mohamadamin
حكيم المنتدى
هكذا صارت "الإسكندريات " بمثابة بوتقات علمية، تنصهر فيها هذه الثقافة الجديدة.
وقد حرص الاسكندر الأكبر على تطبيق هذه المبادرة على نفسه، ليكون قدوة لغيره حين تزوج الأميرة روكسانا الفارسية ، وأمر قواده ان يفعلوا مثله.
وعلى الرغم من أن دولة الاسكندر لم تلق نجاحاً بعد وفاته، إذ تفككت إلى ممالك متفرقة بين قواده ، إلا أن الحركة العلمية التي كان ينشدها استمرت وازدهرت من بعـده، وهي التي اشتهرت باسم "العصر الهلنستي " ، تمييزاً لها عن العصر الهليني الذي ساد اليونان قبل عصر الاسكندر. ومن أشهر المراكز الهلنستية الجديدة، مدينة الإسكندرية المصرية بمكتبتها ومدرستها العلمية التي كانت مزيجا من كل الحضارات السابقة، وخصوصا الحضارة المصرية القديمة.
وفي شمال الهند في حوض نهر السند ، حاول الملك الهندي أشوكا Ashoka في القرن الثالث قبل الميلاد، أن يجعل من البوذية دينا عالميا، وبشر به ملوك الأرض ولا سيما في بلاد الإغريق والدول الهلنستية ، لإقامة وحدة عالمية. وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من اليونانيين اعتنقوا البوذية، إلا أن محاولته لم تلق الاستمرار والنجاح، وبقيت البوذية قاصرة على أقاليمها في الهـند والشرق الآسيوي .
ومحاولة الملك أشوكا في الهند تذكرنا بمحاولة شبيهة رائدة ، سبقتها بوقت طويل على يد فرعون مصر الملك أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد (الأسرة 18)، عندما بشر في نشيده المشهور بإله العالم "أتون " الذي يهتم بكل مظاهر الطبيعة ، إنسانها وحيوانها ونباتها، وكأنما أراد بذلك إقامة وحدة عالمية روحية، تربط على الأقل بين أجزاء مملكته الممتدة من الشام شمالاً إلى النوبة جنوباً .
وما يقال عن مصر والهند واليونان ، يقال أيضاً عن الحضارة الفارسية ذات التراث الآسيوي العريق ، والتقاليد الملكية القديمة ، والنظم الإدارية المتطورة، إلى جانب المراكز الهلينية المنتشرة في أنحائها مثل بلخ ، ومرو ، وجنديسابور... وغيرها. لقد بد أ الإيرانيون حياتهم الدينية مثل كثير من شعوب العالم ، بعبادة قوى الطبيعة ، ثم ظهرت "الزرادشتية" على يد مؤسسمها زرادشت zoroustre في القرن السابع قبل الميلاد ، منادية بأن الوجود قائم على مبدأين أساسيين هما: الخير (أهورا ويسمى يزدان) ، والشر (أهرمن) ، أو النور والظلام. وبما أن النور مصدره الشمس، والشمس من نار، لهذا لعبت النار دوراً هاماً في هذه العقيدة ، باعتبارها مصدر الإشراق والنور والضياء، فقدسوها وعبدوها، وصار لهم كتاب مقدس يعرف "بالأفستا" أي المعرفة. غير أن الزرادشتية لم تلبث مع مرور الزمن بسبب سيطرتها وتعصبها، أن ووجهت بحركات دينية مضادة مثل "المانوية، على يد "ماني Manes" في القرن الثالث الميلاري، وأتباعها لهم نزعة صوفية هدامة، تحض الناس على التقشف وعدم الزواج والإنتاج، ويرون ان الخير في العدم المطلق. ولهذا حوربت وبقيت دعوة سر ية.
