تتمة العشرة المبشرين بالجنة - سيدنا عمر ج 2

قصي حمدان

New Member
تتمة : سيدنا عمر بن الخطاب : عدله وإصغاؤه للحق .
له مقالٌ مشهور : " كلمة الحق ، لا خير فيكم إن لم تقولوها ، ولا خير فينا إن لم نسمعها " .
مرةً صعد المنبر رضي الله عنه وقال للناس جميعاً : " يا معشر المسلمين ماذا تقولون لو مِلت برأسي إلى الدنيا هكذا ؟ " فيشق الصفوف رجل ويقول وهو يلوِّح بذراعه وكأنَّه حُسام ممشوق : " إذاً نقول بالسيف هكذا " فيسأله عمر: " إياي تعني بقولك ؟! " قال : " نعم إيّاك أعني بقولي " فما الذي حدث ؟ يتألَّق وجهه ويضئ ويبتسم ويقول : " رحمك الله ، الحمد لله الذي جعل فيكم من يقوِّم اعوجاجي "،
مرةً صعد المنبر ليحدِّث المسلمين في أمرٍ جليل ، فقد حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وقال: " أيها المسلمون اسمعوا يرحمكم الله " ، ولكن أحد المسلمين نهض وقال : " واللهِ لا نسمع ، واللهِ لا نسمع " ، فسأله عمر في لهفة : " ولمَ يا سلمان ؟ " فيجيب سلمان : " ميَّزت نفسك علينا في الدنيا ، أعطيت كلاً منا بردةً واحدة ، وأخذت أنت بردتين ، والله لا نسمع والله لا نسمع والله لا نسمع " سيدنا عمر ينظر في المصلِّين ، ويجيل الطرف فيهم إلى أن يرى ابنه عبد الله ، ويقول : " أين عبد الله بن عمر ؟ " فنهض عبد الله ، وقال له : " ها أنا ذا يا أمير المؤمنين " ، فسأله عمر على الملأ : " من صاحب البردة الثانية ؟ " ، فيجيب عبد الله : " أنا يا أمير المؤمنين " ، ويخاطب عمر سلمان ، والناس معه : " إنني كما تعلمون رجلٌ طويل ( فقد كان فارع الطول ) ، ولقد جاءت بردتي قصيرة ، فأعطاني عبد الله بردته ، فأطلت بها بردتي" ، فيقول سلمان الذي اعترض وفي عينيه دموع الغبطة والثقة : "الحمد لله، والآن نسمع ، ونطيع يا أمير المؤمنين " ، هل من نزاهةٍ بعد هذه النزاهة ؟.
مرةً كان على المنبر ، واجتهد اجتهاداً ، ولم ينتبه رضي الله عنه إلى آيةٍ في كتاب الله ، قال : "أيها الناس ، لا تزيدوا مهورَ النساء على أربعين أوقية ، فمن زاد ألْقَيت الزيادة في بيت المال " ، فنهضت من بين أواخر الصفوف امرأةٌ وقالت : " ليس هذا لك يا عمر " ، فيسألها : " ولمَ ؟ فتجيبه بأن الله تعالى يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا و إثما مبينا ) ( سورة النساء – 20 )
أيضاً يتألَّق وجه هذا الخليفة العظيم ويبتسم ويقول عبارته الشهيرة: " أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر".
وحينمـا عزل سيدنا خالدًا ، وقصة عزله تعرفونها ، وما عزله إلا مخافة أن يفتتن الناس به ، لكثرة ما أبلى في سبيل الله ، حينما أجرى على يديه نصراً مؤزراً ، نصراً تلو نصرٍ تلو نصرٍ ، توهَّم الناس أنه ما من معركةٍ فيها خالد إلا والنصر حليف المسلمين ، فخشي هذا الخليفة أن يتوهَّم الناس أن النصر من عند خالد ، فعزله إنقاذاً لعقيدة التوحيد ، وتثبيتًا لهم ، وربطاً لهم بالله عزَّ وجل ، لكن هناك أقاويل كثيرة فشت بين الناس ، فقال لهم مرةً : " إني أعتذر إليكم من عزل خالد ، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطى ذوي البأس ، وذوي الشرف ، وذوي اللسان " فنهض أبو عمرو بن حفص بن المغيرة وقال : "واللهِ ما أعذرت يا عمر ، لقد نزعت فتًى ولاَّه رسول الله ، وأغمدت سيفاً سلَّه رسول الله ، ووضعت امرأً رفعه رسول الله ، وقطعت رحماً ، وحسدت بني العم" ، لكن سيدنا عمر ما بالى بهذا الكلام ، يعرف لماذا عزل هذا القائد الشجاع ، عزله لحكمةٍ راجحةٍ عنده ، عزله إنقاذاً لعقيدة الناس ولم يعبأ بهذه التأويلات التي جرت على لسانه ، فقال له مخاطباً : " إنك قريبٌ قرابةً حديث السن ، تغضب في ابن عمِّك " ، لكن والله يا أبا سليمان ( خاطب سيدنا خالد ) ما عزلتك إلا مخافة أن يفتتن الناس بك ، لكثرة ما أبليت في سبيل الله " ، هذا هو الموقف الصحيح ، وهذا التفسير الذي تطمئن له نفوس المؤمنين .
