mohamadamin
حكيم المنتدى
فرُبّ أعجمي يسمع عن إعجاز القرآن فيتساءل: وأنى يعجزني؟ إنما عجزي عنه لمكان العجمة واختلاف اللسان؟
الجواب:
المجيب: اللجنة العلمية.
جمع الجواب ورتّبه: أ.هشام ابن الزبير.
منهج الرد: سنفتتح الرد باسم الله، فالنظر في أصل الشبهة، كي نحتج بما قرره على ما أنكره، ولنتوصل بما أظهره إلى ما أضمره، ثم نثني بما يفتح الله به من وجوه الرد، لبيان الحق وإزالة الإلتباس، ونمهد لذلك بجواب مجمل بخصوص الإعجاز، نخلص منه إلى وجوه من الرد مفصلة، وفق تدرج يتحرى حال الأعجمي مع القرآن.
تفصيل الشبهة وبيان أصلها: سؤالكم انطوى على شبهة، لا تنكر إعجاز القرآن جملة، بل ترمي إلى قصره على العرب، كأنكم سألتم: ما وجه دخول الأعجمي في خطاب التحدي بالقرآن، وهو مفتقر لملكة اللسان العربي؟ وكيف تكون معجزة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، من جنس ما ينفرد خاصة الناس بعلمه، ويقصر عامتهم عن إدراكه؟ فلو دققنا النظر في الشبهة، لألفيناها تتوهم التعارض بين شمول رسالة القرآن للعالمين، وبين إنزاله بلسان عربي مبين.
الجواب المجمل حول ثبوت الإعجاز وتندرج تحته مسائل:
أولها: النقل المتواتر حجة ملزمة للعرب والعجم:
بلغنا القرآن وخبر إعجازه بالنقل المتواتر، ومُبلِّغ القرآن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يؤثر عنه بيت شعر ولا ثمرة فكر، حتى إذا بلغ الأربعين خرج على قومه –وفيهم أئمة البلغاء- بكلام لم يعهدوا له مثيلا في حلاوته وطلاوته وهيبته، يتألف من نفس حروفهم، وهو يقول: هذا كلام الله، وإني رسول الله! فما زال يقرعهم به ويتحداهم –والخلق أجمعين- أن يأتوا بمثله، حتى تحداهم أن يأتوا بسورة "من مثله"، فلو أن أحدهم جاء بكلام يكافئ سورة الكوثر في مقدارها، وفيه جنس المماثلة و مطلقها (النبأ العظيم بتصرف)، بحيث لو وضع بين سور القرآن لم يميزه البلغاء عنها، فقد أبطل إعجاز القرآن وأسقط حجته، فلما قعدوا عن معارضته، مع توافر الدواعي واستحكام العداوة، سمى العلماء ذلك إعجازًا، وههنا ينتهي القدر المشترك بيينا في أمر القرآن، ثم تحول العجمة بينكم وبين الوقوف على حقيقة إعجازه، فكيف توهمتم أن عجمة اللسان قد أسقطت إعجازه الذي ثبت بالنقل المتواتر؟
وثانيها: بلوغ القرآن مناط إقامة الحجة:
أما وَقد بلغكم ذلك كله، فاعلموا أن قيام الحجة على الخلق منوط بمجرد بلوغ خبر تنزيل هذا الكتاب، وليس بالوقوف على إعجازه، والدليل من الكتاب: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} الأنعام: 19، فهذا القرآن نذير لمن بلغه من العرب والعجم، ومن السنة:" والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار".(مسلم: 153)، فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي" يعم كل من سمع به من أهل الكتاب عربيا كان أو عجميا.
وثالثها: العبرة بفهم رسالة القرآن إجمالا:
مدار القرآن على التوحيد، فمن فهم حقيقته، ودان به، وتبرأ من الشرك، فقد دخل في الإسلام، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من يأتيه مبايعا بالإسلام، بنطق الشهادتين، ولم يشترط فهم حقائق القرآن أو إدراك إعجازه بالتفصيل، ومن المعلوم أن الصحابة كانوا يدخلون في الإسلام على بصيرة، فدل ذلك على أنهم علموا علما ضروريا أن هذا القرآن معجز، ولم يلزمهم الرجوع إلى غيرهم من الفصحاء لإثبات إعجازه، فإن البليغ إذا سمع القرآن أيقن بعجزه عن مثله، وعلم بذلك عجز غيره عنه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر سفراءه بدعوة الناس إلى دين الحق إجمالا، فلما بعث معاذ بن جبل إلى أهل اليمن، أوصاه أن يأمرهم بالتوحيد وأداء الفرائض، وعلى هذا الإجمال في دعوة الناس إلى الإسلام وبيان أصوله كانت رسائله صلى الله عليه وسلم لملوك العجم.
ورابعها: جواب القرآن: أأعجمي وعربي؟
فقد أخبر الله سبحانه بأن كفر المشركين بهذا القرآن العربي المبين كفر عناد وتعنت فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فصلت: 44، فطلب إرسال رسول عربي بقرآن أعجمي ظاهر البطلان، وطلب إرساله بكل الألسن بحجة أنه رسالة للعالمين أبطل منه لأسباب شتى نذكر منها:
أولا: الترجمة تغني عن ذلك، ولا زالت الأمم تترجم علوم الأنبياء والحكماء، ونحن لا نكلف العلماء أوالأدباء بتأليف مصنفاتهم بجميع اللغات، بل نلجأ لترجمتها عند الحاجة وهذا ظاهر.
ثانيا: اختلاف الألسن في الفصاحة والبلاغة والوفاء بحق المعاني، يلزم منه تفاوتها في قدرتها على حمل معاني القرآن، فإذا تقرر ذلك، لزم تفضيل أحدها واختياره دون غيره، وقد أجمع المنصفون من أهل اللغة على فضل العربية، وعليه فإن اصطفاءها جاء على مقتضى الحكمة الربانية قال الله تعالى: {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} فصلت: 3.
ثالثا: اقتضت حكمة الله أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما يحسنه قومه، فتحدى العرب البلغاء بالقرآن، فأين مثل بلاغتهم عند بعض أمم الأرض فضلا عن سائرها، فلو نزل الكتاب على جهة التحدي بسائر اللغات، لوقع تحدي أكثر الأمم بشيء لا تحسنه وهذا يخالف الحكمة.
وخامسها: لا تعارض بين وقوع المعرب في القرآن وبين إنزاله بلسان عربي:
ولا يُعترض على ما أسلفنا بوجود المعرب في القرآن، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أن أكثر الأئمة أنكر ذلك، وذهب آخرون إلى وقوع كلمات معربة يسيرة في القرآن، وأنها من جنس ما توافقت فيه اللغات، ونقل السيوطي في المهذب عن بعضهم أنّه: "إشارة إلى حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء، فلابد أن تقع فيه الاشارة إلى نوع اللغات والألسن." اهـ، وعلى كلا القولين فلا تعارض بين وقوع المعرب في القرآن، وإنزاله باللسان العربي.
وسادسها: تعلق المستشرقين ببعض الألفاظ المشتركة بين اللغات حجة عليهم:
تلقف كثير من المستشرقين نظرية شفالي حول الأصول السريانية المزعومة لبعض الكلمات القرآنية، ليبنوا عليها أحكاما متعسفة، وقد صدر حديثا كتاب للمستشرق الألماني لوكسنبرغ على نفس الشاكلة أسماه "قراءة آرامية سريانية للقرآن ـ مساهمة في تفسير لغة القرآن "، وقد ادعى في كتابه أن كثيرا من غريب القرآن لا يتأتى فهمه إلا بإرجاعه إلى أصوله الآرامية والسريانية، بل ادعى ان النحاة أصّلوا للغة عربية تختلف عن التي أنزل بها القرآن، وخلاصة كلامه أن مقارنة بعض غريب القرآن بالآرامية والسريانية يجلي معناه أكثر من الرجوع إلى سيبويه ونحوه .... وهذا السيل من الكلام المتهافت يحتاج فصلا كاملا لدحضه، وليس هذا غرضنا هنا من إيراده، إنما نشير باقتضاب إلى أننا إن سلمنا بوقوع مثل هذه الألفاظ المشتركة بين اللغات في القرآن العربي، الذي يوافقنا المستشرقون أنه في أعلى درجات البلاغة، فيلزم منه أن المتكلم به قد أحاط بهذه الألسنة، وعلم دقائق ما اشتركت فيه، وخصائص كل منها وما تميزت به، فاصطفى العربية من بينها ليقع بها التحدي، ونحن نقر بهذا كله، ونقول إن القرآن كلام خالق الألسنة على اختلافها.
وسابعها: جنس الإعجاز مشترك بين الأمم:
جنس الإعجاز معروف عند العرب والعجم، فهم يشتركون في إدراك معناه، وإطلاق التحدي بهذا القرآن ليشمل الثقلين، من لدن تنزيله إلى قيام الساعة، يدل على أنه من جنس آيات الأنبياء، فأن يأتي أميّ لا يقرأ ولا يكتب، يتيم ليس له والدٌ يطوف به على المعلمين والبلدان، فقيرٌ لا وقت له لسفر التعلم عند الرهبان، من أمةٍ أميةٍ عرفت بالنبوغ في الشعر، ومازالت معلقات شعرائها نجمًا في البلاغة ودقة الوصف، ويأتي هذا الرجل الصادق الأمين يتحداهم ببلاغة الكتاب الذي أنزل عليه برهانًا لنبوته، ويتحدى الإنس والجن، إنّ هذا التحدي وهذه الثقة في حدّ ذاتها كانت آيةً لبعض الأنبياء، فأنى لمن دونهم أن يقع منهم مثل هذه الدعوى العظيمة، ثم يتخلف الناس أفرادا وأمما عن إبطالها عبر القرون والأعصار، إذن يكفي الأعجمي فهم أصل الإعجاز وإمكان وقوعه ليدرك معنى الإعجاز القرآني إجمالا.
