هل فكرة الموازنة بين الحياة والعمل.. تعاني من خلل؟

هل فكرة الموازنة بين الحياة والعمل.. تعاني من خلل؟



يدعي بعض تلاميذ "ستيفن كوفي" الذين ما زالوا يعيشون على تراثه القديم أنه يمكنهم تعليمنا كيف نعيش حياة متوازنة. والحقيقة أن هذه مغالطة باتت واضحة. فالسعي نحو تحقيق التوازن بين العمل والحياة هو في الواقع محاولة لرسم خط فاصل بين الحياة في المكاتب وخارجها، أو العمل خارج المنازل وداخلها. وهي محاولة تشبه رسم خط رفيع على رمال الصحراء الناعمة في ليلة عاصفة.



من يفهم "التمتين®" يدرك أن السعي للتوازن في الحياة ليس مستحيلاً فقط، بل وضار بالعمل والإنسان معًا. لأن لكل إنسان مكمن قوة وعنصر تميز يجعله فردًا وحده. وبما أن للحياة أربعة أبعاد مدركة هي: البعد العلوي (الروحي)، والبعد السفلي (المادي)، والبعد الأيمن (الاجتماعي)، و البعد الأيسر (العقلي)؛ فإن كلاً منا يحتل نقطة ما، في مكان ما في أحد المربعات الأربعة. فهناك من يرتكز بين الروحي والاجتماعي، ومن يعيش ما بين الاجتماعي والمادي، ومن يقع بين المادي والفكري، ومن يرتاح بين العلمي والروحي. وما يمكن أن يحدث في الواقع ليس الانتقال من نطاق إلى آخر، وإنما النمو والتطور والتجدد في نفس المكان والنطاق؛ لتعميق نقاط القوة وإبراز بصمة التفرد.

على المستوى العالمي، فإن أكثر الشعوب خرقًا لقانون التوازن هم الألمان واليابانيون خصوصًا، يليهم الأمريكيون الشماليون والأوروبيون عمومًا. تلك الشعوب تعمل بلا هوادة، وتضع المال والأعمال والعلم والعمل قبل القيم الروحية والعلاقات الاجتماعية. ورغم صعوبة التعميم، فإن الدول المتعلقة بالقيم الروحية والروابط الاجتماعية هي الدول الفقيرة، في وسط وغرب "آسيا"، وفي "أفريقيا" والمناطق النائية على أطراف "أمريكا" الجنوبية.

وعلى المستوى المؤسسي، فإن من يجربون التوازن يحاولون غالبًا الفصل بين حياتهم العملية والشخصية. هؤلاء هم الذين يحاولون تجاهل العمل وهم في البيت، ونسيان مشكلات البيت وهم في العمل. لكنهم يفشلون في المحاولتين معًا؛ حيث يوصفون في العمل بضعيفي الأداء وباهتي الطموح، ويوصفون في محيطهم العائلي والاجتماعي بالعجز عن التقدم الوظيفي والحصول على التقدير الكافي. فهم يعانون في الاثنين معًا.

هناك من يظن أن من يعملون في الحكومة وبيئات العمل البطيئة مؤهلون أكثر لتحقيق التوازن. لكن العاملين في الجيش والشرطة والصحة والقضاء والسياسة يعانون مثلما يعاني الإعلاميون والفنانون والرياضيون. فهناك تناقض غريب لدى دعاة التوازن. فالفريق الرياضي الذي يلعب لتحقيق بطولة، واللاعب الذي يجد ويكد ويتدرب طوال اليوم والأسبوع والسنة يوصف بالالتزام ويحظى بالثناء. أما المهندس والعالم والموظف ورجل الأعمال الذين يعملون ليلاً ونهارًا لتحقيق الإنجازات وإبداع الابتكارات فإنهم يوصفون بغير المتوازنين والمساكين المتعبين. فلماذا لا نطلب من الفنان أن يتوقف عن رسم لوحته، ومن الطالب أن يتوقف عن دراسته، مثلما نطلب من المحامي والمهندس ورجل الأعمال المبدعين التوقف عن العمل بحجة تحقيق التوازن؟! وكأن الحياة المتوازنة حق لبعضنا دون بعضنا الآخر، وميزة لبعضنا وعيب لبعضنا الآخر!

من وجهة نظري الشخصية، فإن الحياة بلا حركة ليست حياة طبيعية. والحقيقة الأهم هي أن الطبيعة تبقى في حركة دائمة ولا تتوازن أبدًا. وما نسميه توازنًا طبيعيًا هو مغامرات ومعارك ومخاطرات وحروب دائرة ومستعرة على الدوام بين كائنات ومكونات كلها تتحرك لكي تتجدد ولا تتبدد. كل الكائنات الحية تفضل الحركة والإيقاع السريع على الموت البطيء والسكون، حتى الكائنات غير العاقلة ترفض التوازن وتتحرك باتجاه الجديد، مفضلة الغموض وعدم التأكد والمخاطرة باتجاه المجهول، على التوازن والوضوح والطمأنينة والضعف والموت البطيء.

علم التمتين يرفض التوازن الضعيف وينتصر للتحرك القوي. فعندما نوظف نقاط قوتنا التي تجعل كلاً منا فردًا متميزًا وحده، فإننا نضيف إلى مهاراتنا ومعارفنا وقدراتنا تلك الرغبة الجامحة في أن نكون ونبقى نحن. بصمتنا الفردية والشخصية القوية محفورة داخلنا، ولا يمكن لدورات التدريب ومحاولات التجريب أن تطمسها أو تمحوها. ومن ثم، فإن العمل من موطن قوة يضيف للإنسان روحًا وشغفًا، ويعطي للحياة إيقاعًا سريعًا ولونًا زاهيًا، لا يستشعره بنفس العمق وبتلك الشفافية، وعلى ذاك المستوى الإنساني العالي من الحساسية سوى الفرد نفسه.

عندما يدعوك أحدهم، كائنًا من كان، مدربًا أو خبيرًا أو دكتورًا أو داعيةً أو مدعيًا أو إنسًا أو جان، إلى ترك موقعك الطبيعي في الحياة، ونقطة ارتكازك المتجذرة في طبعك وتطبعك، والتحرك باتجاه نقطة التوازن المزدحمة والمتسمة بالهدوء والملل من قلة العمل وانطفاء شعلة الأمل؛ قل له: "توازن أنت."

نسيم الصمادي


إدارة.كوم
 
عودة
أعلى