لكن سيدنا عمر كما قلت لكم من قبل : ليس بالخب ، أي ليس من الخبث حيث يكون خِباً ، أي ماكراً خدَّاعاً ، لكن ليس من السذاجة والبساطة أيضاً حيث يسمح لأحدٍ أن يحتال عليه ، قال : " لست بالخِب ، ولا الخِبُّ يخدعني " ، فكل إنسان كان يمدحه مديحاً كاذباً يبتغي أن يصل إلى قلبه كان هذا الصحابي الجليل يرفض هذا المديح .
ومرةً رأى سيدنا عمر إنسانًا يصيح بأعلى صوته ، ويقول : " من صاحب هذه الّلوزة " ، وذلك أثناء الطواف حول الكعبة ، رأى في الأرض لوزةً ، فرفع عقيرته وقال : " من صاحب هذه الّلوزة"، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن قال له : " كُلها يا صاحب الورع الكاذب " ، أي كلها واكْفِنا شرَّك ، فقد كان مع تقديره الشديد للمؤمنين سيفاً مُسلَّطاً على المنافقين .
وقولته الشهيرة التي ذهبت مضرب المثل ، والتي أعلنت حقوق الإنسان قبل أن تُعْلَنَ في فرنسا بألف عام ، قال : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتم أمهاتهم أحراراً " .
و لهذا الصحابي مواقف كثيرة وجليلة تدل على أن هذا الخليفة العظيم سوّى نفسه مع أضعف الناس ومع أفقر الناس ، مرةً في عام المجاعة شعر أن أمعاءه تضطرب فخاطب بطنه ، وقال : ((قرقر أيها البطن ، أو لا تقرقر ، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين)) .
ذات مرةٍ جاءه من واليه على أذربيجان طعامٌ نفيس ، دخل هذا الرسول المدينة في منتصف الليل فكره أن يوقظ أمير المؤمنين ، فتوجَّه إلى المسجد النبوي الشريف ، في المسجد سمع صوت رجلٍ يصلي ويبكي ويناجي ربَّه ، ومما سمع من كلام هذا الرجل : ((ربي هل قبلت توبتي فأهنّئ نفسي أم ردتها فأعزيَها ؟ " فقال هذا الرسول : " من أنت يرحمك الله ؟ " قال : " أنا عمر " قال : " يا سبحان الله ألا تنام الليل ؟! " هو كره أن يترك بابه ليلاً لئلا يوقظه فإذا هو يصلي في المسجد ، فيجيبه هذا الخليفة العظيم : (( أنا إن نمت ليلي كلَّه أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت نهاري أضعت رعيَّتي)) ، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :" إن لله أعمالاً لا يقبلها بالليل "
فسأله سيدنا عمر " ما هذا ؟ " قال : " حلوى يصنعها أهل آذربيجان وقد أرسلني بها إليك عُتبة بن فرقد " وكان والياً على أذربيجان ، فذاقها عمر فوجد لها مذاقاً شهياً ، فسأل الرسول : " أوكل المسلمين هناك يطعمون هذا ؟ " قال الرجل : لا وإنما هو طعام الخاصة " . فأعاد عمر إغلاق الوعاء جيداً وقال للرجل : " أين بعيرك ؟ خذ حملك هذا وارجع به لعتبة ، وقل له : عمر يقول لك : اتق الله واشبع مما يشبع منه المسلمون " .
