mohamadamin
حكيم المنتدى
ليس بغريب أن يبكي المسلمون في الداخل والخارج – بحرقة – شيخنا العلامة أبا عبدالله عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله - ، وأن يأسفوا كثيراً لفقده بمظاهر متنوعة ، وأساليب رأيناها وعايشناها منذ أن صك أسماعنا خبر وفاته ، فمحبته قد ضربت بأطنابها في أعماق قلوب الناس لما لمسوه من علمه وإخلاصه وتواضعه وزهده وأعماله الجليلة في أكثر من حقل ومجال ، وقد صدق الشيخ يوسف القرضاوي في قوله :"لا أعرف أحداً يكره الشيح ابن باز من أبناء الإسلام ، إلا أن يكون مدخولاً في دينه ، أو مطعوناً في عقيدته ، أو ملبوساً عليه . فقد كان الرجل من الصادقين الذين يعلمون فيعملون ، ويعملون فيخلصون ، ويخلصون فيصدقون ، أحسبه كذلك والله حسيبه ،ولا أزكيه على الله تعالى ".
قد خلّف ابن باز – رحمه الله – تراثاً علمياً وفكرياً ضخماً ، توزع بين الأسفار المكتوبة والأشرطة المسموعة ، وتركز في العقيدة والفقه والحديث ، وفي أبواب هذه العلوم وجوانبها وزواياها كانت له نظراته المتميزة ، ومناهجه الخاصة ، وخواطره الفياضة ، وتعليقاته القيمة ، وكل هذه يمكن لطلبة العلم إبرازها والاستفادة منها ، وتخصيص دراسات حولها .
إن من الجوانب المهمة التي كانت منذ سنوات تشد انتباهي في محاضرات الشيخ – رحمه الله – وكتاباته أسلوبه المتميز في مناقشة الآخرين وبيان الحق لهم والرد على أخطائهم ، ذلك الأسلوب الذي يفتقده – يا للأسف – العديد من العلماء وطلبة العلم والدعاة في الزمن الغابر والحاضر الذين إذا طالعت كتاباتهم في هذا المضمار ألفيتها تفتقد إلى كثير من أخلاق الإسلام في معاملة الآخرين والحكم عليهم ، وتفتقر إلى أدنى قواعد المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى والمجادلة بالتي هي أحسن بينما يطمئن القلب ، وتنقاد النفس إلى كتابات هذا الشيخ الجليل (ابن باز ) الذي تمثل آداب الإسلام وهديه فيما يصدر عنه من أقوال ، دع عنك بقية أحواله .
ومن باب النصح لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولخاصة المسلمين وعامتهم ، وبما أوجبه الله على أهل العلم من قول الحق وعدم كتمانه ، والقيام بالدعوة إلى الله والإرشاد إلى سبيله ، والدفاع عن دينه ، والذب عن حياضه ، قام ابن باز بواجبه المنوط به على مدى عقود من الزمن ، فجاهد بلسانه وقلمه ، فوقف في وجه الدعوات الهدامة والاتجاهات المنحرفة ، وشارك في معالجة كثير من القضايا المستجدة ، وتكلم وكتب موجهاً للجاهلين ، ومصححاً للمخطئين ، ومناقشاً للمجتهدين ، ورداً على المعاندين ، سواء ما كان في الوسائل المسموعة أو المقروءة .
وقد وصل عدد ما طالعته من رسائله ومقالاته التي حررها للتنبيه عن الأخطاء وبيان الحق (الردود) ما يقرب من ثلاثين ، كان معظمها حول ما ورد في صحف ومجلات ، وباقيها القليل حول ما جاء عبر التليفزيون والإذاعة ، وقد كانت نسبة ضئيلة منها رداً على أحد تعرض له ، أما القسم الأكبر فقد أنشأه الشيخ لما يراه واجباً عليه من كشف الباطل وإيضاح الحق ، وتعليم الجاهل ، وتوجيه الغافل ، ورد الشارد إلى الطريق المستقيم .