الجواب المفصل ويندرج تحته حوالي عشرين وجها:
الوجه الأول: إدراك الإعجاز يحصل للخاصة تفصيلا ولمن دونهم إجمالا:
يتفاوت الناس في إدراك اعجاز القرآن تبعا لتفاوت عقولهم، فإن فيهم البليد والذكي، وعليه فإن توهمكم أن عدم إدراك الأعجمي للحجة في هذا الكتاب، دليلٌ على انتفاء حجته، كمثل توهم الجاهل أن إحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله، أمر يقدر عليه من حذق صنعة الطب، فإن توهمه لا يقدح في وقوع الإعجاز وقد أقر به الأطباء، وإنما سبيل من قصرت به ملكاته عن النهل من معين هذا الكتاب، أن يرجع إلى أهل الإختصاص، فإجماعهم حجة على غيرهم، إذ يدركون الإعجاز عن ذوق وممارسة، ولا يدركه العامة إلا تبعا لهم، ويجرون في ذلك مجراهم.
الوجه الثاني: اصطفاء العرب لحمل الرسالة:
روى مسلم من حديث واثلة بن الأسقع :"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ "، ولما كان القرآن آخر الكتب المنزلة، والعرب آخر الأمم عهدا بالنبوة والرسالة، جرى اصطفاؤهم لحمل أمانة الوحي، وإنزالُ الكتاب بلسانهم لتقوم عليهم الحجة أولا، وليبلغوا من خلفهم من الأمم فتقوم عليهم الحجة تبعا لهم، ولا مناص لمن أراد الوقوف على دقائق الوحي بغير واسطة، من تعلم اللسان العربي.
الوجه الثالث: إقرار العرب بالعجز عن معارضة القرآن ملزم لغيرهم:
قولكم: كيف يكون القرآن معجزا للأعجمي؟ يفهم منه إقراركم بأن العربي قادر على إدراك معنى الإعجاز القرآني، فنقول أَمَا وقد بلغكم أن العرب قد قعدوا عن معارضة القرآن بما يسقط دعوى إعجازه، فأنتم أعجز منهم كما لم يخف عليكم، فعلى هذا القياس كان إقرار العرب على أنفسهم بالعجز عن الإتيان بمثل هذا القرآن ناطقا بعجز العجم من باب أولى.
الوجه الرابع: ترك بلغاء العرب معارضة القرآن مع بقاء قدرتهم:
الحق أن القرآن معجز بذاته، لا بشيء خارج عنه، فمن أعجب العجائب أن يتحدى القرآن العرب بالإتيان بكلام من مثله، وأن يتكرر هذا التحدي إلى أن يبلغ مداه في قوله تعالى:{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} البقرة: 23، ثم لا يتصدى لمعارضته أحد من بلغائهم مع بقاء قدرتهم، ولعل هذا الأمر العجيب هو سبب القول المعروف بالصِّرْفة، فنقول –مع شيخ الإسلام- على سبيل التنزل، إن قعود العرب عن معارضة القرآن يدل على أنه من خوارق العادات، سواء كان مرد ذلك إلى صرفهم عنه، أو إلى عجزهم، فالإعجاز واقع في نفس الأمر، وهذا القول على ضعفه كاف لإبطال الشبهة المذكورة. (كتاب النبوات بتصرف).
شهادة الوليد بن المغيرة: لما استُفتي الوليد بن المغيرة في أمر القرآن قال كلمته السائرة: "وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ولا بشاعر الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته." (رواه الحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس)، هذه شهادة بليغ يتكلم من ذروة البلاغة البشرية، ليشهد بإعجاز البلاغة القرآنية، ولا ينبئك مثل خبير، هذا رائد قوم علقوا فرائد القصائد على الكعبة، فلم يفحمهم في مضمار البلاغة إلا كلام رب الكعبة.
شهادة أبي العلاء المعري: "وأجمع ملحدٌ ومهتدٍ، وناكبٌ عن المحجة ومقتدٍ، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهرَ بالإعجاز، ولَقِيَ عدوَّه بالإرجاز، ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز من سهل وحزون، ولا شاكَل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب، وجاء كالشمس اللائحة، نورا لِلمُسِرَّة والبائحة، لو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المُعْصِمَة لَرَاقَ الفادرة والصَّدَع: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلمٍ يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق."(رسالة الغفران). هذا أبو العلاء، وهو من أفذاذ البلغاء، ومن فحول الأدباء، يشهد أن إعجاز القرآن محل إجماع بين أهل الهداية وأهل الإلحاد.
الوجه الخامس: معارضة المتنبئين للقرآن إثبات لإعجازه:
فإن قلتم بل وجد من عارض القرآن بشيء يماثله ولم ينقل إلينا؟ فنقول لو عورض بشيء يدانيه ويساميه، لنقل لتوافر الدواعي لذلك، ولو نقل لبلغنا، فلما لم يبلغنا من ذلك شيء، بقينا على الأصل وهو وقوع الإعجاز، ولا يُحتجّ بما نقل عن المتنبئين قديما وحديثا، من محاولات لمعارضة القرآن، لقصورها البين عن مرتبة البلاغة البشرية، فضلا عن البلاغة القرآنية.
الوجه السادس: محاولة بعض العجم معارضة القرآن إثبات لإعجازه:
كما لا يلتفت إلى محاولات بعض العجم في زماننا معارضة القرآن، فهؤلاء جمعوا قصورهم عن مرتبة البلاغة، إلى عجمة اللسان والقلم فقامت عليهم الحجة بعجزهم عن معارضة القرآن تفصيلا، بعدما قامت عليهم قبل ذلك إجمالا.
الوجه السابع: جنس التفاوت في إدراك إعجاز القرآن موجود في العرب والعجم:
ثم هل بلغكم أن العرب زمان البعثة كانوا على درجة سواء في ملكاتهم البلاغية؟ لا شك أنهم كانوا متفاوتين في ذلك تفاوتا عظيما، ولم يكونوا جميعهم في بلاغة حسان والخنساء، فالناس في أمر الإعجاز ثلاثة: أعجمي, وعربي كالأعجمي وعربي متمكن من البلاغة والبيان (الباقلاني: إعجاز القرآن). فيلزم من هذا التصنيف وجود جنس التفاوت في هذا الباب في العرب وفي غيرهم.
الوجه الثامن: العجم أنفسهم يتفاوتون في تمكنهم من اللسان العربي:
العجم ليسوا سواء في جهلهم باللسان العربي، فليس كل عجمي أعجميا، بل قد يكون منهم من هو أفصح وأبلغ من أوساط العرب، وهم مع ذلك عاجزون عن مجاراة البلاغة القرآنية، فعجز هؤلاء يثبت عجز من دونهم.
الوجه التاسع: جنس البلاغة مشترك بين الأمم:
ولو قلتم: كيف يكون الكلام البليغ معجزا، ولكل بليغ أسلوبه الذي لا يجارى؟ قلنا إن جنس البلاغة معروف عند العرب والعجم، فإذا علم العجم إجمالا أن القرآن تحدى بلغاء العرب فأعجزهم، وتواتر الخبر بذلك، فهذا كاف في وقوع الإعجاز، ثم إن المعارضات الأدبية جنس معروف، لم يزل البلغاء يتبارون في مضماره إلى اليوم، ولا يعرف أثر أدبي واحد عصيّ عن المعارضة والنقد والاستدراك.
شبهة جاهل بالبلاغة:
وإن قلتم: هذا كلام مفهوم فكيف يعجز الناس؟ قلنا: هذه شبهة جاهل بحقيقة البلاغة، وفي مثل هذا قال ابن المقفع: "البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها"، هذا عن البلاغة البشرية، وهذا ظن الجاهل بها، فإذا كان أساطين البيان قد أذعنوا لبلاغة القرآن، فلأنهم تبينوا من إعجازه ما خفي على من دونهم، فإن قلتم لا زالت البلاغة في العرب والعجم فما وجه تفضيل القرآن على البلاغة البشرية؟ فنجيب أن هذا باب واسع، وحسبنا أن نقول مع الشيخ دراز إن: "القصد في اللفظ" مع "الوفاء بحق المعنى" بلا تقتير ولا إسراف نهايتان تقصر عنهما همم البلغاء, وكل من رام الجمع بينهما كان كمن يروم العدل بين ضرتين دون أن يميل إلى إحداهما. ومن شاء أن يرى النهايتين مجتمعتين فليقرأ القرآن. (النبأ العظيم بتصرف).
الوجه العاشر: بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم على جلالتها ليست معجزة:
النبي صلى الله عليه وسلم كان له حديثه الذي ينسب إليه، وهو أفصح العرب بشهادة بلغائهم، لكن كلامه ليس معجزا، بل قد يلتبس بغيره، وقد يصعب على غير أهل الصنعة الحديثية تمييز المدرج من كلام الرواة من كلامه، فهل يلتبس كلام الله بكلام غيره؟ إن الآية من القرآن لو وضعت وسط كلام بعض البلغاء لأخبرت عن نفسها، ولدلت بنورها على معدنها، ولأشرقت كما يشرق فص الماس لأنها من كلام رب الناس، و المنصف يقر أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتبس أبدا بالقرآن، فإذا فهم الأعجمي هذا الوجه، كان سببا آخر لإدراك حقيقة الإعجاز القرآني.
