mohamadamin
حكيم المنتدى
د.أحمد خيري العمري
رغم إيماني أن البحث عن أدلة لإثبات حجية السنة هي من قبيل لزوم ما لا يلزم، لأنها محاولة للبرهنة على ما يستحق أن يكون برهاناً وبديهة ، إلا إني سأضطر هنا للتذكير ببعض هذه الأدلة، ومن ثم عرض حيل القرآنيين للالتفاف عليها عبر نهج معين يعيد فهم وتركيب كل شيء ليجعل هذه الحيل تبدو متماسكة مع رؤيتهم المتفلتة من كل التزام شرعي..
من هذه الأدلة مثلا قال الله تعالى: ( من يطع الرّسول فقد أطاع الله )
وقوله تعالى: ( يـا أيّها الّذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول )، والآية الكريمة: (فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عـذاب ألـيم) والآية الكريمة: (فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكمُّوك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مـمّا قضيت ويسلموا تسليماً)، (فإن تنازعتم في شيء فردّوُه إلى الله والرّسول) إلخ… هذه الآيات ومثيلاتها كثير..
كيف يمكن لأيٍّ كان أن يهرب من الدلالات القاطعة لهذه الآيات التي يفهمها من كان له أبسط معرفة باللغة العربية وحدٌّ أدنى من العمليات العقلية التي تعني أنه مؤهل للتكليف؟.. كيف يمكن أن يهرب القرآنيون وهم يدَّعون إنهم يكتفون بالقرآن من الآيات القرآنية التي تحيل إلى السنة؟ وهي الآيات التي يمكن من خلالها ومن خلال تكاملها مع بقية الآيات-التي يحاول القرآنيون اجتزاءها- فَهْم كيف يمكن للكتاب أن يكون كافياً وفيه تفصيل وبيان كل شيء، إذ أنه يتكامل مع الآيات التي تحيل إلى التجربة النبوية التي تمثل التطبيق القرآني المباشر على أرض الواقع (وهذا هو الجواب الأساسي الذي يجب أن يستخدم عندما ينوح ويندب هؤلاء وهم يستخدمون هذه الآيات للتشكيك بالسنة، إذ ينبغي التذكير بالآيات التي تحيل إلى الرسول الكريم والتأكيد على عدم التناقض بين الأمرين بل تكاملهما..)
الحيل التي يستخدمها هؤلاء تتمحور حول نقطتين أساسيتين، وهما نقطتان تؤديان إلى إعادة تفسير كل شيء لينسجم مع هذه الحيل وتكون النتيجة في النهاية تركيبة تشبه حذاء الطنبوري: كلها رقع!..
يقدم هؤلاء فرضيتهم (الخاطئة) دون برهان، لكنهم يبنون عليها كل شيء فيكونون كمن افترض أن الأرض مسطحة وأنه عندما يصل إلى طرفها الأقصى فإنه سيسقط في الفراغ المروع..!
وقبل أن أسرد حيلهم الشرعية من مصادرهم أود أن أستميح القارئ عذرا في نقلي لهذه الركاكة التي لا علاج لها إلا بالنسف التام لطريقة التفكير التي أنتجتها، كما أود أن أؤكد على جديتي التامة في النقل إذ إن بعض ما يردده هؤلاء يمكن أن يفهم على أنه مزحة لا أكثر..
الحيلة الأولى: الطاعة للرسول ولا طاعةللنبي!
تهدف الحيلة الأولى إلى إجراء عملية جراحية للفصل بين محمد الرسول ومحمد النبي ( هل يجب أن نقول صلى الله وسلم عليهما في هذه الحالة!!!) فمحمد الرسول هو محمد الذي نطق بالرسالة (أي بالقرآن؟) وهو من يجب أن نطيعه حصراً أما محمد النبي فهو محمد في حياته الشخصية ولا تلزمنا طاعته في شيء!
مرة أخرى مع نصٍّ مقتبس من أهم كتبهم..