وإذا كانت "المانوية" 3 دعت إلى الزهد والبعد عن النساء، فإن ديناً آخر لم يلبث أن ظهر في ايران وهو "المزدكية" على يد صاحبه "مزدك " الذي دعا الناس إلى حل مشكلاتهم ونبذ خلافاتهم بجعل الحق في الأموال والنساء مشاعاً بينهم. وقد نجح سعيه بين العوام والمحرومين، ولكته مات قتيلاً في منتصف القرن السادس الميلادي ، وبقيت دعوته سرية مثل "المانوية" وكل هذا يدل على حالة الاضطراب والفوضى الدينية فى إيران قبيل الإسلام.
وهكذا نرى مما تقدم، أنه كانت هناك في هذه المنطقة من العالم، حضارات عريقة نشأت قبل الإسلام، وسادتها روابط وصلات مختلفة، بل كانت هناك محاولات لتوحيد بعض مكوناتها لم يكتب لها النجاح، ولكنها مع ذلك صبغت هذه المنطقة بروح جديدة وهي الروح الشرقية التي أخضعت الفلسفة اليونانية لما دخلت بلادها، فأسبغت عليها ثوباً من روحانياتها وإلهامها ، وهي الروح التي جعلت علماء التاريخ والاجتماع يدركون خصائص مشتركة بين الشرق، تخالف تلك التي للغرب، روح ورثها الشرقي من أجيال ، وساعدت على تكوينها بيئاتهم الطبيعية والاجتماعية، وجعلتهم يتذوقون غير ما يتذوقه الغربي، ويدركون الأشياء على غير النمط الغربي، كما جعلت لهم مدنيات تحالف من وجوه كثيرة المدنيات الغربية . جاءت الأديان المختلفة من: بوذية وزرادشتية ويهودية ونصرانية، فصبغت هذه الروح صبغة خاصة، صبغة لا مادية، تؤمن بإله فوق العالم، وترجو جنة، وتخاف ناراً، وترى أن وراء هذه السعادة الدنيوية، والشهوات الجسمية، سعادة أخرى روحية.
جاء الإسلام كمنهج حياة ، يرسم الطريق وينير سبل الهداية. منه انبثق الحل العلمي والدائم لمشاكل الإنسانية التي كانت تشكو من الفراغ الديني والفكري والسياسي والثقافي ، فالفكر اليوناني- الإغريقي لم يؤمن إلا بالمحسوس وافتتن بلذائذ الدنيا ومغريات الحياة وغلبت عليه النزعة الإقليمية الضيقة باعتماده على المنهج الاستنباطي أو القياس القائم أساساً على النظر الفلسفي والفكري المادي دون الالتفات لمنهج التجربة فكأن الفكر اليوناني اقتصر على المادية ثقافة وعلماً وفلسفةً وشعراً ودنيا.
والفكر الروماني مجد القوة العسكرية إلى حد العبادة والتقديس، وتميز بالنظرة المادية المحضة إلى الحياة، فكانت محصلته ، غلوا في تقدير الحياة وشكاً في الدين وضعفاً في اليقين واضطراباً في العقيدة ، فتعددت الآلهة، وترتب على ذلك أحداث البغضاء بين الله والإنسان، وما الحياة عندهم إلا فرصة للتمتع، ترف في العيش وانتهاب للذات. والفكر الفارسي قبل الإسلام اعتمد تقوية السلطان والقوة الجسدية وقال بجريان الدم الآلهي في عروق أكاسرته وأشاع بين الناس نظرية التفاوت الطبقي.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في الصين والهند، كان الاختلال يبدو واضحا فيما يتصل بالجوانب النظرية أو الجوانب العملية من حياة الإنسان فيطغى أحدهما على الآخر، إذ يغرق أحياناً في الروحانيات أو يطغى في الماديات، فلا توازن ولا انسجام.