الوجه الحادي عشر: الإعجاز القرآني لا ينحصر في البلاغة:
يبدو أن السؤال يفترض أن إعجاز القرآن في بلاغته، وهذا خلاف الواقع، فإنه قد ذكر العلماء وجوها من إعجاز القرآن، منها نمطه الفريد، ونظمه البديع، وبلاغته الباهرة، وإخباره بالغيوب، واشتماله على العلوم المتنوعة، والحكم البالغة، والحجج الدامغة، وخلوه من التناقض وبراءته من الإختلاف، وكل من ذهب إلى أن إعجاز القرآن في بلاغته، إنما أراد أنها وجه يشمل القرآن كله، وأن الوجوه الأخرى لا توجد إلا في بعض آيه.
الوجه الثاني عشر: يمكن للأعجمي إدراك إعجاز المعاني:
البلاغة تشمل الألفاظ والمعاني جميعا، قال الجرجاني: "وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني؟ وهل هي إلا خدم لها ومصرفة على حكمها؟"(دلائل الإعجاز)، وفي كلمة الوليد بن المغيرة وصف للقرآن بالحلاوة والطلاوة والإثمار والإغداق، وكلها أوصاف تعم الألفاظ والمعاني، فإن فات الأعجمي إدراك بلاغة الألفاظ، فعليه أن يبذل وسعه في إدراك طرف من إعجاز معانيه بسؤال أهل العلم ومطالعة ترجمات معانيه.
الوجه الثالث عشر: التأثر بسماع القرآن:
أول ما يقرع الأذن تأليف القرآن الصوتي، فلو نأيت عن قارئ متقن بحيث لاتسمع سوى تناسق الحركات والسكنات، والمدود الغنات، والوقوف والسكتات، فإنك ستسمع جرسًا ونسقًا عجيبا فريدا يسترعي سمعك، ويجذبك، ولا تمله، فهو متجدد دوما، لا تمجه الأذن ولا ينكره الذوق أبدا. (النبأ العظيم بتصرف). فإن فات الأعجمي فهم معاني القرآن فلن يفوته سماع آياته، فإن التأثر بسماع القرآن أمر مشترك بين العرب والعجم، وهاهو جعفر بن أبي طالب يقرأ سورة مريم، ويبكي النجاشي، ويبكى الأساقفة حتى اخضلت لحاهم، فإن افترضنا أن النجاشي كان يفهم العربية، فيبعد أن يكون الأساقفة كلهم كذلك، فلا يخرج الأمر عن تأثرهم بسماع القرآن أو بترجمة معانيه، أو كليهما، ويؤكده الوجه التالي:
الوجه الرابع عشر: كثير من المسلمين اليوم من العجم:
كثير من المسلمين اليوم من العجم، فهاهم أولاء ملايين الترك والأندونيسيين يتنافسون في تعلم القرآن وترتيله وسماعه، وعامتهم لا يتقنون العربية، بل إن منهم من يبكي ويخشع لمجرد طرق القرآن لسمعه، أو جريانه على لسانه، وقد سئل أحدهم عن سر بكائه وهو لا يفهم ما يقرأ، فأجاب: "قد لا يفهم عقلي، لكن قلبي يفهم"، ونحن نقول إن عجمة اللسان لا تضر من كان ذا قلب فصيح، ولا يَرِد عليه أن هذا مختص بأهل الإيمان، فإن كثيرا من كفار العجم يقرون بما لسماع القرآن من سلطان على النفوس. (نجيب الرفاعي: عجائب قراءة القرآن على الأوربيين والأمريكان).
الوجه الخامس عشر: النظر في لغة العرب والوقوف على خصائصها:
مما يحصل به إدراك إعجاز القرآن، النظر في خصائص لسان العرب من سلاسة اللفظ وخفته وعذوبته وقدرته على ترجمة ما في النفس من المعاني بأبلغ العبارات وأوضحها، وسبيل ذلك الرجوع إلى الدراسات اللغوية المعاصرة، التي تعنى بمقارنة اللغات ( Comparative Linguistic)، فإذا حصل الأعجمي طرفا من هذا العلم أيقن بعدم وجود لسان أعجمي يدنو من العربية، بحيث يتأتى فيه من وجوه الفصاحة وأساليب البيان، والثراء اللفظي والمعنوي ما يناسب أن يصلح للتحدي والإعجاز.
التنويه بإنزال القرآن بلسان عربي مبين:
امتن الله على العرب بإنزال القرآن بلسانهم في بضعة عشر موضعا من التنزيل، فلما جاء وصف القرآن بأنه عربي، مقترنا بوصفه بأنه مبين وغير ذي عوج، أيقنا أن الله نزل أكمل الكتب بأكمل الألسنة على أكمل الخلق، إذ "لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول ، أفضل كتاب بلسان مفضول"(الزمخشري: رسالة في إعجاز سورة الكوثر).
شهادات المنصفين والعلماء بتفرد اللغة العربية:
من أبلغ الشهادات التي تترجم لتفرد العربية وسموها على سائر اللغات شهادة المستشرق رنان: "العربية نفسها من أغرب الغرائب، هذه اللغة التي كانت قبلُ مجهولة، تتجلى لنا فجأة في منتهى كمالها، ومرونتها، وثرائها غير المحدود، إنها في غاية الكمال بحيث لم يطرأ عليها إلى يوم الناس هذا تغيير ذو بال، إنها لغة لا تعرف لها طفولة ولا شيخوخة، فكأننا حين علمنا عن فتوحاتها، وانتصاراتها الباهرة، قد علمنا عنها كل شيء، ولا أدري إن كنا سنجد شبيهاً لهذه اللغة التي ظهرت كاملة، دون طور عتيق، من غير تدرّج..." (إرنست رنان: تاريخ اللغات السامية).
يقول الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله: "العربية الفصحى لها ظرف خاص لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم .. ذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا، ودوّن بها التراث العربي الضخم، الذي كان محوره هو القرآن الكريم في كثيرٍ من مظاهره، وقد كفل الله الحفظ، مادام يحفظ دينه، فقال عز من قائل "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولولا أن شرفها الله عز وجل فأنزل بها كتابه، وقيض له من خلقه من يتلوه صباح مساء، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان، لولا كل هذا لأمست العربية الفصحى لغة أثرية، تسبه اللغة اللاتينية أو السنسكريتية، ولسادت اللهجات العربية المختلفة، وازدادت على مر الزمان بعدًا عن الأصل الذي انسلخت منه، هذا هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة"اهـ.
وكتب الأديب الألماني جوته في إحدى رسائله: "قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد."(جوته: رسالة إلى هاينرش شلوسر).
العربية لسان إسماعيل عليه السلام:
إنها لسان إسماعيل تعلمها من جرهم (البخاري: 3365)، وصح أنه عليه السلام أول من فتق لسانه بالعربية المبينة وهو ابن أربع عشرة سنة (صحيح الجامع: 2581)، فما أعتقها وأعرقها من لغة لا كاللغات، نطق بها الأنبياء وألهمت الشعراء وبهرت الحكماء، فلو تأملت هذه اللغة الفريدة التي خرجت من الصحراء كاملة، يحلق بها قوم بدو في سماء البلاغة الإنسانية، ثم تأملت حالهم عند نزول القرآن، وهم يرفعون إليه أبصارهم فترتد حسيرة متحيرة، لحُقّ لك أن تتساءل: أليس وجود هذه الجوهرة اليتيمة في عقد لغات البشر، إرهاصا لنزول هذا الكلام الرباني المعجز؟ إن الذي حفظ هذا اللسان، أراد أمرا فهيأ له أسبابه، فلم يشعر به الناس، إلا بعد تمام فصوله واكتمال حلقاته.
فهاهي العربية بعد كر القرون المتطاولة، لم تفقد شيئا من فتوتها ونضارتها، فأين قريناتها من زمان التنزيل؟ لقد اندثرن وبقيت هي، بل إن طرفا من علوم الأوائل لم يكن ليصلنا لولا أن خلعت عليه العربية من حللها، فبها سلم من عوادي الزمان، ومن بقائها اكتسب البقاء، فلو شاء أهل الأرض اليوم حفظ علومهم من الإندثار، لما وجدوا لها وعاء خيرا من العربية، إنها لغة قدر لها الخلود منذ اقترنت بالقرآن، فلله درها من لسان فريد، فاق ألسن أهل الأرض، فلو أن لغات العالم صهرت في بوتقة واحدة، ثم صيغ منها لسان واحد، لضاق عن حمل القرآن، الذي وسعته العربية.
وسعت كتاب الله لفظا وغاية*****وما ضقت عن آي به وعظات.
الوجه السادس عشر: الترجمة التفسيرية:
أنزل القرآن على العرب بلسانهم لتقوم عليهم الحجة وليبلغوه لمن خلفهم، قال شيخ الإسلام: "فكذلك بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه وغير قومه، ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم، ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم إما بلغتهم ولسانهم وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولا لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم وإذا تبين لقومه أولا حصل البيان لهم ولغيرهم بتوسطهم." (الجواب الصحيح)، فلا خلاف في أن التفقه في القرآن يحصل بتلاوته وبتفسيره وببيان معانيه بالعربية، أو بترجمتها إلى غيرها من اللغات.