ومن خلال ما اطلعت عليه من آثار الشيخ في نقد أقوال الآخرين وكتاباتهم رصدت مجموعة من الضوابط والآداب التي كان يلتزم بها ويستند إليها عند عرضه للآراء والأقوال ، ومن ثم مناقشتها والحكم على أصحابها ، وأستطيع أن أجملها في النقاط التالية :
أولاً :
ذكره لصاحب المقال أو البحث أو الكتاب المراد مناقشته باسمه الذي وقع به مقاله أو بحثه أو كتابه ، وذلك من حين أن يبدأ بيانالحق له وحتى النهاية ، كما أنه لا يُغفل لقبه العلمي كالشيخ أو الدكتور ونحوهما ، ثم إنه لا يأخذه الحماس في الرد – كما يفعل بعضهم – إلى تحريف الاسم أو الاكتفاء بجزء منه ازدراءً واحتقاراً ، كما لا تجره حدة المناقشة إلى السخرية من عنوان المقالة أو البحث أو الكتاب ، أو التندر ببعض ألفاظ الكتاب كما يفعل بعض المولعين بالردود على الآخرين وانتقاد كتاباتهم .
ثانياً :
نقله لأقوال المتحدث أو الكاتب بنصوصها الكاملة غير مبتسرة من وسطها أو أطرافها ، ثم مناقشتها مناقشة علمية ، عبارة بعد أخرى ، أو مقطعاً بعد آخر .
ثالثاً:
استخدام الألفاظ الدارجة ، والعبارات السهلة في حواره مع الكاتب أو المتحدث ، بحيث يفهم المقصود من أول وهلة ، فهو يهتم بالمعنى قبل المبنى ، فلا يرص كلمات وعبارات من حوشى الكلام ، فتضيع الفائدة في ركام من الكلمات والعبارات ، وقد يفهم منها خلاف المقصود
رابعاً :
اعتماده في تنبيهاته للمخطئين في كتاباتهم على كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أقوال السلف والأئمة الأعلام من المتقدمين والمتأخرين ، ويكون نقله نقلاً موثقاً .
خامساً :
الصدع بكلمة الحق وما يراه صواباً دون مماراة أو مداهنة ، ولكن ذلك يكون بأدب جم ، وأسلوب هادي ، وتوجيه حكيم ، وكلمات مهذبة ، وكل كتاباته في هذا الميدان تشهد بما نقول ، ولنأخذ مثلاً واحداً ، فلقد دعا أحد المشايخ – في مقالٍ له – إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية ، وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام ، وأن الوقت ليس وقت مهاجمة أتباع المذاهب . فرد الشيخ رحمه الله بقوله :" ولا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم ، وجمع كلمتهم على الحق ، وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما أمرهم الله سبحانه بذلك عز وجل { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } الآية . ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية وغيرهم ، بل مقتضى الأمر الاعتصام بحبل الله أن يتآمروا بالمعروف ، ويتناهو عن المنكر ، ويبينوا الحق لمن ظنه ، أو ظن ضده صواباً بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه ، وهذا مقتضى قوله سبحانه { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، وقوله سبحانه :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ، ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين ، وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه ، والمخالف للحق على خطئه ، وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله ولي التوفيق ".