(..يخطئ الناس فى فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول، وذلك لأنهم يخطئون فى فهم الفارق بين مدلول النبى ومدلول الرسول..
“النبى” هو شخص محمد بن عبد الله فى حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله، وتصرفاته البشرية.
ومن تصرفاته البشرية ما كان مستوجباً عتاب الله تعالى، لذا كان العتاب يأتى له بوصفه النبى، كقوله تعالى ﴿يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك؟ تبتغى مرضات أزواجك؟!..﴾ (التحريم 1) . …. وكان الحديث عن علاقته بالناس حوله يأتى أيضاً بوصفه النبى ﴿يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن﴾ (الأحزاب 59) ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم﴾ (الأحزاب 53) ﴿ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة﴾ (الأحزاب 13). وهكذا فالنبى هو شخص محمد البشرى فى سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة، لذا كان مأموراً بصفته النبى باتباع الوحى…
أما حين ينطق النبى بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله..، .. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ (النساء 80، 64) والنبى محمد بصفته البشرية أول من يطيع الوحى القرآنى وأول من يطبقه على نفسه.. وهكذا ففى الوقت الذى كان فيه (النبى) مأموراً باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة (الرسول) أى طاعة النبى حين ينطق بالرسالة أى القرآن ﴿قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً فى القرآن “أطيعوا الله وأطيعوا النبى” لأن الطاعة ليست لشخص النبى وإنما للرسالة أى للرسول. أى لكلام الله تعالى الذى نزل على النبى والذى يكون فيه شخص النبى أول من يطيع..كما لم يأت مطلقا فى القرآن عتاب له عليه السلام بوصفه الرسول.) انتهى الاقتباس .من كتاب القرآن وكفى.الفصل الثاني المعنون “القرآن والنبي والرسول”.
إستراتيجية هذه الحيلة قائمة على ما يلي:
أولا-افتراض إن الفرق بين لفظتي(الرسول والنبي) يستلزم الفصل بينهما.. وهي فرضية خبيثة لا دليل عليها لكنها أساسية في هذا المنهج الذي سيفقد كل معنى له في حالة نسفت هذه الفرضية. وهو متهاوية كالقول أن تعدد الأسماء الحسنى لله تعالى تعني تعدده عز وجل، تعالى جل جلاله عن هذرهم..
ثانيا-بناء كل ما يلي بناء على هذه الفرضية، وإغراق القارئ بما سيوحي له أن الفرضية الأولى صحيحة، فإذا بالعتب كان يوجه دوما إلى شخص النبي دون شخص الرسول وهذا يعني أن النبي يمكن أن يخطئ بشكل روتيني وبالتالي فإن طاعته غير واجبة.. ويتم هذا عبر الآلية نفسها التي يمكن أن تثمر في نوع معين من القراء أو المتلقين (القارئ الذي نشأ في ثقافة تلقينية جامدة غير قادرة على النقاش، القارئ الكسول، القارئ الذي يمتلك أهواء يريد شرعنتها بكل الأحوال)..
وهذه الآلية تعتمد كالعادة على انتقاء تبعيضي لآيات معينة تخدم المعنى الذي رغب في تكريسه هؤلاء وتجاهل تام لآيات أخرى تتناقض مع ذلك..
على سبيل المثال، يتم الحديث عن كون آيات الطاعة لم تأت إلا مع لفظ الرسول للوصول إلى أن طاعة النبي غير ملزمة لأنها ببساطة غير موجودة، ولفظ النبي هنا في مفهومهم لا يشمل فقط “السنة النبوية” التي يرومون نسفها وإلغاء اتخاذها منهجا، ولكن تشمل أيضا كل سياق قرآني ورد فيه لفظ النبي!!
فهؤلاء مثلا يتجاهلون عمداً ما يلي..
