الذات والصفات بين السلفية والأشاعرة والمعتزلة

mohamadamin

حكيم المنتدى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،

فهذا بحث مختصر يتعلق بأمرٍ مهم؛ ألا وهو وصف الله تعالى، وبيان ما يستحقه سبحانه من التعظيم والتبجيل، وتنزيهه عما لا يليق به، إذ هو القدُّوس السلام، المنُزَّه عن كل عيب ونقص. وقد خاض الناس في أوصاف الله تعالى وذاته منذ قديم الدهر، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بالخالق إلا من انتكست فطرته، ومفطورة على العلم بأن الخالق سبحانه مُنزّهٌ عن العيوب والآفات، وهذا الخوض قد دخل في جسد هذه الأمة فاختلفت كلمتهم فيما يتعلق بذات الله وصفاته، وانقسموا بسبب ذلك فرقاً وأحزاباً. ومن أشهر الفرق الإسلامية التي خاضت في غور هذا الباب: المعتزلة والأشاعرة والسلفيّة.
ولمَّا كان هذا الباب مهماً، أحببت أن أبيَّن مُعتقد كلٍّ من هذه الفرق الثلاث في ذات الله وصفاته، وأذكر ذلك من أقوالهم ومصادرهم، وأبيّن وجه الاتفاق والاختلاف، ثم أذكر ما يظهر لي أنه الحق من بين هذه المقالات ملتزماً الإنصاف والعدل.
وقد قسمت البحث إلى مباحث، وخرّجت الآيات والأحاديث، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به، وإلا خرجته من كتب السنن الأربعة، وإلا ذكرت مصدره.
والله أسأل أن يلهمنا رشدنا، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

M

المطلب الأوّل
التعريف بـالأشاعرة والمعتزلة والسلفيّة
أولاً: الأشاعرة
جاء في «الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة»: (الأشاعرة: فرقة كلامية إسلامية، تُنسب لأبي الحسن الأشعري الذي خرج على المعتزلة. وقد اتخذت الأشاعرة البراهين والدلائل العقلية والكلامية وسيلة في محاججة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية على طريقة ابن كلاب)[1].
وأصل عقيدة الأشاعرة مأخوذة من عبد الله بن سعيد بن كلاّب القطان، إذ أن أبا الحسن الأشعري قد كان على مذهب المعتزلة فترة من الزمن وذلك في الفترة التي عاش فيها في كنف أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره، وتلقى علومه حتى صار نائبه وموضع ثقته. ولم يزل أبو الحسن يتزعم المعتزلة أربعين سنة، حتى ثار عليهم ورجع عن معتقده بعدما تأثر بابن كلاّب، وهذا التحول يمثل المرحلة الثانية لأبي الحسن الأشعري.
وقد اختلف العلماء في المرحلة الثالثة لأبي الحسن، وهي المرحلة التي تُمثّل رجوعه عن معتقد ابن كلاّب إلى مذهب السلف وعقيدة الإمام أحمد، وهي التي نصرها في آخر كتبه وهو «الإبانة»، فأثبتها الذهبي وابن كثير وآخرين، ونفاها عامة الأشاعرة.
ثانياً: المعتزلة
جاء في «الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة»: (المعتزلة: فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي، وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية)[2].
وأصل ظهور المعتزلة كان بسبب اعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري، وعقد حلقة خاصة به، فقال الحسن البصري: (اعتزلنا واصل).
وكان اعتزال واصل بن عطاء هو القول بأن فاعل الكبيرة بمنزلة بين المنزلتين، لا هو بمؤمن ولا هو بكافر، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فوافقوا الخوارج بأنهم كفار.