سادساً :
توقيره للعلماء داخل البلاد وخارجها على حد سواء ، واحترامه لآرائهم وفتاويهم ، وإن خالفهم في شيء منها بيِّن رأيه المدعم بالأدلة متجنباً تجهيل الآخر ، أو تسفيه قوله ، بل تراه يدعو لنفسه أولاً وللقائل ثانياً بالتوفيق لإصابة الحق ، فمثلاً أفتى أحد العلماء المعاصرين بأن اللحوم المستوردة من أهل الكتاب مما يذكر بالصعق الكهربائي ونحوه حلال لنا ما داموا يعتبرونها حلالاً . فرد عليه – رحمه الله – بقوله:" أقول هذه الفتوى فيها تفصيل " ثم راح يفصل ما يحل منها للمسلمين وما يحرم ، ثم قال :" وبما ذكر يتضح ما في جواب الشيخ ...(1). وفقه الله من الإجمال " ثم أكمل بقية بيانه ، ثم قال :" ولواجب النصح والبيان والتعاون على البر والتقوى جرى تحريره ". وبعدها ختم كلمته بالدعاء بقوله : " وأسأل الله أن يوفقنا وفضيلة الشيخ ... وسائر المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول ...".
سابعاً :
إنصاف الشيح – رحمه الله – للمخالف ، فلا يُغفل ما احتواه مقاله من حق وصواب ، وإن كان الغرض الأساس من تناول ذلك المقال استدراك ما فيه من أخطاء ، فعلى سبيل المثال اطلع على بحث يحلل فيه صاحبه المعاملات الربوية المصرفية ، ويقول في مطلعه :" يمكن القول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بدون فوائد ". فرد سماحته :" يمكن تسليم المقدمة الأولى ، لأن المسلمين في كل مكان يجب عليهم أن يعنوا باقتصادهم الإسلامي بالطرق التي شرعها الله سبحانه حتى يتمكنوا من أداء ما أوجب الله عليهم وترك ما حرم الله عليهم ، وحتى يتمكنوا بذلك من الإعداد لعدوهم ، وأخذ الحذر من مكائده " ثم أخذ يشرح الوسائل الكفيلة بتكوين قوة اقتصادية للمسلمين ، ثم قال :" وأما المقدمتان الثانية والثالثة وهما قوله ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد ، فهما مقدمتان باطلتان " ثم شرع بشرح بطلانهما ، فبين أن الأدلة الشرعية ، وما درج عليه المسلمون من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أنشئت البنوك كل ذلك يدل على بطلان هاتين المقدمتين ، حيث استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية بدون بنوك وبدون فوائد ربوية .
ثامناً :
كان رحمه الله تعالى يناقش النص الذي أمامه ، ويتجنب الحكم على النيات وما يدور في القلوب مما لا يعلمه إلا علام الغيوب ، ويعرض عن حشد الأخطاء الموجودة في ذلك المقال أو البحث لتكون مقدمات ومعطيات لإصدار حكم معين على القائل ناهيك عن عودته إلى كتابات سالفة للمخالف بغرض تصديق حكمه عليه كما يفعل بعض الناس ، فمنهجه أخذ كلام القائل على الظاهر ، وحمله على أجمل المحامل ، والتماس العذر للبعض أحياناً ، فمن الأمثلة على ذلك أنه عندما أعلن أحد المشايخ إنكاره لتلبس الجني بالإنسي ، واستحالة مخاطبة الجن للإنس ، وأبدى استعداده للتراجع عن قوله هذا إن أُثبت له خلافه . رد عليه سماحة الشيخ ، وأثبت له بالأدلة النقلية والعقلية تلبس الجن بالإنس وجواز مخاطبة الجني للإنسي ، ثم عقب بقوله :" وقد وعد في كلمته أن يرجع إلى الحق متى أرشد إليه ، فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا ، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق ". ولما نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها ، وتصدى لها سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله وكتب أحدهم بعده مقالاً في الموضوع نفسه أنشأ ابن باز جواباً رد فيه على صاحب المقال الأخير ، وحمله على الظاهر وظن به الظن الحسن ، فكان من كلامه بعد ذكره رد ابن حميد على المقالات قوله :" ولكن الأستاذ ... هداه الله وألهمه رشده لم يقتنع بهذا الرد ، أو لم يطلع عليه فكتب مقالاً في الموضوع ". وحين كتب أحد الصحفيين العرب مقالاً يدعو فيه إلى الاهتمام بما في المدينة المنورة من آثار وقبور ، لا سيما قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وعماته ، ثم اقتراحه على إدارة الأوقاف وضع لوحات يكتب فيه أسم صاحب القبر ، ويحاط بشبك من حديد . رد عليه سماحته وحمله على الخير ، وعذره بعدم علمه ، فكان مما قاله بعد أن وضح له الحق :" قد يكون هذا الاقتراح من الكاتب عن حسن نية ومقصد صالح ، ولكن الآراء والاستحسانات لا ينبغي للمؤمن الاعتماد عليها حتى يعرضها على الميزان العادل الذي يميز طيبها من خبثها ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولعل الكاتب حين كتب هذه الكلمة من أولها إلى آخرها لم يكن عنده علم بما جاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول القبور ، فلذلك وقعت منه الأخطاء السالفة ، ووقع منه هذا الخطأ الأخير وهو اقتراحه على إدارة الأوقاف ما تقدم ذكره ....".