مرة خرج إلى السوق في جولةٍ تفتيشية فيرى إبلاً سمينةً تمتاز عن بقية الإبل بنموِّها وامتلائها ، يسأل عمر بن الخطاب : (( إبل مَن هذه ؟ فقالوا : هي أبل عبد الله بن عمر ابنك ، وانتفض أمير المؤمنين ، وكأن القيامة قد قامت ، وقال : عبد الله بن عمر !! بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين " (أي الله يعينك ) ، وأرسل في طلبه فوراً ، وأقبل عبد الله يسعى ، وحين وقف بين يدي والده أخذ عمر يفتل سبلة شاربه ، وتلك عادته إذا أهمَّه أمرٌ خطير ، فأحياناً الإنسان يحكُّ رأسه ، أو يحرِّك ثيابه ، كل إنسان له طريقة إذا أمر خطير وهو يفكِّر ، فقال : " بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين ، ما هذه الإبل يا عبد الله ؟ " فأجاب : " إنها إبلٌ أمضاء ( يعني هزيلة ) اشتريتها بمالي ، وبعثت بها إلى الحِمى ( أي إلى المرعى ) أُتاجر فيها ، وأبتغي ما يبتغي المسلمون ، فماذا صنعت ؟ وأيّ ذنبٍ ارتكبته ، وأية خطيئةٌ وقعت فيها ؟ اشتريت إبلاً أمضاء يعني هزيلة ، اشتريتها بمالي ، وماله حلال ، وبعث بها إلى الحمى ، أي إلى المرعى لتسمن حتى يبيعها فيبتغي ما يبتغي المسلمون ، فقال عمر متهكماً تهكُماً لاذعاً : " ويقول الناس حين يرونها : ارعَوْا إبل ابن أمير المؤمنين ، اسقُوا إبل ابن أمير المؤمنين ، وتسمن إبل ابن أمير المؤمنين ، فبع هذه الإبل ، وخذ رأس مالك منها ، واجعل الربح في بيت مال المسلمين)) .
مرةً قدم بعض تجَّار المدينة وخيَّموا عند مشارفها ، وقد أراد هذا الخليفة العظيم أن يقوم بجولةٍ تفتيشيةٍ في أطراف المدينة ، فاصطحب معه عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة ، وكان الليل قد تصرّم ( أي مضى جزءٌ كبير منه ) ، واقترب الهزيع الأخير منه ، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها ، وقال عمر لعبد الرحمن : "فلنمض بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا " ، سيدنا عمر الخليفة العظيم جلس ليحرس هذه القافلة ، ويحرس أموالها ، وإذ هما جالسان سمع صوت بكاء صبي ، فانتبه عمر ، وصمت ، وانتظر أن يكُفَّ الصبي عن بكائه ، ولكنه تمادى فيه ، فمضى يسرع صوبه ، وحينما اقترب منه سمع أمَّه تنهنهه ، قال لها : " اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " أي أرضعيه ، ثم عاد إلى مكانه وبعد حينٍ عاود الصبيُّ البكاء ، فهرول نحوه عمر ، ونادى أمَّه : " قُلت لك اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " وعاد إلى مجلسه ، بيد أنه لم يكد يستقرّ حتى زلزله مرةً أُخرى بكاء الصبي ، فذهب إلى أمه وقال لها : " ويحك إني لأراكِ أمَّ سوء ، ما لصبيِّك لا يقرُّ له قرار ؟!! " أي لما لا ترضعيه ؟ قالت وهي لا تعرفه : " يا عبد الله قد أضجرتني ، إني أحمله على الفِطام فيأبى " سألها عُمر : " ولما تحملينه على الفِطام ؟ " قالت : " لأن عمر لا يفرض العطاء إلا للفطيم " أي أن التعويض لا يعطيه إلا للفطيم . قال وأنفاسه تتواثب : " وكم له من العمر " قالت : " بضعة أشهر " قال : " ويحك لا تعجليه " يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف ، كأن سيدنا عمر صُعق، وأمسك رأسه بيديه وأغمض عينيه وقال: " ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين " عدَّ نفسه قاتلاً لأنه أمر أن يُنفق التعويض على هذا الغُلام بعد الفطام ، إذاً أكثر الأمهات يحملن أطفالهن على الفِطام قبل الأوان من أجل أن تأخذ الأم تعويض غلامها .
ثم أمر منادياً نادى في المدينة : " لا تعجلوا على صبيانكم بالفطام ، فإنا نفرض من بيت المال لكلِّ مولودٍ يولد في الإسلام " من دون فطام ، وذهب ليصلي الفجر مع أصحابه ، فالناس ما استبانوا قراءته من شدته بكائه ، وكان يقول : " يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين " .
فقد رأى هذا الخليفة هذه الولاية عبئاً كبيراً يثقل ظهره ، لذلك كثيراً ما كان يقول : " ليت أم عمر لم تلد عمر ، ليتها كانت عقيما " .
وكثيراً ما كان يقول : " أتمنى أن ألقى الله عزَّ وجل لا لي ولا علي" أي رأساً برأس .