ثالثاً: السلفيَّة
السلفيَّة فرقة تقوم على أساس الدعوة إلى الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة، ومصدر العقيدة عندهم هو كتاب الله وسنة رسوله r وإجماع السلف الصالح.
والنقل مُقدّم على العقل، فالعقل تابع عندهم لا متبوع، ويقولون: بأن العقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح. وهم يلتزمون الألفاظ الشرعية في العقائد، ويرون أن الخوض في هذا الباب لا يكون إلا بما ورد.
ولعل من أبرز رجالاتها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والإمام محمد بن عبد الوهاب.
ويقول أصحابها: إن السلفيّة في حقيقة أمرها ليست فرقة من الفرق، بل هي امتداد لما كان عليه السلف الأولين من الصحابة والتابعين، وينكرون على من ظن وزعم أن ابن تيمية هو المؤسس أو غيره، بل يقولون أن المؤسس هو النبي r.

المطلب الثّاني
التعريف بمصطلحي: «الذات» و«الصفات»

أولاً: تعريف «الذات»
قال القاضي عياض: (فذات الشيء نفسه، وهو راجع إلى ما تقدم، أي: الذي هو كذا ذا لمن تشير إليه، وذي للمؤنث، وذاك إذا أدخلت كاف الخطاب فإنما هو إشارة إلى إثبات حقيقة المشار إليه نفسه، وقد استعمل الفقهاء والمتكلمون الذات بالألف واللام، وغلَّطهم في ذلك أكثر النحاة، وقالوا: لا يجوز أن تدخل عليها الألف واللام؛ لأنها من المُبهمات، وأجاز بعض النحاة قولهم الذات، وأنها كناية عن النفس وحقيقة الشيء، أو عن الخلق والصفات، وقد ذكرنا قولهم الذوين، وجاء في الشعر وأنه شاذ، وأما استعمال البخاري لها؛ فعلى ما تقدم من التفسير من أن المراد بها الشيء نفسه على ما استعمله المتكلمون في حق الله تعالى، ألا تراه كيف قال «ما جاء في الذات والنعوت» يريد الصفات، ففرَّق في العبارة بينهما على طريقة المتكلمين).[3]
وقال الجُرجاني: (الذاتي لكل شيء: ما يخصه ويميزه عن جميع ما عداه، وقيل ذات الشيء: نفسه وعينه، وهو لا يخلو عن العَرَض، والفرق بين الذات والشخص أنَّ الذات أعم من الشخص؛ لأن الذات تُطلق على الجسم وغيره، والشخص لا يُطلق إلا على الجسم) [4].
وهذا التعريف الذي ذكراه هو ما اصطُلح عليه في كلام المتكلِّمين الذين خاضوا في باب صفات الله تعالى وكنهه، وإلا فإن لفظ «الذات» لا يُعرف في اللغة إلا مضافاً، مثل: ذو مال، وذو جاه، وذات منصب، ونحو ذلك.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لفظ «ذات» تأنيث «ذو»، وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره، فهم يقولون: فلانٌ ذو علم وقدرة، ونفسٌ ذات علم وقدرة، وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب لفظ «ذو» ولفظ «ذات» لم يجيء إلا مقروناً بالإضافة، كقوله }فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ{ [الأنفال:1]، وقوله }عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{ [آل عمران:119]، وقول خبيب رضي الله عنه:

وذلك في ذات الإله ونحو ذلك
لكن لمّا صار النُظّار يتكلمون في هذا الباب، قالوا: إنه يُقال إنها ذات علم وقدرة، ثم إنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة، وعرَّفوه فقالوا: الذات، وهى لفظ مُولَّد ليس من لفظ العرب العرباء، ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم؛ كأبي الفتح بن برهان وابن الدهان وغيرهما، وقالوا: ليست هذه اللفظة عربية، وردَّ عليهم آخرون كالقاضي وابن عقيل وغيرهما.
وفصل الخطاب: أنها ليست من العربية العرباء، بل من المُولَّدة، كلفظ الموجود، ولفظ الماهية والكيفية ونحو ذلك، فهذا اللفظ يقتضى وجود صفات تضاف الذات إليها، فيقال ذات علم، وذات قدرة، وذات كلام)[5].
وقال ابن قيِّم الجوزيّة: (فإذا أطلقوا لفظ «الذات» من غير تقييدها بإضافة معين دلت على ماهيةٍ لها صفات تقوم بها، فكأنهم قالوا: صاحبة الصفات المخصوصة القائمة بتلك الماهية، فدلّوا بلفظ الذات على الحقيقة وصفاتها القائمة بها، ومحال أن يصح وجود ذات لا صفات لها ولا قدر، وإن فرضها الذهن فرضاً لا وجود لمتعلَّقه في الخارج إلا كما يفرض سائر الممتنعات، فالذات هي قابلة للصفات والموصوفة بالصفات القائمة بها، ومنه ذات الصدور، أي: ما فيها من خير وشر)[6].