هذا الكتاب الحكيم حوى علوما جمة لا توجد في كتب أهل الأرض مجتمعة، بل إن المعاني الباهرة والحكم الجليلة تستنبط فيه من كلمات يسيرة وأحرف قليلة، فكل من المفسر والمترجم يجتهد في بيان طرف منها، ولهذه القرينة سمي بن عباس ترجمان القرآن، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائل مجملة إلى كسرى وقيصر والمقوقس يدعوهم إلى الإسلام، فدل ذلك على أن فهمهم لمضمون الرسائل النبوية من طريق الترجمة كاف في قيام الحجة الرسالية عليهم.
الحاجة إلى بيان معاني القرآن أمر مشترك بين العرب والعجم:
الحاجة إلى بيان مراد الله من كلامه أمر مشترك بين الناس، فما حاجة العجم إلى الترجمة بأكبر من حاجة العرب إلى التفسير، بل إن عوام المسلمين اليوم يفتقرون إلى الترجمة لبعدهم عن اللسان العربي ولفشو اللغات العامية، قال الشاطبي "إن ترجمة القرآن بالنظر إلي معانيه الأصلية ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن، وبيان معانيه للعامة"(الموافقات)، "والترجمة تكون للمفردات وللكلام المؤلف التام، وإن كان كثير من الترجمة لا يأتي بحقيقة المعنى التي في تلك اللغة بل بما يقاربه، لأن تلك المعاني قد لا تكون لها في اللغة الأخرى ألفاظ تطابقها على الحقيقة، لا سيما لغة العرب فإن ترجمتها في الغالب تقريب ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما بل وتفسير القرآن وغيره من سائر أنواع الكلام، وهو في أول درجاته من هذا الباب، فإن المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء أو بذلك الكلام."(شيخ الإسلام: الرد على المنطقيين).
ترجمات معاني القرآن وسيلة لإفهام الأعجمي:
لا يكابر أحد في أثر الترجمة في انتشار الإسلام في أرجاء الأرض، ولا شك في بقاء شيء من آثار الإعجاز في ترجمات معاني القرآن، فإن البلاغة لا تقتصر على المناحي اللفظية، بل تتعداها إلى المعاني والبيان، فقارئ ترجمة القرآن يرى التناسق الفريد بين أجزائه، ويحس بقوة حجته، ويلمس صدقه، ويحصل له تذوق طرف من أسلوبه في الإجمال والتفصيل، وحسن التخلص والمناسبة بين آياته وسوره، والناظر في ترجمة معاني القرآن يحصل له العلم بسموها وثرائها وقوتها إذا قيست إلى ترجمات كلام البشر، وإن كانت لا تدنو من بلاغة القرآن نفسه، وبهذا القياس يدرك الأعجمي الفرق بين كلام البشر وبين كلام خالق البشر.
الأستاذ الأمريكي جيفري لانغ أسلم بعد قراءته لترجمة معاني القرآن، وكتب عن تجربته: "لن تستطيع أن تقرأ القرآن فحسب، إما أن تستسلم له بكليته، أو تقاومه، حينها يهاجمك، يجادلك، ينتقدك، يقرعك، يتحداك (...) بدا لي أن المتكلم بهذا القرآن يعرفني أكثر من معرفتي بنفسي، كنت أجد إجابات أسئلتي مع استمراري في التلاوة."(جيفري لانغ: كفاح من أجل الإستسلام)، ولقد بهر القرآن بعض كبار أدباء أوربا مثل الشاعر الألماني فولفجانج جوته (1749-1832) صاحب نشيد محمد صلى الله عليه وسلم (Mohammed Gesang) , ومثل الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799- 1837) صاحب كتاب "قبسات من القرآن"، فهلا تأملتم أن هؤلاء ما قرأوا التنزيل وإنما قرأوا بعض ترجماته.
اعتراض وجوابه:
ولو قيل يلزمكم من القول ببقاء آثار الإعجاز في ترجمات معاني القرآن أن يقال نظير ذلك في التوراة والإنجيل، فنقول مع شيخ الإسلام إن القول بإعجاز توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام لا يضرنا في شيء، لأنهما من كلام الله، فإن قيل هل إعجازهما من جهة اللغة والنظم، قلنا إن هذا مما يرجع فيه إلى أهل اللسان العبراني، أما إن قيل إن إعجازهما لما تضمناه من إخبار بالمغيبات ومن الأمر والنهي، فلا نشك في ذلك، ومن أمثلة ذلك البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن يشترك مع كتب الأنبياء فيما حوته من حقائق التوحيد وأسماء الله وصفاته وما تضمنته من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغير ذلك. ( النبوات بتصرف).
الوجه السابع عشر: مدار تأثير الترجمة على صدق البلاغة القرآنية:
هذا الكتاب العزيز وصفه ربنا بأنه هدى ونور وروح، فصلت آياته بلسان عربي مبين، أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى به إلى الحق وقص فيه أحسن القصص فهو كتاب مجيد مبارك لا ريب و ولا عوج ولا اختلاف فيه، أخباره صدق وأحكامه عدل، يذهب الجاحظ إلى أن الإعجاز في المعاني، أما الألفاظ فهي قارعة الطريق، والحق أن الإعجاز في الألفاظ وفي المعاني، ونقول أن مدار البلاغة على صدق المعاني، قال التوحيدي: "سألت أبا سليمان عن البلاغة، ما هي؟"، فقال: "هي الصدق في المعاني، مع ائتلاف الأسماء والأفعال والحروف، وإصابة اللغة وتحرّي الملاحة والمشاكلة، برفض الاستكراه ومجانية التعسّف."، فقال له أبو زكريا الصيمري: قد يكذب البليغ، ولا يكون بكذبه خارجاً عن بلاغته؟ فقال: ذلك الكذب قد ألبس لباس الصدق، وأعير عليه حلة الحق، فالصدق حاكم». (المقابسات)، وإذن فالمفسر والمترجم يبينان معاني الكتاب التي هي صدق كلها، كل حسب لغته، فيحصل لمطالع التفسير أو الترجمة ذوق صدق هذا الكتاب الكريم.
الوجه الثامن عشر: القرآن اشتمل على خلاصة الطرق الصحيحة الموصلة للعلم النافع والعمل الصالح:
اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة الموصلة إلى العلم النافع والعمل الصالح، فجمع بين البرهان والخطابة والجدل، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل: 125. فالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى، من أصول الدعوة، وهذه الثلاثة تجمع طرائق تحصيل العلم والعمل، والقرآن ينوع براهينه وفق ما دلت عليه الآية، فتكون خطابية تارة، وجدلية تارة أخرى. (شيخ الإسلام: النبوات بتصرف)، وهذا المنهج القرآني الأصيل مما يسع الأعجمي الوقوف على آثاره بمطالعة ترجمات معاني الكتاب.
الوجه التاسع عشر: تعلم العربية:
فإن لم يرو ذلك كله غليل أنفسكم، وأحببتم أن تردوا المعين، وأن تشربوا صفوا، وأن يخلو لكم وجه القرآن، فتقرأوا كلام ربكم من غير واسطة، فعليكم بتعلم اللسان العربي المبين الذي به أنزل، لأنا لا نجد دواء لمن ارتاب في إعجاز القرآن بعد كل ما ذكرناه، إلا أن يتعلم العربية ليحصل له العلم بذلك ذوقا وممارسة، كما حصل لبلغاء العرب، وليس هذا مقصورا على القرآن، فنحن نرى كل من أراد نيل علم لا يتحصل إلا بلغة ما، يجد في تعلم تلك اللغة.
خاتمة:
هاهو القرآن غضا كأنما أنزل أمس، وهاهم القَرَأة يُحَبِّرونه بين جهر وهمس، وهاهي المصاحف كالشمس طالعة، وصحائف الترجمات تحفها ساطعة، وهاهي أزِمَّة الإعجاز قد انعقدت، ومعاقد الشبه الواهية قد انتقضت، فلم يبق للعقلاء من العجم والعربان، إلا التسليم لكلام الرحمن وإسلاس القياد إليه، فلله الحمد أولا وآخرا، ولكلامه العز باطنا وظاهرا.
المراجع:
- القرآن الكريم والسنة النبوية.
- الشيخ عبد الله دراز: النبأ العظيم .. نظرات جديدة في القرآن.
- شيخ الإسلام ابن تيمية: النبوات.
- شيخ الإسلام ابن تيمية: الرد على المنطقيين.
- أبو العلاء المعري: رسالة الغفران.
- الدكتور رمضان عبد التواب: التطور اللغوي.. مظاهره وعلله وقوانينه.
- القاضي أبو بكر الباقلاني: إعجاز القرآن.
- عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز.
- نجيب عبدالله الرفاعي: عجائب قراءة القرآن على الأوربيين والأمريكان.
- الزمخشري: رسالة في إعجاز سورة الكوثر.
- أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الفقه.
- أبو حيان التوحيدي: المقابسات.
- كريستوف لوكسنبربغ: قراءة آرامية سريانية للقرآن ـ مساهمة في تفسير لغة القرآن.
Christoph Luxenberg:
Die Syro-Aramaeische Lesart des Koran: Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache
- إرنست رنان: التاريخ العام المقارن للغات السامية. Ernst Renan:
(1881) Histoire générale et système comparé des langues sémitiques
- كفاح من أجل الإستسلام: انطباعات مسلم أمريكي Jeffrey Lang:"Struggling to Surrender: Some Impressions of an American Convert to Islam
- رسالة فلولفجانج جوته لهاينرش شلوسر Goethe an: Heinrich Schlosser 1815
الجواب:
المجيب: اللجنة العلمية.