وهناك قصة أيضاً لغرابتها تكاد لا تصدق : محمد بن سلمة يدخل على سيدنا عمر ورفع له أمرًا أنّ ابن سيدنا عمرو بن العاص ضرب رجلاً في مصر لأنه سبقه ، رفع هذا الأمر إلى سيدنا عمر ، أول شيء فعله عمر ، قال : أرسل أمير المؤمنين يدعو عمرو بن العاص وابنه محمداً ، وَلْنَدَعْ أنس بن مالك يروي لنا النبأ كما شهده، ورآه بعينيه ، قال :" فو الله إنا لجلوسٌ عند عمر وإذا عمرو بن العاص يقبل في إزارٍ ورداء ، فجعل عمر يتلفت باحثاً عن ابنه محمد ، فإذا هو خلف أبيه ، الاثنان أتيا من مصر ، أي من مسافة شهر ، فقال سيدنا عمر : أين المصري ؟ فقال المصري : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : خذ الدُرة واضرب بها ابن الأكرمين ، ابن سيدنا عمرو بن العاص الذي تسابق مع هذا المصري ، والمصري سبقه ، فلم يرض بهذا الهون ، أمسك درةً وضرب بها هذا المصري الذي سبقه ، وقال له : أتسبق ابن الأكرمين ؟ يجب ألاَّ تسبقني ، قال عمر : خذ الدُرة ، واضرب بها ابن الأكرمين ، فضربه حتى أثخنه قال : ونحن نشتهي أن نضربه ( الصحابة )، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ، وعمر يقول : اضرب اضرب ابن الأكرمين ، ثم أشار عمر إلى العصا وقال : أجلها على صلعة عمرو ، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه ، لو لم يكن ابنه لما ضربك ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت وضربت من ضربني ، قال عمر : أما والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه ، ثم التفت إلى عمرو ، وقال : يا عمرو متى استعبَدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
والي مصر يأتي مع ابنه ، يقطع مسافاتٍ شاسعة ، ليقتص عمر من ابنه لأنه ضرب هذا المصري ولا ذنب له إلا أنه سبقه ، ثم قال :" أجلها على صلعة عمرو .. لماذا ؟ لولا أنه ابنك لما فعل هذا ، فعل هذا بسلطانك .
مرةً تلقى شكوى ضد والٍ من ولاته ، اسمه سعيد بن عامر الجُمَحي ، فيها ثلاثةُ مآخذ ، أولها أنه لا يخرج إلى الناس حتى يتعالى النهار ، وثانيها أنه لا يجيب أحدًا بليل ، وثالثها أنه يغيب عن الناس كل شهرٍ يوماً فلا يرى أحداً ولا يراه أحد ، استدعاه عمر ، وواجهه بالشاكين ، وقال لهم : تكلموا ، قالوا : لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار ، فقال الوالي : والله يا أمير المؤمنين إني كنت أكره أن أذكر السبب ، ليس لأهلي خادم فأنا أعجن معهم عجيني ، ثم أجلس حتى يختمر ، ثم أخبز خبزي ، ثم أتوضأ وأخرج إليهم ، فأشرقت ملامح عمر ، قال : السؤال الثاني ، قالوا : لا يجيب أحداً بليل ، قال : والله إني كنت أكره ذكر ذلك ، إني جعلت النهار لهم ، والليل لي ، أي أن الليل يقضيه عبادةً لله عزَّ وجل ، فقال : اسألوه السؤال الثالث ، قال : إن له في الشهر يوماً لا يقابل فيه أحداً ، قال سعيد: ليس لي خادمٌ يغسل ثيابي ، ففي هذا اليوم أغسلها ، وأنتظرها حتى تجف ، ثم أخرج إليهم آخر النهار " ، سيدنا عمر ملأ قلبه السرور والغبطة ، بأن هذا الوالي على شاكلته ، وقد أعطى الأجوبة الكافية .
تواضعه وخدمته .
هذا الصحابي الجليل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، ليس له مكان الصدارة في المجلس ، ينام حيـث يدركه النوم فوق الحصير في داره ، أو فوق الرمال ، أو تحت ظل النخيل ، يأكل ما يجد ، وما يقيم الأوَد لا غير ، شريحةٌ من لحمٍ مقدد ، أو شريحةٌ من خبزٍ مبللةٌ بالزيت متبلةٌ بالمِلح ، هو سعيدٌ حينما يسمع امرأةً أو غلاماً يناديه : يا عمر ، من دون لقب ، وهو في سعادةٍ لو علمها ملوك الأرض لحسدوه عليها ، حينما يرى عجوزاً تحمل مكتلاً يؤودُها حمله يتقدَّم منها ، ويحمله عنها بعض الطريق ، ويضحك ملء نفسه ، وهو يسمعها تقول شاكرةً له : " أثابك الله الخير يا بُنَي ، إنك لأحقُّ بالخلافة من عمر " .