تاسعاً :
حسب ما اطلعنا عليه من كتابات وأقوال في ردوده على المخطئين ومخاطبته للمخالفين لا نرمق فيها كلمة تحامل أو تجريح ، أو لمز بعيب ، أو زن بريبة ، أو رمي ببدعة ، أو عبارات تهجم أو تشفٍ حتى من الذين أخطاءوا في حقه أو سخروا منه أو كذبوا عليه ، فحينما سخر منه أحدهم لكون سماحته استمع إلى جني متلبس بامرأة ، وأن هذا الجني أسلم في مجلسه ، ذكر هذا الساخر باسمه ولقبه العلمي المعروف فقال :" فقد بلغني عن فضيلة الشيخ ... أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر " وكلما أورد اسمه قدم له بـ( فضيلة الشيخ ) ، وفي أثناء الرد عليه كان لا يكف عن الدعاء له بالهداية والتوفيق . ومثال آخر كان أحد الكتاب خارج المملكة تكلم على لسانه بأن أي فتوى تصدر منه يجب أن تكون ممهورة بخاتمة ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية ، ثم نسب إليه كلاماً عن حلق اللحية . فرد عليه سماحته ، فكان من رده بعد الحمدلة والتصلية قوله : " فقد اطلعت على ما نشر في جريدة .... لكاتبه .... وقد نسب إلي هداه الله كلاماً " – لاحظ الدعاء له بالهداية –ثم ذكر ذلك الكلام ، وبعد عقب بقوله : " وهذا الكلام ظاهر البطلان " ثم أخذ يبين له الحق ثم نصحه بالتقوى والحذر من سوء الظن بالمسلمين . ومثال ثالث افترت عليه إذاعة لندن – ذات مرة – الفتوى بأن الاحتفال بالموالد كفر ، فوضح كذبها وتحريفها للفتوى التي قال فيها بأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ، ونشرت في الصحف والإذاعة ، ثم لم يزد رحمه الله عن قوله بأن ما ذكرته إذاعة لندن " كذب لا أساس له من الصحة ، وكل من يطلع على مقالي يعرف ذلك ،وإني لآسف كثيراً لإذاعة عالمية يحترمها الكثير من الناس ، ثم تقدم هي أو مراسلوها على الكذب الصريح ".