جمع الجواب ورتّبه: أ.هشام ابن الزبير.
منهج الرد: سنفتتح الرد باسم الله، فالنظر في أصل الشبهة، كي نحتج بما قرره على ما أنكره، ولنتوصل بما أظهره إلى ما أضمره، ثم نثني بما يفتح الله به من وجوه الرد، لبيان الحق وإزالة الإلتباس، ونمهد لذلك بجواب مجمل بخصوص الإعجاز، نخلص منه إلى وجوه من الرد مفصلة، وفق تدرج يتحرى حال الأعجمي مع القرآن.
تفصيل الشبهة وبيان أصلها: سؤالكم انطوى على شبهة، لا تنكر إعجاز القرآن جملة، بل ترمي إلى قصره على العرب، كأنكم سألتم: ما وجه دخول الأعجمي في خطاب التحدي بالقرآن، وهو مفتقر لملكة اللسان العربي؟ وكيف تكون معجزة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، من جنس ما ينفرد خاصة الناس بعلمه، ويقصر عامتهم عن إدراكه؟ فلو دققنا النظر في الشبهة، لألفيناها تتوهم التعارض بين شمول رسالة القرآن للعالمين، وبين إنزاله بلسان عربي مبين.
الجواب المجمل حول ثبوت الإعجاز وتندرج تحته مسائل:
أولها: النقل المتواتر حجة ملزمة للعرب والعجم:
بلغنا القرآن وخبر إعجازه بالنقل المتواتر، ومُبلِّغ القرآن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يؤثر عنه بيت شعر ولا ثمرة فكر، حتى إذا بلغ الأربعين خرج على قومه –وفيهم أئمة البلغاء- بكلام لم يعهدوا له مثيلا في حلاوته وطلاوته وهيبته، يتألف من نفس حروفهم، وهو يقول: هذا كلام الله، وإني رسول الله! فما زال يقرعهم به ويتحداهم –والخلق أجمعين- أن يأتوا بمثله، حتى تحداهم أن يأتوا بسورة "من مثله"، فلو أن أحدهم جاء بكلام يكافئ سورة الكوثر في مقدارها، وفيه جنس المماثلة و مطلقها (النبأ العظيم بتصرف)، بحيث لو وضع بين سور القرآن لم يميزه البلغاء عنها، فقد أبطل إعجاز القرآن وأسقط حجته، فلما قعدوا عن معارضته، مع توافر الدواعي واستحكام العداوة، سمى العلماء ذلك إعجازًا، وههنا ينتهي القدر المشترك بيينا في أمر القرآن، ثم تحول العجمة بينكم وبين الوقوف على حقيقة إعجازه، فكيف توهمتم أن عجمة اللسان قد أسقطت إعجازه الذي ثبت بالنقل المتواتر؟
وثانيها: بلوغ القرآن مناط إقامة الحجة:
أما وَقد بلغكم ذلك كله، فاعلموا أن قيام الحجة على الخلق منوط بمجرد بلوغ خبر تنزيل هذا الكتاب، وليس بالوقوف على إعجازه، والدليل من الكتاب: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} الأنعام: 19، فهذا القرآن نذير لمن بلغه من العرب والعجم، ومن السنة:" والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار".(مسلم: 153)، فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي" يعم كل من سمع به من أهل الكتاب عربيا كان أو عجميا.
وثالثها: العبرة بفهم رسالة القرآن إجمالا:
مدار القرآن على التوحيد، فمن فهم حقيقته، ودان به، وتبرأ من الشرك، فقد دخل في الإسلام، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من يأتيه مبايعا بالإسلام، بنطق الشهادتين، ولم يشترط فهم حقائق القرآن أو إدراك إعجازه بالتفصيل، ومن المعلوم أن الصحابة كانوا يدخلون في الإسلام على بصيرة، فدل ذلك على أنهم علموا علما ضروريا أن هذا القرآن معجز، ولم يلزمهم الرجوع إلى غيرهم من الفصحاء لإثبات إعجازه، فإن البليغ إذا سمع القرآن أيقن بعجزه عن مثله، وعلم بذلك عجز غيره عنه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر سفراءه بدعوة الناس إلى دين الحق إجمالا، فلما بعث معاذ بن جبل إلى أهل اليمن، أوصاه أن يأمرهم بالتوحيد وأداء الفرائض، وعلى هذا الإجمال في دعوة الناس إلى الإسلام وبيان أصوله كانت رسائله صلى الله عليه وسلم لملوك العجم.
ورابعها: جواب القرآن: أأعجمي وعربي؟
فقد أخبر الله سبحانه بأن كفر المشركين بهذا القرآن العربي المبين كفر عناد وتعنت فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فصلت: 44، فطلب إرسال رسول عربي بقرآن أعجمي ظاهر البطلان، وطلب إرساله بكل الألسن بحجة أنه رسالة للعالمين أبطل منه لأسباب شتى نذكر منها:
أولا: الترجمة تغني عن ذلك، ولا زالت الأمم تترجم علوم الأنبياء والحكماء، ونحن لا نكلف العلماء أوالأدباء بتأليف مصنفاتهم بجميع اللغات، بل نلجأ لترجمتها عند الحاجة وهذا ظاهر.
ثانيا: اختلاف الألسن في الفصاحة والبلاغة والوفاء بحق المعاني، يلزم منه تفاوتها في قدرتها على حمل معاني القرآن، فإذا تقرر ذلك، لزم تفضيل أحدها واختياره دون غيره، وقد أجمع المنصفون من أهل اللغة على فضل العربية، وعليه فإن اصطفاءها جاء على مقتضى الحكمة الربانية قال الله تعالى: {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} فصلت: 3.
ثالثا: اقتضت حكمة الله أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما يحسنه قومه، فتحدى العرب البلغاء بالقرآن، فأين مثل بلاغتهم عند بعض أمم الأرض فضلا عن سائرها، فلو نزل الكتاب على جهة التحدي بسائر اللغات، لوقع تحدي أكثر الأمم بشيء لا تحسنه وهذا يخالف الحكمة.
وخامسها: لا تعارض بين وقوع المعرب في القرآن وبين إنزاله بلسان عربي:
ولا يُعترض على ما أسلفنا بوجود المعرب في القرآن، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أن أكثر الأئمة أنكر ذلك، وذهب آخرون إلى وقوع كلمات معربة يسيرة في القرآن، وأنها من جنس ما توافقت فيه اللغات، ونقل السيوطي في المهذب عن بعضهم أنّه: "إشارة إلى حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء، فلابد أن تقع فيه الاشارة إلى نوع اللغات والألسن." اهـ، وعلى كلا القولين فلا تعارض بين وقوع المعرب في القرآن، وإنزاله باللسان العربي.
وسادسها: تعلق المستشرقين ببعض الألفاظ المشتركة بين اللغات حجة عليهم:
تلقف كثير من المستشرقين نظرية شفالي حول الأصول السريانية المزعومة لبعض الكلمات القرآنية، ليبنوا عليها أحكاما متعسفة، وقد صدر حديثا كتاب للمستشرق الألماني لوكسنبرغ على نفس الشاكلة أسماه "قراءة آرامية سريانية للقرآن ـ مساهمة في تفسير لغة القرآن "، وقد ادعى في كتابه أن كثيرا من غريب القرآن لا يتأتى فهمه إلا بإرجاعه إلى أصوله الآرامية والسريانية، بل ادعى ان النحاة أصّلوا للغة عربية تختلف عن التي أنزل بها القرآن، وخلاصة كلامه أن مقارنة بعض غريب القرآن بالآرامية والسريانية يجلي معناه أكثر من الرجوع إلى سيبويه ونحوه .... وهذا السيل من الكلام المتهافت يحتاج فصلا كاملا لدحضه، وليس هذا غرضنا هنا من إيراده، إنما نشير باقتضاب إلى أننا إن سلمنا بوقوع مثل هذه الألفاظ المشتركة بين اللغات في القرآن العربي، الذي يوافقنا المستشرقون أنه في أعلى درجات البلاغة، فيلزم منه أن المتكلم به قد أحاط بهذه الألسنة، وعلم دقائق ما اشتركت فيه، وخصائص كل منها وما تميزت به، فاصطفى العربية من بينها ليقع بها التحدي، ونحن نقر بهذا كله، ونقول إن القرآن كلام خالق الألسنة على اختلافها.
وسابعها: جنس الإعجاز مشترك بين الأمم:
جنس الإعجاز معروف عند العرب والعجم، فهم يشتركون في إدراك معناه، وإطلاق التحدي بهذا القرآن ليشمل الثقلين، من لدن تنزيله إلى قيام الساعة، يدل على أنه من جنس آيات الأنبياء، فأن يأتي أميّ لا يقرأ ولا يكتب، يتيم ليس له والدٌ يطوف به على المعلمين والبلدان، فقيرٌ لا وقت له لسفر التعلم عند الرهبان، من أمةٍ أميةٍ عرفت بالنبوغ في الشعر، ومازالت معلقات شعرائها نجمًا في البلاغة ودقة الوصف، ويأتي هذا الرجل الصادق الأمين يتحداهم ببلاغة الكتاب الذي أنزل عليه برهانًا لنبوته، ويتحدى الإنس والجن، إنّ هذا التحدي وهذه الثقة في حدّ ذاتها كانت آيةً لبعض الأنبياء، فأنى لمن دونهم أن يقع منهم مثل هذه الدعوى العظيمة، ثم يتخلف الناس أفرادا وأمما عن إبطالها عبر القرون والأعصار، إذن يكفي الأعجمي فهم أصل الإعجاز وإمكان وقوعه ليدرك معنى الإعجاز القرآني إجمالا.
