا أمل لهذه المحاولات في النجاح.
إن الصراع على الرواية التاريخية يشتد في الوقت الذي ينضم فيه تحديداً مزيدٌ من المؤرخين اليهود لأولئك الذين يفندون الرواية التاريخية الصهيونية. ففي كتابه الأخير "نظرية سياسية للشعب اليهودي"، ينسف المؤرخ اليهودي حاييم غانز الرواية التاريخية الصهيونية، ويقدم حجة بسيطة، لكنها متماسة ومنطقية. ويقول: "إذا غاب اليهود عن بلاد إسرائيل ألف عام وأكثر،حيث كانوا منشغلين أساساً في الحياة خارج حدودها، فكيف بإمكانهم أن يدعوا بأنهم كانوا أصحابها في الزمن العتيق وظلوا كذلك حتى في زمن انقطاعهم عنها".
 
عودة
أعلى