ثانياً: مصطلح «صفة»
قال المناوي: (الصفة لغةً: النّعت، وعرفاً: الاسم الدال على بعض أحوال الذات، نحو طويل وقصير وعاقل وأحمق وغيرها)[7].
وقال الجُرجاني: (الوصف عبارة عما دل على الذات باعتبار معنى هو المقصود من جوهر حروفه أي يدل على الذات بصفة كأحمر فإنه بجوهر حروفه يدل على معنى مقصود وهو الحمرة فالوصف والصفة مصدران كالوعد والعدة والمتكلمون فرقوا بينهما فقالوا الوصف يقوم بالواصف والصفة تقوم بالموصوف وقيل الوصف هو القائم بالفاعل)[8].
وقال ابن تيمية: (والصفة والوصف تارة يراد به الكلام الذي يُوصف به الموصوف، كقول الصحابي في }قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{ [الإخلاص:1]: أُحبُّها لأنها صفة الرحمن، وتارة يُراد به المعاني التي دلَّ عليها الكلام كالعلم والقدرة)[9].




المبحث الأوَّل
الذات والصفات عند المعتزلة
اتفق المعتزلة على الإقرار بأنَّ الله تعالى لم يزل موجوداً قبل الخلائق، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ، وأنه تعالى يتصف بهذه الصفات الأربع لذاته، وليست زائدة على الذات، فراراً من تعدد القدماء. وما سوى هذه الصفات مما ورد في الكتاب والسنَّة فإنهم يتأوَّلونه، ويصرفونه عن ظاهره إلى مجازه
قال أبو الحسن الأشعري: (وأجمعت المعتزلة على أن الله لم يزل عالماً قادراً حياً)[10].
وتعتبر صفة القدرة عندهم هي أمُّ الصفات، وعليها يترتب ما عداها.
قال القاضي عبد الجبار: (اعلم، أن أوّل ما يُعرف استدلالاً من صفات القديم جل وعز إنما هو كونه قادراً، وما عداه من الصفات يترتب عليه)[11].

المطلب الأوَّل: معاني الصفات الأربعة عن المعتزلة:
1- صفة القدرة:
قال القاضي عبد الجبار فيما يجب على المكلف معرفته في هذا الباب: (والأصل في ذلك: أن تعلم أن الله تعالى كان قادراً فيما لم يزل، ويكون قادراً فيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عنها لضعف أو عجز. وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على ما لا يتناهى، وأنه لا ينحصر مقدوره لا في الجنس ولا في العدد)[12].

2- صفة العلم:
قال القاضي عبد الجبار فيما يجب على المكلف معرفته في هذا الباب: (وجملة القول في ذلك، أنه يلزمه أن يَعلمَ أنه تعالى كان عالماً فيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل أو سهو، وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح أن تُعلم عليها)[13].
3- صفة الحياة:
قال القاضي عبد الجبار فيما يجب على المكلف معرفته في هذا الباب: (وجملة القول في ذلك، أنه يجب أن يَعلم أنه تعالى كان حياً فيما لم يزل، ويكون حياً فيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال؛ لا بموت، ولا بما يجري مجرى ذلك)[14].
4- صفة الوجود:
قال القاضي عبد الجبار فيما يجب على المكلف معرفته في هذا الباب: (وجملة القول في ذلك هو أن تعلم أنه تعالى كان موجوداً فيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال، ولا تحتاج في هذا الباب إلى مثل ما احتجت إليه في باب كونه قادراً وعالماً، لأن ذلك من فرع التعلّق، وصار الحال في هذا كالحال في كونه حيّاً)[15].