1. الجمع بين المفردتين في آية واحدة كما في “الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ ” الأعراف(157) و“قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)”“، فالرسول الذي أُمرنا بطاعته هو ذاته النبي بنص القرآن، ولم يوجد هناك فاصل أو حاجزٌ بين الاثنين من أي نوع (مجرد الكلام في هذا يشعرني بأني أضيع وقتي في تفسير ما لا داع لتفسيره).
2. إن مفهوم الاتباع -الذي ورد في الآية الكريمة مرتبط بلفظ النبي هو أقوى من مفهوم الطاعة، فالطاعة مرتبطة بأمر واضح موجه إلى شخص بعينه، أما الإتباع فهو انقياد غير مشروط بأمر.. تطيع فلاناً إذا أمرك، لكنك عندما تتبعه، تسير خلفه وخلف خطاه حتى دون أن يقول لك ذلك .. مرة أخرى: نحن لا نفرق فعلياً بين شخص الرسول وشخص النبي، بحيث نجعل الطاعة للرسول والإتباع للنبي ولكننا فقط نناقش حجة القرآنيين الأساسية، ونؤكد بطلانها من حيث الدلالة اللغوية لكلمة الاتباع.
3. أيهما أقوى؟ طاعة الرسول الكريم أم كونه “أولى بالمؤمنين من أنفسهم“؟ فالمعنى الأخير يتجاوز معنى الطاعة حتماً إلى آفاق أكثر التصاقاً وتماهياً معه عليه الصلاة والسلام، وقد شاء الله عز وجل أن يختار لفظ النبي في هذا السياق تحديداً بدلاً من لفظ الرسول “النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا الأحزاب (6).
4. كما أنه عليه الصلاة والسلام أولى ليس بالمؤمنين فقط بل من إبراهيم نفسه، وهو من هو، ومرة أخرى يختار السياق القرآني أن يكون هنا لفظ النبي وليس لفظ الرسول “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” آل عمران(68) .
5. جاء السياق القرآني ليتحدث مع النبي بصفته الشاهد والمبشر والنذير، والسراج المنير.. “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا الأحزاب(46)” فهل هذا السياق يتحدث عن نبي في شؤون حياته الشخصية التي لا تلزم أحداً من أتباعه أم أنها على العكس صريحة تماماً في وجوب اتباعه وطاعته والانقياد لخطواته؟
6. أكبر مكانة له عليه الصلاة والسلام ستكون مع لفظ النبي وليس لفظ الرسول: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” الأحزاب(56).. فهل جاء لفظ النبي هنا في هذه الآية الكريمة اعتباطا؟ علماً أن الصلاة عليه لا تعني التلفظ بالكلمة فحسب بل هي إتباعه والاقتداء بسنته عليه أفضل الصلاة والسلام (وردّ الأذى عنه أيضا بوجه من يحاول إلغاء حجية سنته).
7. لأنه لا فرق حقيقة بين الرسول والنبي، فإن بعض الآيات الكريمة خاطبته عليه الصلاة والسلام مباشرة دون أن تشير في السياق إلى أي من اللفظين: ” فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” النساء(65) “إن الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ” الفتح(10)..و في الحالتين “التحكيم والمبايعة” فإن المعنى يشتمل على الطاعة في التحكيم وما فوقها في المبايعة علما أن سياق آخر ذكر المبايعة مع لفظ النبي (وهي فوق الطاعة حتما) “يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” الصف(12)..
كل واحد من هذه الأدلة كافٍ لدحض شبهة أن الطاعة للرسول منفصلةٌ عن طاعة النبي وعن الالتزام بالسنة النبوية، فكيف إذا اجتمعت كلها ؟
لكن لِمَ نزل العتب في الآيات القرآنية مقرونا بلفظ النبي وليس لفظ الرسول؟
الحقيقة أن هذه ليست شبهة “ضد” الاحتكام لسنته عليه الصلاة والسلام بقدر ما هي دليل على تأييدها فعندما يكون “التصحيح” معدود ومحدود بما ذكر في القرآن الكريم، فهذا يعني وجود موافقة ضمنية على سائر ما قاله عليه الصلاة والسلام، هذا بالإضافة إلى أن واقعة العتب في “لِمَ تُحرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ” –مثلا-لم تكن تشير إلى حكم تشريعي عام أطلقه عليه الصلاة والسلام بل كان قد حرم شيئاً على نفسه فحسب.. كما أن العتب جاء أيضاً في سياق آخر لم يُذكَر فيه رسول أو نبي “عبس وتولى أن جاءه الأعمى”..