وبنزول الإسلام اتضحت معالم الحياة الدنيوية والأخروية تمام الوضوح فبالألوهية والربوبية ، تحققت العدالة والمساواة والكرامة والحرية للإنسانية، فالله سبحانه وتعالى وحده هو المعبود، والمسلم ينقاد ويخضع لأوامر الله سبحانه وتعالى وحده، والله جل جلاله هو مالك كل شيء، ولم يكن الإسلام محدود المكان ولا وطني النزعة ولا مغلقاً على أهله ولا طبقياً، وإنما كان إنسانياً عاماً، واسع الأفق، يخاطب أي إنسان في أي مكان ويقيم أخوة إنسانية عامة .{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثـى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (الحجرات ـ آية 13 ) .
وكانت نظرة الإسلام للإنسان والحياة شاملة، فقد أقر الإنسان كجسم وعقل وروح، في الجسم، النوازع والغرائز ، والعقل وسيلة لتحقيق الرغبات والنوازع وتذليل العقبات التي تعترض ذلك، والروح، مركز الأمل والألم والعواطف والشعور، وكان التهذيب هو عامل التوازن بين الروحانية والمادية ، فالروحانية المهذبة هي أساس المادية المهذبة " وابتع فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا " (القصص- أية 77) وفي الأثر، إن لربك عليك حقاً ، إن لجسمك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.
وفي الإسلام، تظل علاقة الإنسان بخالقه ، علاقة قوامها التنظيم والهيمنة ، فالإنسان المسلم يسلم نفسه لبارئه وخالقه، بلا واسطة، وإنما برقابة ذاتية تنبىء عن شخصية قوية مستقلة للإنسان المسلم عبدت الله سبحانه وتعالى حق عبادته وانكبت إلى دنياها فتمتعت بحقها في الحياة كما أمر الله جل جلاله.
فلما جاء الإسلام وننشر نوره عن هذه الممالك الشرقية، زاد هذه الروح وقواها، وعمل على توحيدها بين أفراد الدولة الإسلامية مهما اختلفت أجناسهم وأنواعهم. وهكذا نجح الإسلام بوصفه عقيدة دينية ومنهجاً للحياة وقوة موحدة، في إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق، تقوم على الحرية والمساواة والتسامح، وتعمل على إزالة الحواجز السياسية بين البلاد المختلفة الممتدة في القارات الثلاث، وتعطيها شكلاً موحداً . فكان المسلم يجد نفسه في كل هذه الأماكن: نفس الدين ونفس الصلوات والقوانين، حتى أنه كان يشعر دائمإً بأنه في وطنه خلال رحلاته البعيدة أو أثناء عملياته التجارية خارج بلاده. فالإسلام، كما يقول البعض ، كان بمثابة جواز سفر فوق العادة، يضمن لصاحـبه حرية التنقل والمرور، بل وحسن الاستقبال في كل مكان يحل فيه.
ويلاحظ في هذا الصدد أن المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط ، لم يكن- كما هو الحال اليوم- ينقسم إلى قوميات، بل كانت هناك طبقات أفقية على طول امتداد عالم الإسلام، فهناك طبقات العلماء والتجار والمتصوفة والجنود... الخ. وكان أفراد كل طبقة يتعاطفون فيما بينهم مهما بعدت المسافات واختلفت الجنسيات. فالرحالة المغربي "ابن بطوطة " يصرح بأنه استطاع بخرقة التصوف أن يجوب بلاد العالم الإسلامي، وأن يجد كل ترحيب ومساعدة في الأماكن التي مر بها. ود هذا يدل على وجود ما يصح أن يسمى أمة واحدة ، لها أدب واحد ، وثقافة واحدة ، وعلم مشترك.