المطلب الثَّاني: بيان حقيقة اتصاف الله تعالى بهذه الصفات عند المعتزلة
قال القاضي عبد الجبار في كيفية استحقاق الله تعالى للصفات الأربع التي يثبتونها، وهي القدرة والعلم والحياة والوجود: (عند شيخنا أبي علي أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع التي هي كونه قادراً عالماً حياً موجوداً لذاته.
وعند شيخنا أبي هاشم يستحقها لما هو عليه في ذاته.
وقال أبو الهذيل: إنه تعالى عالم بعلم هو هو، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي، إلا أنه لم تتلخص له العبارة. ألا ترى أن من يقول: إن الله تعالى عالم بعلم، لا يقول: إن ذلك العلم هو ذاته تعالى)[16].
وقال أبو الحسن الأشعري في اختلافهم في هذا الباب: (واختلف الذين قالوا: لم يزل الله عالماً قادراً حياً من المعتزلة فيه، أهو عالم قادر حيٌّ بنفسه، أم بعلمٍ وقدرةٍ وحياةٍ؟ وما معنى القول عالم قادر حي؟.
فقال أكثر المعتزلة والخوارج وكثير من المرجئة وبعض الزيدية: إن الله عالمٌ قادرٌ حيٌّ بنفسه، لا بعلم وقدرة وحياة، وأطلقوا أن لله علماً بمعنى أنه عالم، وله قدرة بمعنى أنه قادر، ولم يطلقوا ذلك على الحياة، ولم يقولوا: له حياة، ولا قالوا سمع ولا بصر، وإنما قالوا: قوة وعلم، لأن الله سبحانه أطلق ذلك.
ومنهم من قال: له علم بمعنى معلوم، وله قدرة بمعنى مقدور، ولم يطلقوا غير ذلك.
وقال أبو الهذيل: هو عالمٌ بعلم هو هو، وهو قادر بقدرة هي هو، وهو حي بحياة هي هو، وكذلك قال في سمعه وبصره وقدمه وعزته وعظمته وجلاله وكبريائه وفي سائر صفاته لذاته، ....
وقال عباد: هو عالمٌ قادرٌ حيٌّ، ولا أثبت له علماً ولا قدرة ولا حياة، ولا أثبت سمعاً، ولا أثبت بصراً، وأقول: هو عالمٌ لا بعلم، وقادر لا بقدرة، حيٌّ لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائر ما يُسمّى به من الأسماء التي يُسمّى بها لا لفعله، ولا لفعل غيره. ....
وقال ضرار: معنى أن الله عالم أنه ليس بجاهل ومعنى أنه قادر أنه ليس بعاجز ومعنى أنه حي أنه ليس بميت.
وقال النظَّام: معنى قولي عالم إثبات ذاته ونفي الجهل عنه، ومعنى قولي قادر إثبات ذاته ونفي العجز عنه، ومعنى قولي حيٌّ إثبات ذاته ونفي الموت عنه، وكذلك قوله في سائر صفات الذات على هذا الترتيب، ....
وقال آخرون من المعتزلة: إنما اختلفت الأسماء والصفات لاختلاف الفوائد التي تقع عندها؛ وذلك أنّا إذا قلنا «إن الله عالمٌ» أفدناك علماً به، وبأنه خلاف ما لا يجوز أن يَعلم، وأفدناك إكذاب من زعم أنه جاهل، ودللناك على أن له معلومات، هذا معنى قولنا «إن الله عالم»، فإذا قلنا «إن الله قادرٌ» أفدناك علماً بأنه لا خلاف ما لا يجوز أن يَقدر، وإكذاب من زعم أنه عاجز، ودللناك على أن له مقدورات، وإذا قلنا «إنه حيٌّ» أفدناك علماً بأنه بخلاف ما لا يجوز أن يكون حياً، وأكذبنا من زعم أنه ميت، وهذا معنى القول أنه حيٌّ، وهذا قول الجبائي قاله لي.
وقال أبو الحسين الصالحي: معنى قولي «إن الله عالم لا كالعلماء، قادر لا كالقادرين، حيٌّ لا كالأحياء» أنه شيء لا كالأشياء، وكذلك كان قوله في سائر صفات النفس، ....
وحُكي عن معمر أنه كان يقول: إن البارئ عالم بعلم، وإن علمه كان علماً له لمعنى، والمعنى كان لمعنى، لا إلى غاية، وكذلك كان قوله في سائر الصفات، ....
وقال قائلون من البغداديين: ليس معنى أن البارئ عالم معنى قادر، ولا معنى حيّ، ولكن معنى أن البارئ حيٌّ معنى أنه قادر، ومعنى أنه سميع معنى أنه عالم بالمسموعات، ومعنى أنه بصير معنى أنه عالم بالمبصرات، وليس معنى قديم عند هؤلاء معنى حيّ، ولا معنى عالم قادر، وكذلك ليس معنى القول في البارئ أنه قديم معنى أنه عالم، ولا معنى أنه حي قادر)[17].
ثم ذكر الأشعري بعد ذلك أنَّ وصف المعتزلة لله تعالى بهذه الصفات إنما هو على سبيل الحكاية عنه والأقاويل، لا على أنه موصوف بها حقيقة، فقال: (وأجمعت المعتزلة على أن صفات الله سبحانه وأسماءه هي أقوال وكلام، فقول الله إنه عالم قادر حيّ أسماء لله وصفات له، وكذلك أقوال الخلق، ولم يُثبتوا صفةً له علماً، ولا صفةً قدرة، وكذلك قولهم في سائر صفات النفس)[18].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذه –إي معاني الصفات- وتقول: إنما الصفات مجرد العبارة التي يُعبَّر بها عن الموصوف)[19].
فهم يُخبرون عن الله تعالى بأنه قادرٌ وعالمٌ وحيٌّ لا على سبيل الاتصاف بهذه الصفات، وإنما على سبيل الخبر والحكاية عنه.