لكن هذا كله يجب أن لا يصرفنا عن مناقشة معنى لفظي النبي والرسول دون انفصام مزعوم بينهما، فلفظ النبي في الغالب لم يطلق عليه (عليه الصلاة والسلام) إلا في المرحلة المدنية باستثناء مرتين في سورة الأعراف متزامنا مع لفظ الرسول، كما أنه عليه الصلاة والسلام كان الوحيد بين الأنبياء الذي أطلق عليه القرآن الكريم لفظ “النبي” مع أل التعريف.. بينما ورد ذلك مع لفظ الرسول مع رسل آخرين.. كل هذه القرائن، وخاصة استقرار لفظ النبي في المرحلة المدنية من القرآن تجعلنا مطمئنين إلى أن مفهوم النبوة يمثل ترقياً في مراتب الرسالة، فإذا كان “مَا عَلَى الرَّسولِ إلا البلاغُ المُبِين” فإن النبي سيكون عليه أشياء أخرى تتضمن البلاغ المبين حتما ولكن تتضمن أيضاً ومن دون شك واجبات ومهام أخرى (يمكن فهمها عبر فهم الاختلاف بين المرحلتين المكية والمدنية)..
وهكذا فإذا كانت الطاعة للرسول واجبة بنص القرآن، فإن الطاعة للنبي هي تحصيل حاصل، لأن مرحلة النبوة تتضمن مرحلة الرسالة، والطاعة للنبي هي جزء من الطاعة للرسول بلا انفصال بين الاثنين.. يشبه الأمر –بلا تشبيه- الحصول على شهادة في الطب العام، ومن ثم الحصول على شهادة في تخصص أكثر دقة وصعوبة، ألقاب الشهادة الأولى لن تلغى بل ستُضَم وتُحتَوى ضمن الألقاب الجديدة.. وهكذا فإن الطاعة للرسول تعني من باب أولى الطاعة للنبي
الحيلة الثانية: ..لا يوجد رسول أصلاً!!
هذه الحيلة أكثر ركاكة وضعفاً من الحيلة الأولى.. تعتمد هذه الحيلة على إلغاء شخصية الرسول والنبي بالكلية، وتفسير كلمة الرسول بأنها تعني القرآن، وبذلك يرتاح هؤلاء من آيات طاعة الرسول مرة واحدة وكلما أوحت الآيات بإتباع الرسول وسنته عليه الصلاة والسلام..
( الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبى الذى ينطلق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التى تحث على طاعة الله ورسوله.. فكلها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.
والرسول بمعنى القرآن !! يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم﴾ (آل عمران 101) أى أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا، وسيظل محفوظا وحجة على الخلق الى قيام الساعة..
وكلمة الرسول فى بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد !! كقوله تعالى ﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله﴾ (النساء 100).
فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة فى سبيل الله وفى سبيل رسوله- أى القرآن!!- قائمة ومستمرة بعد وفاة النبى محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.)انتهى وعلامات التعجب مني.
تخيلوا!!..هكذا وبكل بساطة ومن دون أية محاولة –ولو من باب ذرّ الرماد في العيون- لتفسير ذلك يتم تحويل معنى الرسول إلى القرآن.. لماذا؟ ..هل كان هناك إشكالٌ أصلاً في أن تفسَّر هذه الآيات بكونها تشير إلى الرسول بشخصه في حياته وسنته بعد وفاته؟.. أو أن تكون الهجرة إلى الله-بمعنى أوامره وكتبه- والرسول بمعنى سنته عليه الصلاة والسلام؟..
