معلوم أن الجاهليين كانوا أرباب الفصاحة ، وأساطين الكلام ، وملوك البلاغة ، ولم يصلوا لهذه الدرجة من الرقي في اختيار الألفاظ ، وانتخاب التراكيب إلا إذا كانوا يسيرون على نظام لغوي صارم غير مكتوب يتعارفون عليه، ويترسمون نهجه فيما بينهم، ومن ثم رأينا بعض الملاحظات النقدية ، واللفتات البيانية من حين لآخر تظهر على ألسنتهم إذا حدث خروج على هذا النظام الذي كانوا يسيرون عليه فطرة وسليقة ، فإذا ما كلت هذه الفطرة كانوا يقومونها ويثقفونها تلقائيا ، ولذا لم تكثر تلك اللفتات؛ لأن السير على الجادة في هذا النظام اللغوي كان هو الغالب المسيطر .وسوف نذكر هنا هذه بعض هذه الأحكام النقدية مرتبة ترتيبا زمنيا تقريبيا ؛ لنبين قلتها من جهة ، ونشير إلى أنها كانت أول بذرة في صرح البلاغة العربية المنيف وجل هذه الأحكام كان موجها للمعنى واللغة والقافية.
وقبل أن نشرع في ذكر هؤلاء يجب أن أؤكد على أن تلك الملاحظات كانت ذاتية خالية من التعليل؛ لأنهم ليسوا في حاجة إلى التعليل ؛ لصفاء القرائح وثقوب الأذهان التي تكتفي باللمحة الدالة ، والإشارة الخاطفة للتعرف على المطلوب.
1ـ ملاحظة أم جندب على زوجها امرئ القيس ، حكي الرواة أن امرأ القيس وقعت بينه وبين الشاعر علقمة بن عبدة مفاخرة فتنافرا ، وحكما بينهما أم جندب فأنشأ امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها :
خَليلَيَّ مُرَّا بي عَلى أُمِّ جُندَبِ ... نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ
وأنشأ علقمة قصيدته التي مطلعها : ذَهَبتَ مِنَ الهِجرانِ في غَيرِ مَذهَبٍ ... وَلَم يَكُ حَقًّا كُلُّ هَذا التَّجَنُّبُ
فحكمت لعلقمة على زوجها ، وقالت : هو أشعر منك ، قال ولم ؟ قالت : لأنك قلت :فَلِلسَّاقِ أُلْهُوبٌ وَلِلسَّوْطِ دِرَّةٌ ... وَلِلزَّجْرِ مِنهُ وَقْعُ أَهْوَجَ مِنْعَبِ
" فجهدت فرسك بسوطك في زجرك ، ومريته فأتعبته بساقك ، وقال علقمة : فَأَدْرَكَهُنَّ ثَانِيًا مِنْ عِنِانِهِ ... يَمُرُّ كَمَرِّ الرَّائِحِ الْمُتَحَلِّبِ
فأدرك فرسه ثانيا من عنانه لم يضربه ولم يتعبه ، فقال امرؤ القيس ما هو بأشعر مني ، ولكنك له عاشقة فسمي الفحل لذلك »، وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح فنقدها في محله . وهذا ما أشار إليه جلة من النقاد .2ـ ومما يدخل في هذا المعنى المنازعات الشعرية التي كانت تدور بين أهل الجاهلية مثل ما كان بين امرئ القيس ، والحارث بن التوأم اليشكري ، وهذا يدل على أن الشعراء كانوا يتناقدون فيما بينهم .
3ـ المنازعة التي جرت بين عبيد بن الأبرص وامرئ القيس وذكرتها كتب الأدب واللغة .
4ـ ما روي أن النابغة الذبياني كان يجلس في سوق عكاظ يحكم بين الشعراء حيث فضل الأعشى على حسان ، وفضل الخنساء على شاعرات جنسها فثار عليه حسان ورفض حكمه، وقال والله أنا أشعر منك ومنها قال حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقول :
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعْنَ بِالضُّحَى ... وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما
وَلَدْنَا بَنِي الْعَنْقَاءِ وَابْنَيْ مُحَرَّقٍ ... فَأَكْرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِنا ابْنَما
فقال له النابغة: " إنك شاعر لولا أنك قللت جفانك ، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا ، وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل ، ولو قلت : يجرين لكان أكثر لانصباب الدم ، فقام حسان منكسرا منقطعا .5ـ ما أخذه طرفة بن العبد لغويا على المتلمس الضبعي ، أو المسيب بن علس في قوله :
وَقَد أَتَناسى الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ ... بِناجٍ عَلَيهِ الصَيعَرِيَّةُ مُكدَمِ
حيث قال " استنوق الجمل " لأن الصيعرية صفة للناقة وهو يتحدث عن جمل .