مرةً كان يمشي في طرق المدينة وقد رأى غِلماناً صغاراً يجتمعون ، وكان صاحب هيبةً شديدة، فلما رأوه تفرقوا ، وقال حينما وصل إلى واحدٍ منهم ، وهو سيدنا عبد الله بن الزبير وكان طفلاً صغيراً ، قال: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ قال : أيها الأمير ، لست ظالماً فأخشى ظُلمك ، ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك .
وهذه لفتة من لفتات سيدنا عمر قال : " إن هذه الأيدي خلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ".
لمّا جاءه جبلة بن الأيهم مسلماً وهو مَلِك من ملوك العرب ، سيدنا عمر رحّب به ، ولماذا رحّب به ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " أنزلوا الناس منازلهم " ، ومن الأدب أن تعطي كل ذي حقٍ حقه ، ولكل إنسانٍ مكانته ومقامه ، رحّب به أشد الترحيب ، وفي أثناء الطواف بينما كان جبلة يطوف البيت ، فإذا ببدويٍ من فزارة يدوس طرف ردائه دون أن يقصد ذلك ، فانخلع الرداء من على كتف هذا الملك ، فالتفت نحو هذا الإعرابي وضربه ضربةً على أنفه فهشمته ، هذا البدوي من فزارة ليس له إلا أمير المؤمنين ، فتوجه إليه شاكياً ، فما كان من عمر الخليفة إلا أن استدعاه ، وقال : أصحيحٌ ما ادعى هذا الفزاري الجريح ، قال : نعم ، لست ممن ينكر شيئاً ، أنا أدّبتُ الفتى ، أدركت حقـي بيدي ، أنا ملك ، قال له : أرضِ الفتى ، لا بدَّ من إرضائه ، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشِّمنَّ الآن أنفك ، (أي خاطب الملك) ، وتنال ما فعلته كفك ، فصعق جبلة وقال : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟ هو سوقةٌ ، وأنا عرشٌ وتاج ، هذا من عامة الناس ، وسوقتهم ، ودهمائهم ، وعامتهم ، وأنا عرشٌ وتاج، كيف ترضى أن يخِرَّ النجم أرضًا ، قال له سيدنا عمر : هذه نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدًا ، قال جبلة : كان وهماً ما جرى في خلدي ، أنني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني ، فقال له سيدنا عمر : عنق المرتد بالسيف تحزُّ ، عالمٌ نبنيه ، كلُّ صدعٍ فيه بشبا السيف يداوى ، وأعز الناس بالعبد الصعلوك تساوى ، عدل ورحمة .
كذلك قال لهم : " أيها الناس ، لكم علي ألا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ، ولكم علي ألا أنفق من هذه الأموال شيئاً إلا بحقه ، وإذا غبتم في البعوث ، فأنا أبو العيال حتى ترجعوا " .
له قول شهير قال :"لأن أُعَطِّل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات ".
هناك أشخاص أصلحهم الله يظنون خطأً أن سيدنا عمر عطّل حدَّ قطع يد السارق ، لا إنه لم يعطلها إطلاقاً ، لكن أصبحت إقامة الحد في زمن المجاعة تكتنفها شبهة ، لأنّ في الناس جوعًا ، فإذا كان حول السارق شبهة في سرقته ، كأنْ سرق من مالٍ يظن أن له فيه حقاً فلا يجوز قطع يده، أو سرق من مال فيه شبهة فلا يجوز قطع يده فيه .
مرة خرج في إحدى الليالي يتفقد أحوال أهل المدينة فسمع سيدةً تشكو بثها وحزنها ، وتقول شعراً :
تطاول هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي حليلٌ ألاعبه
فوالله لولا الله لا ربَّ غيـره لزلزل من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدنـي وأكرم بعلي ، أن تنال ركائبه
ثم قالت : أهكذا يهون على عمر وحشتنا وغيبة رجلنا عنا ؟ سيدنا عمر بحث ودقق وحقق ، فإذا هذه المرأةٌ زوجها في الجهاد ، وعند الصباح يذهب عمر إلى ابنته حفصة ويسألها : " يا بنيتي كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فتجيبه : تصبر شهراً وشهرين وثلاثة وينفد مع الشهر الرابع صبرها، فيسن من فوره قانوناً بأن لا يغيب في الجهاد جنديٌ متزوج أكثر من أربعة أشهر ، ويرسل إلى زوج السيدة يستدعيه من فوره .
مرة سمع عمرُ شيخًا كبيرًا يبكي في شعر جزل ، يبكي ولدَه الوحيد الذي طال غيابه عنه ، سأل عنه عمر ، فتبين أنه في الجهاد ، فاستدعاه على الفور ، ثم سَنَّ قانوناً : ألاّ يخرج إلى الجهاد مَن له أبوان كبيران ، إلا بعد إذنهما ، ألم يقل له النبي : ففيهما فجاهد ، فبر الوالدين مثل الجهاد تماماً.