لا إشكال طبعا في ذلك، إلا أنهم مستعدون لفعل أي شيء لتمرير أكبر الغرائب والأكاذيب في سبيل هدفهم الذي لا يقبلون أيّ شيء دونه: هدفهم في نسف سنته عليه الصلاة والسلام ليخلو لهم الجو في تمييع المفاهيم، ووضعها في قوالب مطاطة بقدر ما يحتاجون.
تخيَّلوا إنَّ كل ما يُمكِنهم تقديمه من براهين بخصوص أنَّ لفظة الرسول تعني القرآن هو مجرد ضميرين في آيتين كريمتين (وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على افتقادهم للضمير)..
(..وأحياناً تعنى كلمة “الرسول” القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر. كقوله تعالى ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ (الفتح 9)
فكلمة “ورسوله” هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد!.. والدليل أن الضمير فى كلمة “ورسوله” جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وتعزروه وتقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل “وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا”. والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده . ولا فارق بين الله وتعالى وكلامه، فالله تعالى أحد فى ذاته وفى صفاته ﴿قل هو الله أحد﴾…
ويقول تعالى ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة 62)
ولو كان الرسول في الآية يعنى شخص النبى محمد لقال تعالى “أحق أن يرضوهما” ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه..)أنتهى ، المصدر نفسه.
هذا كل شيء.. ليس لديهم في جعبة أدلتهم شيء آخر: ضمير هنا وضمير هناك، وهذه المجادلة المتنطعة السخيفة: لِم لَم يقل تسبحوهما؟..إذن لا فارق بين الله ورسوله!.. ولا فارق بين الله وكلامه!.. تعالى الله وكلامه عن هذا الهذر كله.. لو فرضنا جدلاً أن المقصود هنا بالرسول كلام الله وقرآنه، فهل سمعنا قبل هذا إيراد لفظ التسبيح على القرآن؟ هل سيستقيم هذا المعنى؟..والصواب هو ما أوجزه علماء التفسير بلا تكلف ولا تكليف: فكل ضمير يرجع لمن يليق به الفعل: التعزير له عليه الصلاة والسلام، والتسبيح له عز وجل، ولا مانع من أن يكون التوقير لهما معا.. الأمر ذاته يخص تطبيلهم المشار إليه في الاقتباس حول “والله ورسوله أحق أن يرضوه” بدلا من يرضوهما.. فَرِضا الرسول تابعٌ لرضا الله حتما، كما أنه لا معنى أصلاً لكون هناك إرضاء لكلام الله أو لقرآنه.. وهل هناك معنى في أن يكون الرسول يعني القرآن في آية كهذه مثلا: “وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ” الفرقان (7)
أثبت هنا على مسؤوليتي الشخصية وأتحمل ذلك كاملا وسوف أحاسب عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا مشجعون أو منددون، أثبت أن من يبحث عن ضمير هنا أو هناك ويتسلل كالأفعى بهدف نسف سنته عليه الصلاة والسلام هو ممن ينطبق عليه حتما قوله تعالى: “فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ” آل عمران 7
رغم إيماني أن البحث عن أدلة لإثبات حجية السنة هي من قبيل لزوم ما لا يلزم، لأنها محاولة للبرهنة على ما يستحق أن يكون برهاناً وبديهة ، إلا إني سأضطر هنا للتذكير ببعض هذه الأدلة، ومن ثم عرض حيل القرآنيين للالتفاف عليها عبر نهج معين يعيد فهم وتركيب كل شيء ليجعل هذه الحيل تبدو متماسكة مع رؤيتهم المتفلتة من كل التزام شرعي..
من هذه الأدلة مثلا قال الله تعالى: ( من يطع الرّسول فقد أطاع الله )
وقوله تعالى: ( يـا أيّها الّذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول )، والآية الكريمة: (فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عـذاب ألـيم) والآية الكريمة: (فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكمُّوك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مـمّا قضيت ويسلموا تسليماً)، (فإن تنازعتم في شيء فردّوُه إلى الله والرّسول) إلخ… هذه الآيات ومثيلاتها كثير..