فالعالم الإسلامي إذن يمثل وحدة تاريخية فريدة من نوعها مهما باعدت بين أجزاء هذا العالم المسافات، وفرقت بين أطرافه المذاهب والسياسات، فالفرقة السياسية بين دوله وحكوماته لم تحل دون لقائها على الصعيدين الشعبي والحضاري. ذلكم بأن الإيمان بالإسلام كنظام متكامل للأخلاق والمدنية والاجتماع والاقتصاد والسياسة يظل صمام ا لأمان بين المسلمين أينما كانوا، فهو الذي يقيم قوإعد حضارة الإسلام ويميز عناصر الحضارة الصالحة عن عناصرها الرديئة، يدافع عن نظامه ويجذر أصوله، وعلي هذا الإيمان تتوقف أخلاق الأفراد ووحدة الأمة، وحفظ الوجود الحضاري للامة الإسلامية، فالمبادىء التي طرحها الإسلام قادرة على فرز عناصر قوية تتصدى لجميع الأنظمة السياسية والأفكار الفلسفية التي تحاول النيل من الإسلام. ويصمد أمام زحف النظريات المادية والرأسمالية والشيوعية في حين أن الديانات الأخرى لم تصمد أمام زحف تلك النظريات فشاعت النظريات وانتشرت بين أممها وشعوبها.
الحضارة الإسلامية، مثل غيرها من الحضارات، لم تنشأ من فراغ ، ولم تظهر من العدم أو من تلقاء نفسها، بل سبقتها حضارات عريقة أخرى في هذه المنطقة من العالم، تواصلت معها وأثرت فيها. ففي القرن الرابع قبل الميلاد، قام الاسكندر المقدوني (356- 323 ق. م) بأول محاولة لإقامة دولة واحدة تشمل أقاليم من أوروبا وأسيا وأفريقيا، وتمتد من مقدونيا إلى الهند. ولم يكتف الاسكندر بهذا التوحيد السياسي، بل اتخذ وسائل أخرى لتوحيد العناصر البشرية في هذه المنطقة من العالم، مثل احترام جميع أديانها، والصلاة ني مختلف معابدها، وتأسيس عدد كبير من المدن الجديدة التي عرفت باسم "الإسكندريات " نسبة لاسمه، ويقدر عددها بنحو 27 مدينة، بعضها في بلخ وصغديانا ، وفي أسفل القوقاز، وفي مصر... الخ. وكان هدفه من وراء ذلك أن تختلط في هذه المدن عناصر بشرية من السكان الأصليين مع الجاليات اليونانية ، لينشأ من هذا الاختلاط ثقافة جديدة، تستمد أصولها من الحضارات السابقة
وقد حرص الاسكندر الأكبر على تطبيق هذه المبادرة على نفسه، ليكون قدوة لغيره حين تزوج الأميرة روكسانا الفارسية ، وأمر قواده ان يفعلوا مثله.
وعلى الرغم من أن دولة الاسكندر لم تلق نجاحاً بعد وفاته، إذ تفككت إلى ممالك متفرقة بين قواده ، إلا أن الحركة العلمية التي كان ينشدها استمرت وازدهرت من بعـده، وهي التي اشتهرت باسم "العصر الهلنستي " ، تمييزاً لها عن العصر الهليني الذي ساد اليونان قبل عصر الاسكندر. ومن أشهر المراكز الهلنستية الجديدة، مدينة الإسكندرية المصرية بمكتبتها ومدرستها العلمية التي كانت مزيجا من كل الحضارات السابقة، وخصوصا الحضارة المصرية القديمة.
وفي شمال الهند في حوض نهر السند ، حاول الملك الهندي أشوكا Ashoka في القرن الثالث قبل الميلاد، أن يجعل من البوذية دينا عالميا، وبشر به ملوك الأرض ولا سيما في بلاد الإغريق والدول الهلنستية ، لإقامة وحدة عالمية. وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من اليونانيين اعتنقوا البوذية، إلا أن محاولته لم تلق الاستمرار والنجاح، وبقيت البوذية قاصرة على أقاليمها في الهـند والشرق الآسيوي .
ومحاولة الملك أشوكا في الهند تذكرنا بمحاولة شبيهة رائدة ، سبقتها بوقت طويل على يد فرعون مصر الملك أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد (الأسرة 18)، عندما بشر في نشيده المشهور بإله العالم "أتون " الذي يهتم بكل مظاهر الطبيعة ، إنسانها وحيوانها ونباتها، وكأنما أراد بذلك إقامة وحدة عالمية روحية، تربط على الأقل بين أجزاء مملكته الممتدة من الشام شمالاً إلى النوبة جنوباً .