المطلب الثَّالث: سبب نفيهم للصفات
بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع السبب الذي من أجله امتنع المعتزلة من إثبات ما نفوه من صفات الله تعالى، وإنكار أن يكون ما أثبتوه منها صفة لله تعالى، وهي الصفات الأربع: الوجود والعلم والقدرة والحياة.
فقال: (قالوا: لأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، لأن الصفات التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك أعراضٌ ومعانٍ تقوم بغيرها، والعَرَض لا يقوم إلا بجسم، والله تعالى ليس بجسم، لأن الأجسام لا تخلوا من الأعراض الحادثة، وما لا يخلو من الحوادث مُحدَث.
قالوا: وإذا كانت الأعراض التي هي الصفات لا تقوم إلا بجسم، والجسم مركب من أجزائه، والمركب مفتقر إلى غيره، ولا يكون غنياً عن غيره واجب الوجود بنفسه، والله تعالى غنيٌ عن غيره، واجب الوجود بنفسه.
قالوا: ولأن الجسم محدود متناهي، فلو كان له صفات لكان محدوداً متناهياً، وذلك لا بد أن يكون له مُخصِّص بقدر دون قدر، وما افتقر إلى مُخصِّص لم يكن غنياً قديماً واجب الوجود بنفسه.
قالوا: ولأنه لو قامت به الصفات لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مماثلاً لسائر الأجسام، فيجوز عليه ما يجوز عليها، ويمتنع عليه ما يمتنع عليها، وذلك ممتنع على الله تعالى)[20].
وقال في موضع آخر: (فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد، ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبَّه ليس بموحد، وأنه يثبت تعدد القدماء، لا يجعل القديم واحداً فقط، فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا، وقد يُسمُّون أنفسهم الموحدين، ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد)[21].
وقد فصَّل الأشعري أقوالهم، وذكر اختلافهم في توجيه نفيهم للصفات، وكان رحمه الله خبيراً بهم، فقال في بيان حقيقة قولهم: (الحمد لله الذي بصَّرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له، وإنه لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا عز له، ولا جلال له، ولا عظمة له، ولا كبرياء له، وكذلك قالوا في سائر صفات الله عز وجل التي يوصف بها لنفسه، وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم، ولا قادر، ولا حيٍّ، ولا سميع، ولا بصير، ولا قديم، وعبّروا عنه بأن قالوا: نقول عينٌ لم يزل، ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يُظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علمٌ وقدرةٌ وحياةٌ وسمعٌ وبصرٌ، ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك، ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك.
وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري سبحانه عالمٌ قادرٌ سميعٌ بصيرٌ في المجاز لا في الحقيقة.
– ثم ساق أقوالهم واختلافهم في نفي الصفات- )[22].