كيف يمكن لأيٍّ كان أن يهرب من الدلالات القاطعة لهذه الآيات التي يفهمها من كان له أبسط معرفة باللغة العربية وحدٌّ أدنى من العمليات العقلية التي تعني أنه مؤهل للتكليف؟.. كيف يمكن أن يهرب القرآنيون وهم يدَّعون إنهم يكتفون بالقرآن من الآيات القرآنية التي تحيل إلى السنة؟ وهي الآيات التي يمكن من خلالها ومن خلال تكاملها مع بقية الآيات-التي يحاول القرآنيون اجتزاءها- فَهْم كيف يمكن للكتاب أن يكون كافياً وفيه تفصيل وبيان كل شيء، إذ أنه يتكامل مع الآيات التي تحيل إلى التجربة النبوية التي تمثل التطبيق القرآني المباشر على أرض الواقع (وهذا هو الجواب الأساسي الذي يجب أن يستخدم عندما ينوح ويندب هؤلاء وهم يستخدمون هذه الآيات للتشكيك بالسنة، إذ ينبغي التذكير بالآيات التي تحيل إلى الرسول الكريم والتأكيد على عدم التناقض بين الأمرين بل تكاملهما..)
الحيل التي يستخدمها هؤلاء تتمحور حول نقطتين أساسيتين، وهما نقطتان تؤديان إلى إعادة تفسير كل شيء لينسجم مع هذه الحيل وتكون النتيجة في النهاية تركيبة تشبه حذاء الطنبوري: كلها رقع!..
يقدم هؤلاء فرضيتهم (الخاطئة) دون برهان، لكنهم يبنون عليها كل شيء فيكونون كمن افترض أن الأرض مسطحة وأنه عندما يصل إلى طرفها الأقصى فإنه سيسقط في الفراغ المروع..!
وقبل أن أسرد حيلهم الشرعية من مصادرهم أود أن أستميح القارئ عذرا في نقلي لهذه الركاكة التي لا علاج لها إلا بالنسف التام لطريقة التفكير التي أنتجتها، كما أود أن أؤكد على جديتي التامة في النقل إذ إن بعض ما يردده هؤلاء يمكن أن يفهم على أنه مزحة لا أكثر..
الحيلة الأولى: الطاعة للرسول ولا طاعةللنبي!
تهدف الحيلة الأولى إلى إجراء عملية جراحية للفصل بين محمد الرسول ومحمد النبي ( هل يجب أن نقول صلى الله وسلم عليهما في هذه الحالة!!!) فمحمد الرسول هو محمد الذي نطق بالرسالة (أي بالقرآن؟) وهو من يجب أن نطيعه حصراً أما محمد النبي فهو محمد في حياته الشخصية ولا تلزمنا طاعته في شيء!
مرة أخرى مع نصٍّ مقتبس من أهم كتبهم..
(..يخطئ الناس فى فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول، وذلك لأنهم يخطئون فى فهم الفارق بين مدلول النبى ومدلول الرسول..
“النبى” هو شخص محمد بن عبد الله فى حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله، وتصرفاته البشرية.