كراماته
أخرج البيهقي و أبو نعيم ، كلاهما في دلائل النبوة ، و اللالكاني في شح السنة ، و الدير عاقولي في فوائده ، و ابن الأعرابي في كرامات الأولياء و الخطيب في رواة مالك عن نافع عن ابن عمر ، قال : وجه عمر جيشاً ، و رأس عليهم رجلاً يدعى سارية ، فبينما عمر يخطب جعل ينادي : يا سارية الجبل ، ثلاثاً ، ثم قدم رسول الجيش ، فسأله عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين هزمنا ، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتاً ينادي : يا سارية الجبل ، ثلاثاً ، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل ، فهزمهم الله ، قال : قيل لعمر : إنك كنت تصيح بذلك و ذلك الجبل الذي كان سارية عنده بنهاوند من أرض العجم ، قال ابن حجر في الإصابة : إسناده حسن .
و أخرج أبو القاسم بن بشران في فوائده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قال عمر بن الخطاب لرجل : ما اسمك ؟ قال : جمرة ، قال : ابن من ؟ قال : ابن شهاب ، قال : ممن ؟ قال : من الحرقة ، قال : أين مسكنك ؟ قال : الحرة ، قال : بأيها ؟ قال : بذات لظى ، فقال عمر : أدرك أهلك فقد احترقوا ، فرجع الرجل فوجد أهله قد احترقوا .
و قال أبو الشيخ في كتاب العظمة : حدثنا أبو الطيب ، حدثنا علي بن داود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، عن قيس بن الحجاج ، عمن حدثه قال : لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص حين دخل يوم من أشهر العجم فقالوا : يا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها ، قال : و ما ذاك ؟ قالوا : إذا كان إحدى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها و جعلنا عليها من الثياب و الحلي أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل ، فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون أبداً في الإسلام ، و إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، فأقاموا و النيل لا يجري قليلاً و لا كثيراً ، حتى هموا بالجلاء ، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب له : أن قد أصبت بالذي قلت ، و إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، و بعث بطاقة في داخل كتابه ، و كتب إلى عمرو : إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي فألقها في النيل ، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها ، فإذا فيها : من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أما بعد : فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر ، و إن كان الله يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك ، فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم ،فاصبحوا و قد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة ، فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم .
و أخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب قال : إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذبه الكذبة فيقول : أحبس هذه ، ثم يحدثه بالحديث فيقول : احبس هذه ، فيقول له : كل ما حدثتك حق إلا ما أمرتني أن أحبسه .
خلافته ، و الأحداث التي جرت في عهده
ولي الخلافة بعهد من أبي بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ، قال الزهري : استخلف عمر يوم توفي أبو بكر ، و هو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة ، أخرجه الحاكم بالأمر أتم قيام .
عندما بويع سيدنا عمر بالخلافة ، وقف مكان سيدنا الصديق على المنبر ، وقف دقائق ، فتذكر أنّ الصديق وقف هنا ، فنزل درجة ، فلما نزل درجة أثار انتباه الحاضرين ، فقال سيدنا عمر : " ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر " فليس معقولاً أن أقف على درجته ، يقولون : لكنّ سيدنا عثمان لم ينزل درجة ، ووقف محل سيدنا عمر ، دون أن ينزل ، فأَحَد خلفاء بني أمية سأل نديمًا له ، فقال له : " لماذا لم ينزل عثمان درجة ؟ " ، ما السبب ؟ فقال له : " لو فعلها لكنت في قعر بئر " ، لأنه لو نزل كلُّ خليفة درجة فسنضّطر إلى أن نحفر الأرض ليقف الخلفاء.
و أخرج ابن سعد عن الحسن قال : أول خطبة خطبها عمر حمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فقد ابتليت بكم و ابتليتم بي ، و خلفت فيكم بعد صاحبي ، فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا ، و من غاب عنا وليناه أهل القوة و الأمانة ، و من يحسن نزده حسناً ، و من يسيء نعاقبه ، و يغفر الله لنا و لكم .
و كثرت الفتوح في أيامه :
ففي سنة أربع عشرة فتحت دمشق ما بين صلح و عنوة ، و حمص ، و بعلبك صلحاً و البصرة و الأبلة ، كلاهما عنوة .
و فيها جمع عمر الناس على صلاة التراويح ، قله العسكري في الأوائل .
و في سنة خمس عشرة فتحت الأردن كلها عنوة إلا طبرية فإنها فتحت صلحاً ، و فيها كانت وقعة اليرموك و القادسية .