عاشراً :
يلاحظ أثناء توضيحه الحق لأحد من العلماء أو من دونهم دعاءه له بين آونة وأخرى بالهداية والتوفيق والرشاد والمغفرة ونحو ذلك ، وتشعر من كلمات الدعاء وصيغته والمواضع التي يدعو بها للمخالف أو المخطئ بأنه دعاء مخلص صادق ، يخرج من سويداء القلب ، وليس دعاءً عابراً ، أو دعاء له في موضع ودعاء عليه في موضع آخر كما تراه عند البعض ، فكان من الصيغ التي يستخدمها في الدعاء لمن يكتب له ، أو يرد عليه قوله "هداه الله"،"هداه الله وألهمه التوفيق"،"هداه الله وألهمه رشده"،"سامحه الله". وأحياناً يشرك نفسه في الدعاء ، فيقول :"عفا الله عنا وعنه"،"نسأل الله لنا وله التوفيق". وإذا كان القائل أو الكاتب قد نادى في مقاله بأمر خطير يُحلل حراماً ، أو يصادم حكماً من أحكام الإسلام فإنه ينصحه بالإنابة إلى الله تعالى والرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل . فمثلاً – ختم رده الطويل على من أباح الغناء بالنصيحة ، فقال :" ونصيحتي لـ ... وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه ، وأن ينيبوا إلى الحق ، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة ،والتمادي في الباطل رذيلة ...". أما الكاتب الذي زعم حل المعاملات الربوية المصرفية فسأل الله له أن يوفقه " للرجوع إلى الحق ، والتوبة مما صدر منه ، وإعلان ذلك على الملأ لعل الله أن يتوب عليه كما قال عز وجل :{ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }". وحين نادى مدير إحدى الجامعات العربية بالتعليم المختلط بين الجنسين ، وزعم أن المطالبة بعزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة . رد عليه الشيخ رحمه الله ، وكان يدعو له خلال مناقشته لأقواله بمثل "هداه الله ، وأصلح قلبه ، وفقهه في دينه"، ثم ختم الرد بالنصيحة له فقال :" ونصيحتي لمدير جامعة ... أن يتقي الله عز وجل ، وأن يتوب إليه سبحانه مما صدر منه ، وأن يرجع إلى الصواب والحق ، فإن الرجوع إلى ذلك هو عين الفضيلة والدليل إلى تحري طالب العلم للحق والإنصاف ...".
حادي عشر :
رغم ما بلغه من مقام علمي ومنزلة اجتماعية فإنك لا تخال في كتاباته في هذا الميدان أي كلمة أو عبارة يفهم منها تعالمه عن من هم دونه ، أو تعاليه على غيره ، والناظر في ردوده على الآخرين يدرك ذلك تماماً ، ولعل أصدق الأدلة على ما نحن بصدده كونه يخاطب بعض الصحفيين أو الكتاب المغمورين بـ"الأستاذ" أو "الأخ" أو "أخانا" ونحو ذلك .
ثاني عشر :
مع أن كل رسالة أو مقالة كتبها في هذا الفن كانت في الأصل لبيان الحق لقائل أو كاتب بعينه ، فتراه يناقش عباراته مناقشة وافية إلا أن هدفه – رحمه الله – كان أسمى من الرد على فلان أو علان ، إذ تلاحظ حرصه أثناء ذلك على توجيه الناس للعلم الشرعي والتمسك بالعقيدة الصحيحة ، ودعوتهم إلى الخير وطرقه ، وتحذيرهم من الشر وأساليبه ، وتذكريهم بمكر الأعداء وحيلهم ، وتقديم النصح للإعلاميين ومن على شاكلتهم ، ودعوة الحاكم والرؤساء لتحكيم الإسلام في بلدانهم ، وسنكتفي هنا بذكر بعض نصائحه للإعلاميين التي ضمنها في ردوده على بعض الكتاب ، فمنها قوله – بعد أن نبه على مزالق وقعت بها إحدى الكاتبات :" فيجب أن ننزه أقلامنا من الوقوع في مثل هذه المزالق امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كمالاً للتوحيد وابتعاداً عما ينافيه أو ينافي كماله ، ووسائل الإعلام – كما هو معروف – واسعة الانتشار ، وعظيمة التأثير على الناس ، وكثرة ترديدها لمثل هذه الكلمات ينشرها بين الناس ، ويجعلهم يتساهلون في استعمالها ، وخاصة النشء مع ما في استعمالها من المحذور "وقال عقب تعليقه على قصيدة نشرتها إحدى الصحف وتضمنت مخالفات عقدية ، قال :" والواجب على جميع القائمين على الصحف من أهل الإسلام ألا ينشروا ما يخالف شرع الله عز وجل ، وأن يتحروا فيما ينشرونه ما ينفع الأمة ولا يضرهم في دينهم ودنياهم ، وأعظم ذلك خطراً ما يوقع في الشرك وأنواع الكفر والضلال ..." . وحينما كتب أحدهم مقالاًُ ينتقد فيه تصرفات بعض أهل الحسبة وجهه بقوله :" وكان الواجب على الكاتب حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة ، ويناصحهم فيما أخذ عليهم أو يتصل بسماحة المفتي أو رئيس الهيئات ، ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي . أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم ، والحط من شأنهم ، ووصفهم بما هم براء منه فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه ، لما في ذلك من كسر شوكة الحق والتثبيط عن الدعوة إليه ، والتلبيس على القراء ، ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم ، وعلى النيل من دعاة الحق ...".