الجواب المفصل ويندرج تحته حوالي عشرين وجها:
الوجه الأول: إدراك الإعجاز يحصل للخاصة تفصيلا ولمن دونهم إجمالا:
يتفاوت الناس في إدراك اعجاز القرآن تبعا لتفاوت عقولهم، فإن فيهم البليد والذكي، وعليه فإن توهمكم أن عدم إدراك الأعجمي للحجة في هذا الكتاب، دليلٌ على انتفاء حجته، كمثل توهم الجاهل أن إحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله، أمر يقدر عليه من حذق صنعة الطب، فإن توهمه لا يقدح في وقوع الإعجاز وقد أقر به الأطباء، وإنما سبيل من قصرت به ملكاته عن النهل من معين هذا الكتاب، أن يرجع إلى أهل الإختصاص، فإجماعهم حجة على غيرهم، إذ يدركون الإعجاز عن ذوق وممارسة، ولا يدركه العامة إلا تبعا لهم، ويجرون في ذلك مجراهم.
الوجه الثاني: اصطفاء العرب لحمل الرسالة:
روى مسلم من حديث واثلة بن الأسقع :"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ "، ولما كان القرآن آخر الكتب المنزلة، والعرب آخر الأمم عهدا بالنبوة والرسالة، جرى اصطفاؤهم لحمل أمانة الوحي، وإنزالُ الكتاب بلسانهم لتقوم عليهم الحجة أولا، وليبلغوا من خلفهم من الأمم فتقوم عليهم الحجة تبعا لهم، ولا مناص لمن أراد الوقوف على دقائق الوحي بغير واسطة، من تعلم اللسان العربي.
الوجه الثالث: إقرار العرب بالعجز عن معارضة القرآن ملزم لغيرهم:
قولكم: كيف يكون القرآن معجزا للأعجمي؟ يفهم منه إقراركم بأن العربي قادر على إدراك معنى الإعجاز القرآني، فنقول أَمَا وقد بلغكم أن العرب قد قعدوا عن معارضة القرآن بما يسقط دعوى إعجازه، فأنتم أعجز منهم كما لم يخف عليكم، فعلى هذا القياس كان إقرار العرب على أنفسهم بالعجز عن الإتيان بمثل هذا القرآن ناطقا بعجز العجم من باب أولى.
الوجه الرابع: ترك بلغاء العرب معارضة القرآن مع بقاء قدرتهم:
الحق أن القرآن معجز بذاته، لا بشيء خارج عنه، فمن أعجب العجائب أن يتحدى القرآن العرب بالإتيان بكلام من مثله، وأن يتكرر هذا التحدي إلى أن يبلغ مداه في قوله تعالى:{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} البقرة: 23، ثم لا يتصدى لمعارضته أحد من بلغائهم مع بقاء قدرتهم، ولعل هذا الأمر العجيب هو سبب القول المعروف بالصِّرْفة، فنقول –مع شيخ الإسلام- على سبيل التنزل، إن قعود العرب عن معارضة القرآن يدل على أنه من خوارق العادات، سواء كان مرد ذلك إلى صرفهم عنه، أو إلى عجزهم، فالإعجاز واقع في نفس الأمر، وهذا القول على ضعفه كاف لإبطال الشبهة المذكورة. (كتاب النبوات بتصرف).
شهادة الوليد بن المغيرة: لما استُفتي الوليد بن المغيرة في أمر القرآن قال كلمته السائرة: "وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ولا بشاعر الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته." (رواه الحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس)، هذه شهادة بليغ يتكلم من ذروة البلاغة البشرية، ليشهد بإعجاز البلاغة القرآنية، ولا ينبئك مثل خبير، هذا رائد قوم علقوا فرائد القصائد على الكعبة، فلم يفحمهم في مضمار البلاغة إلا كلام رب الكعبة.
شهادة أبي العلاء المعري: "وأجمع ملحدٌ ومهتدٍ، وناكبٌ عن المحجة ومقتدٍ، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهرَ بالإعجاز، ولَقِيَ عدوَّه بالإرجاز، ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز من سهل وحزون، ولا شاكَل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب، وجاء كالشمس اللائحة، نورا لِلمُسِرَّة والبائحة، لو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المُعْصِمَة لَرَاقَ الفادرة والصَّدَع: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلمٍ يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق."(رسالة الغفران). هذا أبو العلاء، وهو من أفذاذ البلغاء، ومن فحول الأدباء، يشهد أن إعجاز القرآن محل إجماع بين أهل الهداية وأهل الإلحاد.
الوجه الخامس: معارضة المتنبئين للقرآن إثبات لإعجازه:
فإن قلتم بل وجد من عارض القرآن بشيء يماثله ولم ينقل إلينا؟ فنقول لو عورض بشيء يدانيه ويساميه، لنقل لتوافر الدواعي لذلك، ولو نقل لبلغنا، فلما لم يبلغنا من ذلك شيء، بقينا على الأصل وهو وقوع الإعجاز، ولا يُحتجّ بما نقل عن المتنبئين قديما وحديثا، من محاولات لمعارضة القرآن، لقصورها البين عن مرتبة البلاغة البشرية، فضلا عن البلاغة القرآنية.
الوجه السادس: محاولة بعض العجم معارضة القرآن إثبات لإعجازه:
كما لا يلتفت إلى محاولات بعض العجم في زماننا معارضة القرآن، فهؤلاء جمعوا قصورهم عن مرتبة البلاغة، إلى عجمة اللسان والقلم فقامت عليهم الحجة بعجزهم عن معارضة القرآن تفصيلا، بعدما قامت عليهم قبل ذلك إجمالا.
الوجه السابع: جنس التفاوت في إدراك إعجاز القرآن موجود في العرب والعجم:
ثم هل بلغكم أن العرب زمان البعثة كانوا على درجة سواء في ملكاتهم البلاغية؟ لا شك أنهم كانوا متفاوتين في ذلك تفاوتا عظيما، ولم يكونوا جميعهم في بلاغة حسان والخنساء، فالناس في أمر الإعجاز ثلاثة: أعجمي, وعربي كالأعجمي وعربي متمكن من البلاغة والبيان (الباقلاني: إعجاز القرآن). فيلزم من هذا التصنيف وجود جنس التفاوت في هذا الباب في العرب وفي غيرهم.
الوجه الثامن: العجم أنفسهم يتفاوتون في تمكنهم من اللسان العربي:
العجم ليسوا سواء في جهلهم باللسان العربي، فليس كل عجمي أعجميا، بل قد يكون منهم من هو أفصح وأبلغ من أوساط العرب، وهم مع ذلك عاجزون عن مجاراة البلاغة القرآنية، فعجز هؤلاء يثبت عجز من دونهم.
الوجه التاسع: جنس البلاغة مشترك بين الأمم:
ولو قلتم: كيف يكون الكلام البليغ معجزا، ولكل بليغ أسلوبه الذي لا يجارى؟ قلنا إن جنس البلاغة معروف عند العرب والعجم، فإذا علم العجم إجمالا أن القرآن تحدى بلغاء العرب فأعجزهم، وتواتر الخبر بذلك، فهذا كاف في وقوع الإعجاز، ثم إن المعارضات الأدبية جنس معروف، لم يزل البلغاء يتبارون في مضماره إلى اليوم، ولا يعرف أثر أدبي واحد عصيّ عن المعارضة والنقد والاستدراك.
شبهة جاهل بالبلاغة:
وإن قلتم: هذا كلام مفهوم فكيف يعجز الناس؟ قلنا: هذه شبهة جاهل بحقيقة البلاغة، وفي مثل هذا قال ابن المقفع: "البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها"، هذا عن البلاغة البشرية، وهذا ظن الجاهل بها، فإذا كان أساطين البيان قد أذعنوا لبلاغة القرآن، فلأنهم تبينوا من إعجازه ما خفي على من دونهم، فإن قلتم لا زالت البلاغة في العرب والعجم فما وجه تفضيل القرآن على البلاغة البشرية؟ فنجيب أن هذا باب واسع، وحسبنا أن نقول مع الشيخ دراز إن: "القصد في اللفظ" مع "الوفاء بحق المعنى" بلا تقتير ولا إسراف نهايتان تقصر عنهما همم البلغاء, وكل من رام الجمع بينهما كان كمن يروم العدل بين ضرتين دون أن يميل إلى إحداهما. ومن شاء أن يرى النهايتين مجتمعتين فليقرأ القرآن. (النبأ العظيم بتصرف).
الوجه العاشر: بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم على جلالتها ليست معجزة:
النبي صلى الله عليه وسلم كان له حديثه الذي ينسب إليه، وهو أفصح العرب بشهادة بلغائهم، لكن كلامه ليس معجزا، بل قد يلتبس بغيره، وقد يصعب على غير أهل الصنعة الحديثية تمييز المدرج من كلام الرواة من كلامه، فهل يلتبس كلام الله بكلام غيره؟ إن الآية من القرآن لو وضعت وسط كلام بعض البلغاء لأخبرت عن نفسها، ولدلت بنورها على معدنها، ولأشرقت كما يشرق فص الماس لأنها من كلام رب الناس، و المنصف يقر أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتبس أبدا بالقرآن، فإذا فهم الأعجمي هذا الوجه، كان سببا آخر لإدراك حقيقة الإعجاز القرآني.