قال ابن جرير : و فيها مصر سعد الكوفة و فيها فرض عمر الفروض ، و دون الدواوين . و أعطى العطاء على السابقة .
و في سنة ست عشرة فتحت الأهواز و المدائن ، و أقام بها سعد الجمعة في إيوان كسرى ، و هي أول جمعة جمعت بالعراق ، و ذلك في صفر ، و فيها كانت وقعة جلولاء ، و هزم فيها يزدجرد بن كسرى و تقهقر إلى الري ، و فيها فتحت تكريت ، و فيها سار عمر ففتح بيت المقدس و خطب بالجابية خطبته المشهورة ، و فيها فتحت قنسرين عنوة ، و حلب ، و إنطاكية ، و منبج صلحاً ، و سروج عنوة ، و فيها فتحت قرقيسياء صلحاً و في ربيع الأول كتب التاريخ من الهجرة بمشورة علي .
و في سنة عشرة زاد عمر في المسجد النبوي ، و فيها كان القحط بالحجاز ابن سعد و سمي عام الرمادة ، و استسقى عمر للناس بالعباس .
أخرج ابن سعد عن نيار الأسلمي أن عمر لما يستسقي خرج و عليه برد رسول الله صلى الله عليه و سلم . و أخرج عن ابن عون قال : أخذ عمر بيد العباس ثم رفعها و قال : اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك أن تذهب عنا المحل ، و أن تسقينا الغيث ،فلم يبرحوا حتى سقوا ، فأطبقت السماء عليهم أياماً ، و فيها فتحت الأهواز صلحاً .
و في سنة ثمان عشرة فتحت جند يسابور صلحاً ، و حلوان عنوة ، و فيها كان طاعون عمواس ، و فيها فتحت الرها ، و سميساط عنوة ، و حران ، و نصيبين ، و طائفة من الجزيرة عنوة ـ و قيل : صلحاً ـ و الموصل و نواحيها و الموصل و نواحيها عنوة . و في سنة تسع عشرة فتحت قيسارية عنوة .
و في سنة عشرين فتحت مصر عنوة ، و قيل : مصر كلها صلحاً إلا الإسكندرية فعنوة ، و قال علي بن رباح : المغرب كله عنوة ، و فيها فتحت تستر ، و فيها هلك قيصر عظيم الروم ، و فيها أجلى عمر اليهود عن خيبر و عن نجران ، و قسم خيبر و وادي القرى .
و في سنة إحدى و عشرين فتحت الإسكندرية عنوة ، و نهاوند ، و لم يكن للأعاجم بعدها جماعة ، و برقة و غيرها .
و في سنة اثنتين و عشرين فتحت أذربيجان عنوة ، و قيل : صلحاً ، و الدينور عنوة ، و ماسبذان عنوة ، و همذان ، و طرابلس المغرب ، و الري ، و عسكر و قومس .
و في سنة ثلاث و عشرين كان فتح كرمان ، و سجستان ، و مكران من بلاد الجبل ، و أصبهان و نواحيها .
مقتله ووصيته
قال عمرو بن ميمون الأنصاري : إن أبا لؤلؤة عبد المغيرة طعن عمر بخنجر له رأسان ، و طعن معه اثني عشر رجلاً مات منهم ستة ، فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوباً ، فلما اغتم فيه قتل نفسه .
و قال أبو رافع : كان أبو لؤلؤة عبد المغيرة يصنع الأرحاء ، و كان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم ، فلقي عمر فقال : يا أمير المؤمنين ، إن المغيرة قد أثقل علي فكلمه ، فقال : أحسن إلى مولاك ـ و من نية عمر أن يكلم المغيرة فيه ـ فغضب و قال : يسع الناس كلهم عدله غيري ، و أضمر قتله ، و اتخذ خنجراً و شحذه و سمه ، و كان عمر يقول [ أقيموا صفوفكم ] قبل أن يكبر ، فجاء فقام حذاءه في الصف ، و ضربه في كتفه و في خاصرته فسقط عمر و طعن ثلاثة عشر رجلاً معه فمات منهم ستة ، و حمل عمر إلى أهله ، و كادت الشمس أن تطلع ، فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس بأقصر سورتين ، و أتى عمر بنبيذ فشربه فخرج من جرحه فلم يتبين ، فسقوه لبناً فخرج من جرحه ، فقالوا : لا بأس عليك ، فقال : إن يكن القتل بأس فقد قتلت ، فجعل الناس يثنون عليه و يقولون : كنت و كنت ، فقال : أما و الله و ودت أني خرجت منها كفافاً لا علي و لا لي ، و أن صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم سلمت لي ، و أثنى عليه ابن عباس فقال : لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع ، و قد جعلتها شورى في عثمان ، و علي ، و طلحة ، و الزبير ، و عبد الرحمن بن عوف ، و سعد ، و أمر صهيباً أن يصلي بالناس ، و أجل الستة ثلاثاً . أخرجه الحاكم .