وهكذا من خلال النقاط السابقة تبين لنا الأصول والضوابط التي كان يسير عليها الشيخ في تعامله مع المخطئين ، ومناقشته للمخالفين وحواره مع المجتهدين . وقد توصلنا إليها بعد استقراء وتأمل لما وقع تحت اليد من آثار له في هذا المجال ، واللافت للنظر أن هذا المنهج بأصوله وضوابطه يكاد يكون ثابتاً عنده سواء ما أملاه قديماً ، أو ما صدر عنه في السنوات الأخيرة ، فلم يزحزحه عنه تشنج كاتب أو تحامله ، ولا عناد مخالف أو تعصبه . كما لم يؤثر عليه فيه تقلب الأحوال ، ولا تبدل الوجوه ، فيا ترى ما الذي أكسب الشيخ – رحمه الله – ذلك المنهج ؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال تفيدنا في اقتفاء أثره ، وترسم خطاه لا نتهاج منهجه ، فهي تتعلق بعلم من الأعلام الذي عاش بيننا عمراً مديداً يُعلم ويُناصح ويدعو ويُدافع ، فكان له حضوره المؤثر سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي ، وليس فقط في الداخل وإنما تعدى أثره إلى الخارج .
على ضوء ما قرأته وعرفته من حياة الشيخ – رحمه الله – ومآثره وآثاره ، أستطيع أن أرد تملكه ذلك المنهج إلى عدة أمور توفرت له ، وتميزت بها شخصيته ، منها تعمقه بالعقيدة السلفية الصحيحة ، فالعقيدة المستمدة من الكتاب وصحيح السنة كانت أحب العلوم إليه – كما نقل على لسانه - ، فصار مرجع الجميع في الدقيق منها والجليل ، ولا ريب أن التعمق بالعقيدة السلفية زوده بمنهج أصيل في التعليم والكتابة والتعامل وغيرها ، وعصمه – بعد الله تعالى- من التقلب حسب ما يطرأ من ظروف . ومن الأمور التي توفرت له –أيضاً- علمه الواسع بالسنة المطهرة من حيث المتون وما يرتبط بها من علوم حتى أصبح حكمه على الحديث بالصحة والضعف محل اعتبار واحترام ، فاستفاد من هذا العلم فكرياً وكذلك علمياً إذ طبقه على نفسه ، والذين جالسوه وعاشروه يدركون ذلك . وقد سئل مرة ما الشخص الذي تأثرت به فأصبحت بهذه الرحابة من سعة الصدر والصبر في حل مشاكل الناس والتعامل معهم؟ . فأجاب": الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، فهو قدوتنا ، وهو الأساس في هذا ، فكان تحمله كبيراً ، فربما جره الأعرابي من ردائه حتى يؤثر في رقبته ، فيحنو عليه النبي عليه الصلاة والسلام ويضحك ويجيب له طلبه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل أهل البادية والحاضرة فهو أسوة لجميع أهل العلم والمسلمين ثم أصحابه كان لديهم من الحلم والصبر الكثير أيضاً ، كالصديق وعلي وطلحة وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمر لديه بعض الحدة لكنه كان أَخْيَر الناس وأصدقهم وأكملهم إيماناً ". وكل مطلع على أقوال ابن باز وكتاباته في تبيين الحقللمخطئين لن يجد شيئاً أسهل من الوقوف في ثناياها على تطبيقه – رحمه الله – للهدي النبوي ، كحسن الظن بالمخطئ وأخذه على ظاهره ، واحترام شخصه ، وعدم الهزء به ، وحب الخير له ، ونحوه مما عرضنا له إجمالاً في معالم منهجه .