الوجه الحادي عشر: الإعجاز القرآني لا ينحصر في البلاغة:
يبدو أن السؤال يفترض أن إعجاز القرآن في بلاغته، وهذا خلاف الواقع، فإنه قد ذكر العلماء وجوها من إعجاز القرآن، منها نمطه الفريد، ونظمه البديع، وبلاغته الباهرة، وإخباره بالغيوب، واشتماله على العلوم المتنوعة، والحكم البالغة، والحجج الدامغة، وخلوه من التناقض وبراءته من الإختلاف، وكل من ذهب إلى أن إعجاز القرآن في بلاغته، إنما أراد أنها وجه يشمل القرآن كله، وأن الوجوه الأخرى لا توجد إلا في بعض آيه.
الوجه الثاني عشر: يمكن للأعجمي إدراك إعجاز المعاني:
البلاغة تشمل الألفاظ والمعاني جميعا، قال الجرجاني: "وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني؟ وهل هي إلا خدم لها ومصرفة على حكمها؟"(دلائل الإعجاز)، وفي كلمة الوليد بن المغيرة وصف للقرآن بالحلاوة والطلاوة والإثمار والإغداق، وكلها أوصاف تعم الألفاظ والمعاني، فإن فات الأعجمي إدراك بلاغة الألفاظ، فعليه أن يبذل وسعه في إدراك طرف من إعجاز معانيه بسؤال أهل العلم ومطالعة ترجمات معانيه.
الوجه الثالث عشر: التأثر بسماع القرآن:
أول ما يقرع الأذن تأليف القرآن الصوتي، فلو نأيت عن قارئ متقن بحيث لاتسمع سوى تناسق الحركات والسكنات، والمدود الغنات، والوقوف والسكتات، فإنك ستسمع جرسًا ونسقًا عجيبا فريدا يسترعي سمعك، ويجذبك، ولا تمله، فهو متجدد دوما، لا تمجه الأذن ولا ينكره الذوق أبدا. (النبأ العظيم بتصرف). فإن فات الأعجمي فهم معاني القرآن فلن يفوته سماع آياته، فإن التأثر بسماع القرآن أمر مشترك بين العرب والعجم، وهاهو جعفر بن أبي طالب يقرأ سورة مريم، ويبكي النجاشي، ويبكى الأساقفة حتى اخضلت لحاهم، فإن افترضنا أن النجاشي كان يفهم العربية، فيبعد أن يكون الأساقفة كلهم كذلك، فلا يخرج الأمر عن تأثرهم بسماع القرآن أو بترجمة معانيه، أو كليهما، ويؤكده الوجه التالي:
الوجه الرابع عشر: كثير من المسلمين اليوم من العجم:
كثير من المسلمين اليوم من العجم، فهاهم أولاء ملايين الترك والأندونيسيين يتنافسون في تعلم القرآن وترتيله وسماعه، وعامتهم لا يتقنون العربية، بل إن منهم من يبكي ويخشع لمجرد طرق القرآن لسمعه، أو جريانه على لسانه، وقد سئل أحدهم عن سر بكائه وهو لا يفهم ما يقرأ، فأجاب: "قد لا يفهم عقلي، لكن قلبي يفهم"، ونحن نقول إن عجمة اللسان لا تضر من كان ذا قلب فصيح، ولا يَرِد عليه أن هذا مختص بأهل الإيمان، فإن كثيرا من كفار العجم يقرون بما لسماع القرآن من سلطان على النفوس. (نجيب الرفاعي: عجائب قراءة القرآن على الأوربيين والأمريكان).
الوجه الخامس عشر: النظر في لغة العرب والوقوف على خصائصها:
مما يحصل به إدراك إعجاز القرآن، النظر في خصائص لسان العرب من سلاسة اللفظ وخفته وعذوبته وقدرته على ترجمة ما في النفس من المعاني بأبلغ العبارات وأوضحها، وسبيل ذلك الرجوع إلى الدراسات اللغوية المعاصرة، التي تعنى بمقارنة اللغات ( Comparative Linguistic)، فإذا حصل الأعجمي طرفا من هذا العلم أيقن بعدم وجود لسان أعجمي يدنو من العربية، بحيث يتأتى فيه من وجوه الفصاحة وأساليب البيان، والثراء اللفظي والمعنوي ما يناسب أن يصلح للتحدي والإعجاز.
التنويه بإنزال القرآن بلسان عربي مبين:
امتن الله على العرب بإنزال القرآن بلسانهم في بضعة عشر موضعا من التنزيل، فلما جاء وصف القرآن بأنه عربي، مقترنا بوصفه بأنه مبين وغير ذي عوج، أيقنا أن الله نزل أكمل الكتب بأكمل الألسنة على أكمل الخلق، إذ "لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول ، أفضل كتاب بلسان مفضول"(الزمخشري: رسالة في إعجاز سورة الكوثر).
شهادات المنصفين والعلماء بتفرد اللغة العربية:
من أبلغ الشهادات التي تترجم لتفرد العربية وسموها على سائر اللغات شهادة المستشرق رنان: "العربية نفسها من أغرب الغرائب، هذه اللغة التي كانت قبلُ مجهولة، تتجلى لنا فجأة في منتهى كمالها، ومرونتها، وثرائها غير المحدود، إنها في غاية الكمال بحيث لم يطرأ عليها إلى يوم الناس هذا تغيير ذو بال، إنها لغة لا تعرف لها طفولة ولا شيخوخة، فكأننا حين علمنا عن فتوحاتها، وانتصاراتها الباهرة، قد علمنا عنها كل شيء، ولا أدري إن كنا سنجد شبيهاً لهذه اللغة التي ظهرت كاملة، دون طور عتيق، من غير تدرّج..." (إرنست رنان: تاريخ اللغات السامية).
يقول الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله: "العربية الفصحى لها ظرف خاص لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم .. ذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا، ودوّن بها التراث العربي الضخم، الذي كان محوره هو القرآن الكريم في كثيرٍ من مظاهره، وقد كفل الله الحفظ، مادام يحفظ دينه، فقال عز من قائل "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولولا أن شرفها الله عز وجل فأنزل بها كتابه، وقيض له من خلقه من يتلوه صباح مساء، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان، لولا كل هذا لأمست العربية الفصحى لغة أثرية، تسبه اللغة اللاتينية أو السنسكريتية، ولسادت اللهجات العربية المختلفة، وازدادت على مر الزمان بعدًا عن الأصل الذي انسلخت منه، هذا هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة"اهـ.
وكتب الأديب الألماني جوته في إحدى رسائله: "قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد."(جوته: رسالة إلى هاينرش شلوسر).
العربية لسان إسماعيل عليه السلام:
إنها لسان إسماعيل تعلمها من جرهم (البخاري: 3365)، وصح أنه عليه السلام أول من فتق لسانه بالعربية المبينة وهو ابن أربع عشرة سنة (صحيح الجامع: 2581)، فما أعتقها وأعرقها من لغة لا كاللغات، نطق بها الأنبياء وألهمت الشعراء وبهرت الحكماء، فلو تأملت هذه اللغة الفريدة التي خرجت من الصحراء كاملة، يحلق بها قوم بدو في سماء البلاغة الإنسانية، ثم تأملت حالهم عند نزول القرآن، وهم يرفعون إليه أبصارهم فترتد حسيرة متحيرة، لحُقّ لك أن تتساءل: أليس وجود هذه الجوهرة اليتيمة في عقد لغات البشر، إرهاصا لنزول هذا الكلام الرباني المعجز؟ إن الذي حفظ هذا اللسان، أراد أمرا فهيأ له أسبابه، فلم يشعر به الناس، إلا بعد تمام فصوله واكتمال حلقاته.
فهاهي العربية بعد كر القرون المتطاولة، لم تفقد شيئا من فتوتها ونضارتها، فأين قريناتها من زمان التنزيل؟ لقد اندثرن وبقيت هي، بل إن طرفا من علوم الأوائل لم يكن ليصلنا لولا أن خلعت عليه العربية من حللها، فبها سلم من عوادي الزمان، ومن بقائها اكتسب البقاء، فلو شاء أهل الأرض اليوم حفظ علومهم من الإندثار، لما وجدوا لها وعاء خيرا من العربية، إنها لغة قدر لها الخلود منذ اقترنت بالقرآن، فلله درها من لسان فريد، فاق ألسن أهل الأرض، فلو أن لغات العالم صهرت في بوتقة واحدة، ثم صيغ منها لسان واحد، لضاق عن حمل القرآن، الذي وسعته العربية.
وسعت كتاب الله لفظا وغاية*****وما ضقت عن آي به وعظات.
الوجه السادس عشر: الترجمة التفسيرية:
أنزل القرآن على العرب بلسانهم لتقوم عليهم الحجة وليبلغوه لمن خلفهم، قال شيخ الإسلام: "فكذلك بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه وغير قومه، ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم، ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم إما بلغتهم ولسانهم وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولا لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم وإذا تبين لقومه أولا حصل البيان لهم ولغيرهم بتوسطهم." (الجواب الصحيح)، فلا خلاف في أن التفقه في القرآن يحصل بتلاوته وبتفسيره وببيان معانيه بالعربية، أو بترجمتها إلى غيرها من اللغات.