و قال ابن عباس : كان أبو لؤلؤة مجوسياً .
و قال عمر بن ميمون : قال عمر : الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام ، ثم قال لابنه : يا عبد الله ، انظر ما علي من الدين ، فحسبوه فوجدوه ستة و ثمانين ألفاً أو نحوها ، فقال : إن وفى مال آل عمر فأده من أموالهم ، و إلا فاسأل في بني عدي ، فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ، اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل : يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه ، فذهب إليها ، فقالت : كنت أريده ـ تعني المكان ـ لنفسي ، و لأوثرنه اليوم على نفسي ، فأتى عبد الله فقال : قد أذنت ، فحمد الله تعالى ، و قيل له : أوص يا أمير المؤمنين و استخلف ، قال : ما أرى أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو عنهم راض فسمى الستة ، و قال : يشهد عبد الله بن عمر معهم و ليس له من الأمر شيء ، فإن أصابت الأمرة سعداً فهو ذاك ، و إلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله من عجز و لا خيانة ، ثم قال : أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله ، و أوصيه بالمهاجرين و الأنصار ، و أوصيه بأهل الأمصار خيراً ، في مثل ذلك من الوصية ، فلما توفي خرجنا به نمشي ، فسلم عبد الله بن عمر و قال : عمر يستأذن ، فقالت عائشة : أدخلوه ، فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه ، فلما فرغوا من دفنه و رجعوا اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن بن عوف : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، فقال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، و قال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن ، و قال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، قال : فخلا هؤلاء الثلاثة ، فقال عبد الرحمن ، أنا لا أريدها ، فأيكما يبرأ من هذا الأمر و نجعله إليه ؟ و الله عليه و الإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه و ليحرصن عل صلاح الأمة ، فسكت الشيخان علي و عثمان ، فقال عبد الرحمن : اجعلوه إلي و الله علي لا آلوكم عن أفضلكم ، قالا نعم ، فخلا بعلي و قال : لك من القدم في الإسلام و القربة من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قد علمت ، الله عليك لئن أمرتك لتعدلن و لئن أمرت عليك لتسمعن و لتطيعن ؟ قال : نعم ، ثم خلا بالآخر فقال له كذلك ، فلما أخذ ميثاقهما بايع عثمان و بايعه علي .
و في سند أحمد عن عمر أنه قال : إن أدركني أجلي و أبو عبيدة بن الجراح حي استخلفه ، فإن سألني ربي قلت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " إن لكل نبي أميناً و أميني أبو عبيدة بن الجراح " فإن أدركني أجلي ـ و قد توفي أبو عبيدة ـ استخلف معاذ بن جبل ، فإن سألني ربي : لم استخلفته ؟ قلت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة " و قد ماتا في خلافته .
أصيب عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ، و دفن يوم الأحد مستهل المحرم الحرام ، و له ثلاث و ستون سنة ، و قيل : ست و ستون سنة ، و قيل : إحدى و ستون ، و قيل : ستون ، و رجحه الواقدي و قيل : تسع و خمسون ، و قيل : خمس أو أربع و خمسون ، و صلى عليه صهيب في المسجد و أخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن أبي راشد البصري قال : قال عمر لابنه : اقتصدوا في كنفي ، فإنه إن كان لي عند الله خير أبدلني ما هو خير منه ، و إن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع سلبي ، و اقتصدوا في حفرتي ، فإنه إن كان لي عند الله خير أوسع لي فيها مد بصري ، و إن كنت علي غير ذلك ضيقها علي تختلف أضلاعي ، و لا تخرج معي امرأة ، و لا تزكوني بما ليس في ، فإن الله هو أعلم بي فإذا خرجتم فأسرعوا في المشي ، فإنه إن كان لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي ، و إن كنت على غير ذلك ألقيتم عن رقابكم شراً تحملونه .
و في تهذيب المزني كان نقش خاتم عمر [ كفى بالموت واعظاً يا عمر ] .
تم والحمد لله رب العالمين
و لمن أراد سيرة الفاروق كاملة فهي في المرفقات
يتبع لاحقا بإذن الله
 

المرفقات

  • الفاروق عمر.pdf
    296.9 KB · المشاهدات: 9
جزاك الله خيرا اخي على هذا المجهود اخي قصي تحيـــــــاتي لك اخي الحبيب​
 
تحياتي لك يا حبيبي يا د/قصي
والله ما يقدر علي هذا المجهود إلا غيرك
بارك الله فيك
 
عودة
أعلى