وما يقال عن مصر والهند واليونان ، يقال أيضاً عن الحضارة الفارسية ذات التراث الآسيوي العريق ، والتقاليد الملكية القديمة ، والنظم الإدارية المتطورة، إلى جانب المراكز الهلينية المنتشرة في أنحائها مثل بلخ ، ومرو ، وجنديسابور... وغيرها. لقد بد أ الإيرانيون حياتهم الدينية مثل كثير من شعوب العالم ، بعبادة قوى الطبيعة ، ثم ظهرت "الزرادشتية" على يد مؤسسمها زرادشت zoroustre في القرن السابع قبل الميلاد ، منادية بأن الوجود قائم على مبدأين أساسيين هما: الخير (أهورا ويسمى يزدان) ، والشر (أهرمن) ، أو النور والظلام. وبما أن النور مصدره الشمس، والشمس من نار، لهذا لعبت النار دوراً هاماً في هذه العقيدة ، باعتبارها مصدر الإشراق والنور والضياء، فقدسوها وعبدوها، وصار لهم كتاب مقدس يعرف "بالأفستا" أي المعرفة. غير أن الزرادشتية لم تلبث مع مرور الزمن بسبب سيطرتها وتعصبها، أن ووجهت بحركات دينية مضادة مثل "المانوية، على يد "ماني Manes" في القرن الثالث الميلاري، وأتباعها لهم نزعة صوفية هدامة، تحض الناس على التقشف وعدم الزواج والإنتاج، ويرون ان الخير في العدم المطلق. ولهذا حوربت وبقيت دعوة سر ية.
وإذا كانت "المانوية" 3 دعت إلى الزهد والبعد عن النساء، فإن ديناً آخر لم يلبث أن ظهر في ايران وهو "المزدكية" على يد صاحبه "مزدك " الذي دعا الناس إلى حل مشكلاتهم ونبذ خلافاتهم بجعل الحق في الأموال والنساء مشاعاً بينهم. وقد نجح سعيه بين العوام والمحرومين، ولكته مات قتيلاً في منتصف القرن السادس الميلادي ، وبقيت دعوته سرية مثل "المانوية" وكل هذا يدل على حالة الاضطراب والفوضى الدينية فى إيران قبيل الإسلام.
وهكذا نرى مما تقدم، أنه كانت هناك في هذه المنطقة من العالم، حضارات عريقة نشأت قبل الإسلام، وسادتها روابط وصلات مختلفة، بل كانت هناك محاولات لتوحيد بعض مكوناتها لم يكتب لها النجاح، ولكنها مع ذلك صبغت هذه المنطقة بروح جديدة وهي الروح الشرقية التي أخضعت الفلسفة اليونانية لما دخلت بلادها، فأسبغت عليها ثوباً من روحانياتها وإلهامها ، وهي الروح التي جعلت علماء التاريخ والاجتماع يدركون خصائص مشتركة بين الشرق، تخالف تلك التي للغرب، روح ورثها الشرقي من أجيال ، وساعدت على تكوينها بيئاتهم الطبيعية والاجتماعية، وجعلتهم يتذوقون غير ما يتذوقه الغربي، ويدركون الأشياء على غير النمط الغربي، كما جعلت لهم مدنيات تحالف من وجوه كثيرة المدنيات الغربية . جاءت الأديان المختلفة من: بوذية وزرادشتية ويهودية ونصرانية، فصبغت هذه الروح صبغة خاصة، صبغة لا مادية، تؤمن بإله فوق العالم، وترجو جنة، وتخاف ناراً، وترى أن وراء هذه السعادة الدنيوية، والشهوات الجسمية، سعادة أخرى روحية.