هذا الكتاب الحكيم حوى علوما جمة لا توجد في كتب أهل الأرض مجتمعة، بل إن المعاني الباهرة والحكم الجليلة تستنبط فيه من كلمات يسيرة وأحرف قليلة، فكل من المفسر والمترجم يجتهد في بيان طرف منها، ولهذه القرينة سمي بن عباس ترجمان القرآن، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائل مجملة إلى كسرى وقيصر والمقوقس يدعوهم إلى الإسلام، فدل ذلك على أن فهمهم لمضمون الرسائل النبوية من طريق الترجمة كاف في قيام الحجة الرسالية عليهم.
الحاجة إلى بيان معاني القرآن أمر مشترك بين العرب والعجم:
الحاجة إلى بيان مراد الله من كلامه أمر مشترك بين الناس، فما حاجة العجم إلى الترجمة بأكبر من حاجة العرب إلى التفسير، بل إن عوام المسلمين اليوم يفتقرون إلى الترجمة لبعدهم عن اللسان العربي ولفشو اللغات العامية، قال الشاطبي "إن ترجمة القرآن بالنظر إلي معانيه الأصلية ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن، وبيان معانيه للعامة"(الموافقات)، "والترجمة تكون للمفردات وللكلام المؤلف التام، وإن كان كثير من الترجمة لا يأتي بحقيقة المعنى التي في تلك اللغة بل بما يقاربه، لأن تلك المعاني قد لا تكون لها في اللغة الأخرى ألفاظ تطابقها على الحقيقة، لا سيما لغة العرب فإن ترجمتها في الغالب تقريب ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما بل وتفسير القرآن وغيره من سائر أنواع الكلام، وهو في أول درجاته من هذا الباب، فإن المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء أو بذلك الكلام."(شيخ الإسلام: الرد على المنطقيين).
ترجمات معاني القرآن وسيلة لإفهام الأعجمي:
لا يكابر أحد في أثر الترجمة في انتشار الإسلام في أرجاء الأرض، ولا شك في بقاء شيء من آثار الإعجاز في ترجمات معاني القرآن، فإن البلاغة لا تقتصر على المناحي اللفظية، بل تتعداها إلى المعاني والبيان، فقارئ ترجمة القرآن يرى التناسق الفريد بين أجزائه، ويحس بقوة حجته، ويلمس صدقه، ويحصل له تذوق طرف من أسلوبه في الإجمال والتفصيل، وحسن التخلص والمناسبة بين آياته وسوره، والناظر في ترجمة معاني القرآن يحصل له العلم بسموها وثرائها وقوتها إذا قيست إلى ترجمات كلام البشر، وإن كانت لا تدنو من بلاغة القرآن نفسه، وبهذا القياس يدرك الأعجمي الفرق بين كلام البشر وبين كلام خالق البشر.
الأستاذ الأمريكي جيفري لانغ أسلم بعد قراءته لترجمة معاني القرآن، وكتب عن تجربته: "لن تستطيع أن تقرأ القرآن فحسب، إما أن تستسلم له بكليته، أو تقاومه، حينها يهاجمك، يجادلك، ينتقدك، يقرعك، يتحداك (...) بدا لي أن المتكلم بهذا القرآن يعرفني أكثر من معرفتي بنفسي، كنت أجد إجابات أسئلتي مع استمراري في التلاوة."(جيفري لانغ: كفاح من أجل الإستسلام)، ولقد بهر القرآن بعض كبار أدباء أوربا مثل الشاعر الألماني فولفجانج جوته (1749-1832) صاحب نشيد محمد صلى الله عليه وسلم (Mohammed Gesang) , ومثل الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799- 1837) صاحب كتاب "قبسات من القرآن"، فهلا تأملتم أن هؤلاء ما قرأوا التنزيل وإنما قرأوا بعض ترجماته.
اعتراض وجوابه:
ولو قيل يلزمكم من القول ببقاء آثار الإعجاز في ترجمات معاني القرآن أن يقال نظير ذلك في التوراة والإنجيل، فنقول مع شيخ الإسلام إن القول بإعجاز توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام لا يضرنا في شيء، لأنهما من كلام الله، فإن قيل هل إعجازهما من جهة اللغة والنظم، قلنا إن هذا مما يرجع فيه إلى أهل اللسان العبراني، أما إن قيل إن إعجازهما لما تضمناه من إخبار بالمغيبات ومن الأمر والنهي، فلا نشك في ذلك، ومن أمثلة ذلك البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن يشترك مع كتب الأنبياء فيما حوته من حقائق التوحيد وأسماء الله وصفاته وما تضمنته من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغير ذلك. ( النبوات بتصرف).
الوجه السابع عشر: مدار تأثير الترجمة على صدق البلاغة القرآنية:
هذا الكتاب العزيز وصفه ربنا بأنه هدى ونور وروح، فصلت آياته بلسان عربي مبين، أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى به إلى الحق وقص فيه أحسن القصص فهو كتاب مجيد مبارك لا ريب و ولا عوج ولا اختلاف فيه، أخباره صدق وأحكامه عدل، يذهب الجاحظ إلى أن الإعجاز في المعاني، أما الألفاظ فهي قارعة الطريق، والحق أن الإعجاز في الألفاظ وفي المعاني، ونقول أن مدار البلاغة على صدق المعاني، قال التوحيدي: "سألت أبا سليمان عن البلاغة، ما هي؟"، فقال: "هي الصدق في المعاني، مع ائتلاف الأسماء والأفعال والحروف، وإصابة اللغة وتحرّي الملاحة والمشاكلة، برفض الاستكراه ومجانية التعسّف."، فقال له أبو زكريا الصيمري: قد يكذب البليغ، ولا يكون بكذبه خارجاً عن بلاغته؟ فقال: ذلك الكذب قد ألبس لباس الصدق، وأعير عليه حلة الحق، فالصدق حاكم». (المقابسات)، وإذن فالمفسر والمترجم يبينان معاني الكتاب التي هي صدق كلها، كل حسب لغته، فيحصل لمطالع التفسير أو الترجمة ذوق صدق هذا الكتاب الكريم.
الوجه الثامن عشر: القرآن اشتمل على خلاصة الطرق الصحيحة الموصلة للعلم النافع والعمل الصالح:
اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة الموصلة إلى العلم النافع والعمل الصالح، فجمع بين البرهان والخطابة والجدل، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل: 125. فالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى، من أصول الدعوة، وهذه الثلاثة تجمع طرائق تحصيل العلم والعمل، والقرآن ينوع براهينه وفق ما دلت عليه الآية، فتكون خطابية تارة، وجدلية تارة أخرى. (شيخ الإسلام: النبوات بتصرف)، وهذا المنهج القرآني الأصيل مما يسع الأعجمي الوقوف على آثاره بمطالعة ترجمات معاني الكتاب.
الوجه التاسع عشر: تعلم العربية:
فإن لم يرو ذلك كله غليل أنفسكم، وأحببتم أن تردوا المعين، وأن تشربوا صفوا، وأن يخلو لكم وجه القرآن، فتقرأوا كلام ربكم من غير واسطة، فعليكم بتعلم اللسان العربي المبين الذي به أنزل، لأنا لا نجد دواء لمن ارتاب في إعجاز القرآن بعد كل ما ذكرناه، إلا أن يتعلم العربية ليحصل له العلم بذلك ذوقا وممارسة، كما حصل لبلغاء العرب، وليس هذا مقصورا على القرآن، فنحن نرى كل من أراد نيل علم لا يتحصل إلا بلغة ما، يجد في تعلم تلك اللغة.
خاتمة:
هاهو القرآن غضا كأنما أنزل أمس، وهاهم القَرَأة يُحَبِّرونه بين جهر وهمس، وهاهي المصاحف كالشمس طالعة، وصحائف الترجمات تحفها ساطعة، وهاهي أزِمَّة الإعجاز قد انعقدت، ومعاقد الشبه الواهية قد انتقضت، فلم يبق للعقلاء من العجم والعربان، إلا التسليم لكلام الرحمن وإسلاس القياد إليه، فلله الحمد أولا وآخرا، ولكلامه العز باطنا وظاهرا.
المراجع:
- القرآن الكريم والسنة النبوية.
- الشيخ عبد الله دراز: النبأ العظيم .. نظرات جديدة في القرآن.
- شيخ الإسلام ابن تيمية: النبوات.
- شيخ الإسلام ابن تيمية: الرد على المنطقيين.
- أبو العلاء المعري: رسالة الغفران.
- الدكتور رمضان عبد التواب: التطور اللغوي.. مظاهره وعلله وقوانينه.
- القاضي أبو بكر الباقلاني: إعجاز القرآن.
- عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز.
- نجيب عبدالله الرفاعي: عجائب قراءة القرآن على الأوربيين والأمريكان.
- الزمخشري: رسالة في إعجاز سورة الكوثر.
- أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الفقه.
- أبو حيان التوحيدي: المقابسات.
- كريستوف لوكسنبربغ: قراءة آرامية سريانية للقرآن ـ مساهمة في تفسير لغة القرآن.
Christoph Luxenberg:
Die Syro-Aramaeische Lesart des Koran: Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache
- إرنست رنان: التاريخ العام المقارن للغات السامية. Ernst Renan:
(1881) Histoire générale et système comparé des langues sémitiques
- كفاح من أجل الإستسلام: انطباعات مسلم أمريكي Jeffrey Lang:"Struggling to Surrender: Some Impressions of an American Convert to Islam
- رسالة فلولفجانج جوته لهاينرش شلوسر Goethe an: Heinrich Schlosser 1815