ومن الأشياء التي أراها أكسبته ذلك المنهج المتميز هو اختلاطه بالناس على مختلف طبقاتهم ، كبيرهم وصغيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، فصارت لديه معرفة في نفسيات الناس ، وكيفية مخاطبتهم والتأثير فيهم ، والأساليب المثلى في توجيههم إلى الخير ، وهدايتهم للطريق القويم .
ولا شك أن معايشته للعديد من التقلبات السياسية والفكرية والاجتماعية التي مرت على العالمين العربي والإسلامي إبان القرن الرابع عشر الهجري وشطر من الخامس عشر – ذات أثر في تشكيل فكره ومن ثم منهجه في الحوار من الآخرين ومناقشته لإطروحاتهم وأفكارهم ، فلقد شهد أحداثاً جساماً كنشوء بعض الدول وسقوط أخرى ، والجهاد العسكري ضد الاستعمار في أكثر من قطر ، واجتياح الدعوات القومية والشيوعية لكثير من البلاد العربية والإسلامية ، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ، وهزائم العرب أمام ذلك الكيان لا سيما في سنة 1967م ، ثم خفوت الأصوات القومية وتنامى الأصوات الإسلامية ، وتصدي بعض الأنظمة للمد الإسلامي ، والحروب التي قامت بين الدول العربية والإسلامية . وكل ذلك صاحبه –بطبيعة الحال – حوارات ومواجهات ومعارك فكرية واجتماعية بين العلماء وغيرهم في شتى أقطار العرب والمسلمين .
والملاحظ أن ابن باز رحمه الله – حسب علمي – لم تظهر تنبيهاته وكتاباته على الساحة في المجال الذي نتحدث عنه إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره بمعنى أنه حين نضج علمياً وعقلياً ، فصار منهجه في نصح الآخرين والتنبيه على تجاوزاتهم منهج العالم المدقق ، والعاقل الواعي المدرك لخلفيات وأثر ما يقول ويكتب.