جاء الإسلام كمنهج حياة ، يرسم الطريق وينير سبل الهداية. منه انبثق الحل العلمي والدائم لمشاكل الإنسانية التي كانت تشكو من الفراغ الديني والفكري والسياسي والثقافي ، فالفكر اليوناني- الإغريقي لم يؤمن إلا بالمحسوس وافتتن بلذائذ الدنيا ومغريات الحياة وغلبت عليه النزعة الإقليمية الضيقة باعتماده على المنهج الاستنباطي أو القياس القائم أساساً على النظر الفلسفي والفكري المادي دون الالتفات لمنهج التجربة فكأن الفكر اليوناني اقتصر على المادية ثقافة وعلماً وفلسفةً وشعراً ودنيا.
والفكر الروماني مجد القوة العسكرية إلى حد العبادة والتقديس، وتميز بالنظرة المادية المحضة إلى الحياة، فكانت محصلته ، غلوا في تقدير الحياة وشكاً في الدين وضعفاً في اليقين واضطراباً في العقيدة ، فتعددت الآلهة، وترتب على ذلك أحداث البغضاء بين الله والإنسان، وما الحياة عندهم إلا فرصة للتمتع، ترف في العيش وانتهاب للذات. والفكر الفارسي قبل الإسلام اعتمد تقوية السلطان والقوة الجسدية وقال بجريان الدم الآلهي في عروق أكاسرته وأشاع بين الناس نظرية التفاوت الطبقي.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في الصين والهند، كان الاختلال يبدو واضحا فيما يتصل بالجوانب النظرية أو الجوانب العملية من حياة الإنسان فيطغى أحدهما على الآخر، إذ يغرق أحياناً في الروحانيات أو يطغى في الماديات، فلا توازن ولا انسجام.
وبنزول الإسلام اتضحت معالم الحياة الدنيوية والأخروية تمام الوضوح فبالألوهية والربوبية ، تحققت العدالة والمساواة والكرامة والحرية للإنسانية، فالله سبحانه وتعالى وحده هو المعبود، والمسلم ينقاد ويخضع لأوامر الله سبحانه وتعالى وحده، والله جل جلاله هو مالك كل شيء، ولم يكن الإسلام محدود المكان ولا وطني النزعة ولا مغلقاً على أهله ولا طبقياً، وإنما كان إنسانياً عاماً، واسع الأفق، يخاطب أي إنسان في أي مكان ويقيم أخوة إنسانية عامة .{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثـى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (الحجرات ـ آية 13 ) .
وكانت نظرة الإسلام للإنسان والحياة شاملة، فقد أقر الإنسان كجسم وعقل وروح، في الجسم، النوازع والغرائز ، والعقل وسيلة لتحقيق الرغبات والنوازع وتذليل العقبات التي تعترض ذلك، والروح، مركز الأمل والألم والعواطف والشعور، وكان التهذيب هو عامل التوازن بين الروحانية والمادية ، فالروحانية المهذبة هي أساس المادية المهذبة " وابتع فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا " (القصص- أية 77) وفي الأثر، إن لربك عليك حقاً ، إن لجسمك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.
وفي الإسلام، تظل علاقة الإنسان بخالقه ، علاقة قوامها التنظيم والهيمنة ، فالإنسان المسلم يسلم نفسه لبارئه وخالقه، بلا واسطة، وإنما برقابة ذاتية تنبىء عن شخصية قوية مستقلة للإنسان المسلم عبدت الله سبحانه وتعالى حق عبادته وانكبت إلى دنياها فتمتعت بحقها في الحياة كما أمر الله جل جلاله.
فلما جاء الإسلام وننشر نوره عن هذه الممالك الشرقية، زاد هذه الروح وقواها، وعمل على توحيدها بين أفراد الدولة الإسلامية مهما اختلفت أجناسهم وأنواعهم. وهكذا نجح الإسلام بوصفه عقيدة دينية ومنهجاً للحياة وقوة موحدة، في إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق، تقوم على الحرية والمساواة والتسامح، وتعمل على إزالة الحواجز السياسية بين البلاد المختلفة الممتدة في القارات الثلاث، وتعطيها شكلاً موحداً . فكان المسلم يجد نفسه في كل هذه الأماكن: نفس الدين ونفس الصلوات والقوانين، حتى أنه كان يشعر دائمإً بأنه في وطنه خلال رحلاته البعيدة أو أثناء عملياته التجارية خارج بلاده. فالإسلام، كما يقول البعض ، كان بمثابة جواز سفر فوق العادة، يضمن لصاحـبه حرية التنقل والمرور، بل وحسن الاستقبال في كل مكان يحل فيه.