المبحث الثَّاني
الذات والصفات عند الأشاعرة
مجموع ما يثبته الأشاعرة من الصفات لله تعالى ثلاث عشرة صفة وقد قسموها على النحو التالي:

المطلب الأوَّل: أقسام الصفات عند الأشاعرة
أولاً: الصفات النفسية
وهي صفة واحدة، صفة الوجود.
قال الصَّاوي: (قوله (الوجود) أي: الذاتي، وهو صفة نفسية؛ والمراد بها: صفة ثبوتية، يدل على الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها)[23].
ثانياً: الصفات السَّلبية
قال الصَّاوي: (وهي خمسة، وتُسمى مهمات الأمهات؛ لأنه يلزم من نفي ضدِّ هذه الخمسة تنزيهه تعالى عن جميع النقائص)[24].
وهي كالتالي:
1- القِدَم:
قال الصَّاوي: (ومعنى القِدَم في حقِّه تعالى عدم الأوَّلية، أو عدم افتتاح الوجود، فالقديم هو الذي لا أوَّل له، أو الذي لا افتتاح لوجوده)[25].

2- البقاء:
قال الصَّاوي: (هو في حقه تعالى عدم الآخرية؛ أو عدم اختتام الوجود، فالباقي هو الذي لا آخر لوجوده، أو الذي لا اختتام لوجوده)[26].
3- مخالفته للحوادث:
قال الصَّاوي: (والمعنى: أن ذاته وصفاته تعالى مخالفة لكل حادث، والمخالفة لما ذُكر عبارة عن سلب الجرمية والعرضية والكلية والجزئية ولوازمها عنه تعالى)[27].
4- قيامه بالنفس:
قال الصَّاوي: (والمعنى: أنه مستغنٍ في نفسه ليس باعتبار شيء آخر)[28].
5- الوحدانية
قال الصَّاوي: (هذه الصفة هي أهم الصفات، ولذا سُمِّي علم التوحيد بها)[29].
وقال في تفسيرها: (وهذه هي الصفة الخامسة من الصفات السلبية، وقد نفت كموماً خمسة:
الكم المتصل في الذات، وهو عدم التركيب فيها.
والكم المنفصل، وهو عدم النظير.
والكم المتصل في الصفات، وهو عدم التركيب فيها.
والكم المنفصل فيها، وهو عدم النظير.
والكم المنفصل في الأفعال، وهو عدم المشارك له فيها، والمتصل فيما لا يُنفى؛ لأنه ثابت؛ لأن أفعاله كثيرة على حسب شؤونه)[30].
ثالثاً: صفات المعاني
قال الصَّاوي: (وكما تُسمّى صفات المعاني، تُسمّى الصفات الذاتية؛ لأنها لا تنفك عن الذات، والصفات الوجودية؛ لأنها متحققة باعتبار نفسها، وإضافة صفات للمعاني للبيان.
وصفات المعاني في اللغة: ما قابل الذات، فشمل النفسية والسلبية.
واصطلاحاً: كل صفة قائمة بموصوف زائدة على الذات موجِبة له حكماً)[31].
وصفات المعاني سبعٌ كالتالي:
1- القدرة:
قال البيجوري: (وهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى يوجِدُ بها ويُعدِم، وضدها العجز، والدليل على ذلك أنه لو كان عاجزاً لم يُوجَد شيءٌ من المخلوقات) [32].