وأعتقد جازماً أن من أهم الأمور التي جعلت لابن باز منهجاً متميزاً في الردود على الخاطئين ، ومناقشته المخالفين الإخلاص الذي تحسه في كلماته ، وتلمسه في كتاباته ، فهو لم يرد على أحد ليقضي عليه ويحطمه ويقفز للشهرة على أكتافه ، ولم يجادل أحداً ليسفه رأيه ويكشف ضآلة علمه ، ولم يكتب ضد فلان لكسب مال أو جاه ، وإنما كان – رحمه الله – يبتغي الحق فيما يقول . وبالرجوع إلى مفردات منهجه التي سبقت تعرف – حتى دون أن تتمعن فيها – صدق إخلاصه . ونضيف هنا أنه يحرص – رحمه الله – على عنونة ردوده على المخالفين بتنبيهات وهذا يوحي بالمقصد الحقيقي من كتاباته في هذا الميدان . وإخلاص الشيخ ونزاهته ، وصدق لهجته ، وسعيه بتجرد وموضوعية لبلوغ الحق إذا حاور غيره أو ناقشه استيقن به العلماء والمنكرون وطلبة العلم ، يقول الدكتور محمد منير الغضبان :" قد يختلف الكثيرون من أهل العلم معه في الرأي ، وقد يختلفون معه حتى في المنهج الذي يمثله في مدرسته ، ولكن لا يختلفون أبداً على الإشادة باستقامته ونزاهته وزهده وتواضعه " ، ويقول الشيخ محمد الغزالي قبل وفاته – رحمه الله – عن ابن باز :" لقد كنت أقول دائماً في عالم سلفي نقي مخلص مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز إنه من طلاب الآخرة ، وممن يؤثرون ربهم على دنياهم ، وقد تكون بيننا خلافات فقهية فما قيمة هذا الخلاف وما أثره ؟ إن الأئمة الكبار اختلفوا ، بل إن داود وسلميان قد اختلفا في الحكم ، وهما من هما في النبوة والعلم والحكمة ". ولقد أخبر الشيخ يوسف القرضاوي عما شهده عياناً من طبيعة ابن باز في تلقي وجهات نظر غيره وآرائهم ، فقال :" ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها ، ما يوافقه منها وما يخالفه ، ويتلقاها جميعاً باهتمام ، ويعلق بأدب جم ، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة دون استعلاء ولا تطاول على أحد ، شادياً بالعلم أو متناهياً ، متأدباً بأدب النبوة ، ومتخلقاً بأخلاق القرآن ".
ولقد ظل العلماء والمفكرون وغيرهم الذين اختلفوا معه في بعض القضايا يحملون له منتهى الاحترام ، وغاية التقدير . يقول القرضاوي – أيضاً - :" ولقد اختلفت مع الشيخ العلامة في بعض المسائل نتيجة لاختلاف الزوايا التي ينظر فيها كل منا ، ومدى تأثر كل منا بزمانه ومكانه إيجاباً وسلباً ، ولم أر أن هذا الاختلاف غيّر نظرتي إليه أو نظرته إلي ، وظللت – والله – أكن له المحبة والتقدير ، وأدعو له بطول العمر في خدمة العلم والإسلام ، وظل كذلك يعاملني بود وحب كلما التقينا ، وكلما لقيه أحد من أبناء قطر حمله السلام إلي – رحمه الله – وأكرم مثواه ". وإذا كانت هذه حال الشيخ ابن باز مع مخالفيه فإننا لا نعجب أن تتأسف بعض الجماعات الإسلامية الغالية في أفكارها على وفاته رحمه الله كما ذكرت ذلك إحدى الصحف ، حيث نقل عن تلك الجماعة قولها : " إن الأمة الإسلامية فقدت واحداً من أبرز علمائها العاملين الزاهدين الذين تشهد فتاواه ومؤلفاته بغزارة العلم ودقة البحث والحرص على الوصول إلى الحق ومعرفة الصواب " ومع أن هذه الجماعة اعترفت بوجود خلافات بينها وبين الشيخ في بعض آرائه :" إلا أنها شهدت بأنه كان يقصد وجه الحق فيما يأتي ، وأنه حريصاً كل الحرص على إصابة الحق في أقواله وأفعاله ..." .
هذا هو منهج الشيخ رحمه الله الذي سلكه في محاورة من اجتهد فأخطأ ، أو حاد عن الصواب ، أو ند عن الطريق ، أو زاغ عن الحق ، ولا شك أنه استمده من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم صاغه بأسلوبه المميز ، وطابعه الخاص ، وبلوره بلورة مناسبة العصر ، فصار مثالاً حياً رائعاً لآداب الإسلام وهديه في معاملة المخالفين بالتي هي أحسن ، وإيصال الحق إليهم بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة ، والاستفادة من ذلك في تعميم الخير ونشره بين المسلمين ، فجزاه الله أحسن الجزاء ، وحشرنا وإياه في زمرة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء . إنه سميع الدعاء .