ويلاحظ في هذا الصدد أن المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط ، لم يكن- كما هو الحال اليوم- ينقسم إلى قوميات، بل كانت هناك طبقات أفقية على طول امتداد عالم الإسلام، فهناك طبقات العلماء والتجار والمتصوفة والجنود... الخ. وكان أفراد كل طبقة يتعاطفون فيما بينهم مهما بعدت المسافات واختلفت الجنسيات. فالرحالة المغربي "ابن بطوطة " يصرح بأنه استطاع بخرقة التصوف أن يجوب بلاد العالم الإسلامي، وأن يجد كل ترحيب ومساعدة في الأماكن التي مر بها. ود هذا يدل على وجود ما يصح أن يسمى أمة واحدة ، لها أدب واحد ، وثقافة واحدة ، وعلم مشترك.
فالعالم الإسلامي إذن يمثل وحدة تاريخية فريدة من نوعها مهما باعدت بين أجزاء هذا العالم المسافات، وفرقت بين أطرافه المذاهب والسياسات، فالفرقة السياسية بين دوله وحكوماته لم تحل دون لقائها على الصعيدين الشعبي والحضاري. ذلكم بأن الإيمان بالإسلام كنظام متكامل للأخلاق والمدنية والاجتماع والاقتصاد والسياسة يظل صمام ا لأمان بين المسلمين أينما كانوا، فهو الذي يقيم قوإعد حضارة الإسلام ويميز عناصر الحضارة الصالحة عن عناصرها الرديئة، يدافع عن نظامه ويجذر أصوله، وعلي هذا الإيمان تتوقف أخلاق الأفراد ووحدة الأمة، وحفظ الوجود الحضاري للامة الإسلامية، فالمبادىء التي طرحها الإسلام قادرة على فرز عناصر قوية تتصدى لجميع الأنظمة السياسية والأفكار الفلسفية التي تحاول النيل من الإسلام. ويصمد أمام زحف النظريات المادية والرأسمالية والشيوعية في حين أن الديانات الأخرى لم تصمد أمام زحف تلك النظريات فشاعت النظريات وانتشرت بين أممها وشعوبها.
الحضارة الإسلامية، مثل غيرها من الحضارات، لم تنشأ من فراغ ، ولم تظهر من العدم أو من تلقاء نفسها، بل سبقتها حضارات عريقة أخرى في هذه المنطقة من العالم، تواصلت معها وأثرت فيها. ففي القرن الرابع قبل الميلاد، قام الاسكندر المقدوني (356- 323 ق. م) بأول محاولة لإقامة دولة واحدة تشمل أقاليم من أوروبا وأسيا وأفريقيا، وتمتد من مقدونيا إلى الهند. ولم يكتف الاسكندر بهذا التوحيد السياسي، بل اتخذ وسائل أخرى لتوحيد العناصر البشرية في هذه المنطقة من العالم، مثل احترام جميع أديانها، والصلاة ني مختلف معابدها، وتأسيس عدد كبير من المدن الجديدة التي عرفت باسم "الإسكندريات " نسبة لاسمه، ويقدر عددها بنحو 27 مدينة، بعضها في بلخ وصغديانا ، وفي أسفل القوقاز، وفي مصر... الخ. وكان هدفه من وراء ذلك أن تختلط في هذه المدن عناصر بشرية من السكان الأصليين مع الجاليات اليونانية ، لينشأ من هذا الاختلاط ثقافة جديدة، تستمد أصولها من الحضارات السابقة