2- الإرادة:
قال البيجوري: (وهي صفة قديمة قائمةٌ بذاته تعالى، يُخصص بها الممكن بالوجود وبالعدم، أو بالغنى وبالفقر، أو بالعلم أو بالجهل إلى غير ذلك، وضدها الكراهة. والدليل على ذلك أنه لو كان كارهاً لكان عاجزاً، وكونه عاجزاً محال)[33].
3- العلم:
قال البيجوري: (وهي صفة قديمة قائمةٌ بذاته تعالى يعلمُ بها الأشياء، وضدها الجهل. والدليل على ذلك أنه لو كان جاهلاً لم يكن مريداً، وهو محال)[34].
4- الحياة:
قال البيجوري: (وهي صفة قديمة قائمةٌ بذاته تعالى تُصحِّحُ له أن يتصف بالعلم وغيرها من الصفات، وضدها الموت، والدليل على ذلك أنه لو كان ميتاً لم يكن قادراً، ولا مريداً، ولا عالماً وهو محال)[35].
5- الكلام:
قال البيجوري: (وهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى ليست بحرف ولا صوت، وضدها البكم وهو الخرس. والدليل على ذلك قوله تعالى }وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً{ [النساء:164])[36].
6- السمع:
قال الصَّاوي: (وهي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بجميع الموجودات تعلُّقَ إحاطة وانكشاف)[37].
وقال البيجوري: (وضدها: الصمم)[38].
7- البصر:
قال الصَّاوي: (والحق أن تعلُّقه بالموجودات لا بالمُبصرات)[39].
وقال البيجوري عن صفتي السمع والبصر: (وهما صفتان قديمتان قائمتان بذاته تعالى ينكشف بهما الموجود، وضدهما الصمم والعمى)[40].
رابعاً: الصفات المعنوية:
وهي صفات سبع متفرعة عن صفات المعاني يُسمّونها بالصفات المعنوية، وهي كونه: حيًّا، عليماً، قادراً، مريداً، متكلماً، سميعاً، بصيراً.
قال الصَّاوي في بيان حقيقتها: (لا عين الذات ولا غيرها، وهي اعتبارية)[41].
وهذه الصفات ليست صفاتٍ وجودية، بل هي اعتبارية، المراد من ذكرها والتنصيص عليها الرد على المعتزلة الذين يمنعون قيام الصفة بالموصوف.
قال البيجوري في توجيه من أنكر الصفات المعنوية: (ومعنى إنكار المعنوية إنكار زيادتها على المعاني بحيث تكون واسطة بين الموجود والمعدوم، لا إنكار كونه قادراً من أصله؛ لأنه مجمعٌ عليه فليس فيه خلاف، إنما الخلاف في زيادته على المعاني، فالحاصل أنهم اتفقوا على الكون قادراً مثلاً، لكن على القول بثبوت الأحوال[42] تكون واسطة بين الموجود والمعدوم لازمة للقدرة، وعلى القول بنفي الأحوال تكون عبارة عن قيام القدرة بالذات، فيكون أمراً اعتبارياً، وهذا كله عند أهل السنَّة)[43].

المطلب الثَّاني: تقسيم الصفات باعتبار الدليل عليها
تنقسم الصفات الثابتة عند الأشاعرة إلى ثلاثة أقسام، وذلك باعتبار الدليل الدال عليها، فمنها ما دليله العقل، ومنها ما دليله السمع، ومنها ما هو مختلف فيه.
قال البيجوري: (الصفات على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما لا يصح الاستدلال عليه إلا بالدليل العقلي، وهو ما توقفت عليه المعجزة من الصفات، كوجوده تعالى، وقِدَمه، وبقائه، وقيامه بنفسه، ومخالفته للحوادث، وقدرته، وإرادته وعلمه، وحياته.
القسم الثاني: ما لا يصح الاستدلال عليه إلا بالدليل السمعي: وهو كل ما لا تتوقف المعجزة عليه من الصفات: كالسمع، والبصر، والكلام.
القسم الثالث: ما اخْتُلف فيه: وهو الوحدانية، والأصح أن دليلها عقلي)[44].
وقال الصَّاوي في توجيه القسم الأول: (بمعنى أنه إذا جاءنا رسول وقال لنا: إني مُرسلٌ من عند الله، وآية صدقي انشقاق القمر مثلاً، يحتاج الأمر إلى استفادة هذه الصفات من العقل أوَّلاً، وإلا بأن استفيدت من الرسول لزم الدَّوْر، لأن بهذه الصفات تثبت المعجزة، وبالمعجزة تثبت هذه الصفات، فصار كلٌّ متوقفاً على الآخر)[45].

المطلب الثَّالث: موقف الأشاعرة من صفات الله الواردة في الكتاب والسنَّة سوى ما أثبتوه منها:
اتفقت كلمة الأشاعرة على أن جميع ما جاء في الكتاب والسنَّة من الصفات لله تعالى سوى ما أثبتوه منها، فإنه إمّا أن يُؤوَّل أو يُفوَّض، كالصفات الخبرية، مثل الوجه واليدين والقَدَم ونحو ذلك، وكذلك جميع الصفات الفعلية، مثل النزول، والإتيان، والمحبة، والغضب، والضحك، والفرح ونحو ذلك مما يتعلق بمشيئته سبحانه.
قال إبراهيم اللَّقاني في نظم «جوهرة التوحيد»:
(وكلُّ نصٍّ أوهم التشبيها *** أَوِّلْهُ أوْ فّوِّض وَرُمْ تنزيها)[46].
وقال الصَّاوي في شرح هذا البيت: (حاصل ما في هذا المقام أنه لما قدَّم أنه سبحانه وتعالى وجبت له المخالفة للحوادث عقلاً وسمعاً، وورد في القرآن والسنَّة الصحيحة ما يوهم إثبات الجهة والجسمية، وكان مذهب أهل الحق من السلف والخلف تأويل الظاهر؛ لوجوب تنزيهه تعالى عنه)[47].
وقال البيجوري: ((أوِّله) أي: احمله على خلاف ظاهره مع بيان المعنى المراد، فالمراد: أوِّله تأويلاً تفصيلياً بان يكون فيه بيان المعنى المراد كما هو مذهب الخَلَف: وهم من كانوا بعد الخمسمائة، وقيل: من بعد القرون الثلاثة.
وقوله: (أو فّوِّض) أي: بعد التأويل الإجمالي الذي هو: صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوِّض المراد من النص المُوهِم إليه تعالى على طريقة السلف: وهم من كانوا قبل الخمسمائة، وقيل: القرون الثلاثة: الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين)[48].
وقد ذكر الصَّاوي بعض الأمثلة فقال: (فممّا يُوهم:
- الجهة قوله تعالى }يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ{ [النحل:50]
- والجسمية قوله تعالى }هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ{ [البقرة:210]، }وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً{ [الفجر:22]، وحديث الصحيحين: «ينزل ربّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا»[49].
- والصورة ما أخرجه أحمد والشيخان: أن رجلاً ضرب عبده فنهاه النبي r وقال: «إن الله خلق آدم على صورته»[50].
- والجارحة }وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ{ [الرحمن:27]، و}يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ{ [الفتح:10]، «القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء»[51].
فقوله (أوِّله) أي: وجوباً بأن تحمله على خلاف ظاهره بصرفه إلى معنى بعينه لائق، فتُؤوِّل:
- الفوقية بالتعالي في العظمة دون المكان.
- والإتيان بإتيان عذابه في الغمام ....
- والمجيء بإتيان رسول رحمته يوم القيامة.
- والنزول بنزول رحمته، أو ملك ينادي، كما ورد في بعض طرق الحديث....)[52].

الشيخ فيصل بن قزاز الجاسم
 
عودة
أعلى