ومن تصرفاته البشرية ما كان مستوجباً عتاب الله تعالى، لذا كان العتاب يأتى له بوصفه النبى، كقوله تعالى ﴿يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك؟ تبتغى مرضات أزواجك؟!..﴾ (التحريم 1) . …. وكان الحديث عن علاقته بالناس حوله يأتى أيضاً بوصفه النبى ﴿يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن﴾ (الأحزاب 59) ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم﴾ (الأحزاب 53) ﴿ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة﴾ (الأحزاب 13). وهكذا فالنبى هو شخص محمد البشرى فى سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة، لذا كان مأموراً بصفته النبى باتباع الوحى…
أما حين ينطق النبى بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله..، .. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ (النساء 80، 64) والنبى محمد بصفته البشرية أول من يطيع الوحى القرآنى وأول من يطبقه على نفسه.. وهكذا ففى الوقت الذى كان فيه (النبى) مأموراً باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة (الرسول) أى طاعة النبى حين ينطق بالرسالة أى القرآن ﴿قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً فى القرآن “أطيعوا الله وأطيعوا النبى” لأن الطاعة ليست لشخص النبى وإنما للرسالة أى للرسول. أى لكلام الله تعالى الذى نزل على النبى والذى يكون فيه شخص النبى أول من يطيع..كما لم يأت مطلقا فى القرآن عتاب له عليه السلام بوصفه الرسول.) انتهى الاقتباس .من كتاب القرآن وكفى.الفصل الثاني المعنون “القرآن والنبي والرسول”.
إستراتيجية هذه الحيلة قائمة على ما يلي:
أولا-افتراض إن الفرق بين لفظتي(الرسول والنبي) يستلزم الفصل بينهما.. وهي فرضية خبيثة لا دليل عليها لكنها أساسية في هذا المنهج الذي سيفقد كل معنى له في حالة نسفت هذه الفرضية. وهو متهاوية كالقول أن تعدد الأسماء الحسنى لله تعالى تعني تعدده عز وجل، تعالى جل جلاله عن هذرهم..
ثانيا-بناء كل ما يلي بناء على هذه الفرضية، وإغراق القارئ بما سيوحي له أن الفرضية الأولى صحيحة، فإذا بالعتب كان يوجه دوما إلى شخص النبي دون شخص الرسول وهذا يعني أن النبي يمكن أن يخطئ بشكل روتيني وبالتالي فإن طاعته غير واجبة.. ويتم هذا عبر الآلية نفسها التي يمكن أن تثمر في نوع معين من القراء أو المتلقين (القارئ الذي نشأ في ثقافة تلقينية جامدة غير قادرة على النقاش، القارئ الكسول، القارئ الذي يمتلك أهواء يريد شرعنتها بكل الأحوال)..
وهذه الآلية تعتمد كالعادة على انتقاء تبعيضي لآيات معينة تخدم المعنى الذي رغب في تكريسه هؤلاء وتجاهل تام لآيات أخرى تتناقض مع ذلك..
على سبيل المثال، يتم الحديث عن كون آيات الطاعة لم تأت إلا مع لفظ الرسول للوصول إلى أن طاعة النبي غير ملزمة لأنها ببساطة غير موجودة، ولفظ النبي هنا في مفهومهم لا يشمل فقط “السنة النبوية” التي يرومون نسفها وإلغاء اتخاذها منهجا، ولكن تشمل أيضا كل سياق قرآني ورد فيه لفظ النبي!!
فهؤلاء مثلا يتجاهلون عمداً ما يلي..
1. الجمع بين المفردتين في آية واحدة كما في “الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ ” الأعراف(157) و“قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)”“، فالرسول الذي أُمرنا بطاعته هو ذاته النبي بنص القرآن، ولم يوجد هناك فاصل أو حاجزٌ بين الاثنين من أي نوع (مجرد الكلام في هذا يشعرني بأني أضيع وقتي في تفسير ما لا داع لتفسيره).
2. إن مفهوم الاتباع -الذي ورد في الآية الكريمة مرتبط بلفظ النبي هو أقوى من مفهوم الطاعة، فالطاعة مرتبطة بأمر واضح موجه إلى شخص بعينه، أما الإتباع فهو انقياد غير مشروط بأمر.. تطيع فلاناً إذا أمرك، لكنك عندما تتبعه، تسير خلفه وخلف خطاه حتى دون أن يقول لك ذلك .. مرة أخرى: نحن لا نفرق فعلياً بين شخص الرسول وشخص النبي، بحيث نجعل الطاعة للرسول والإتباع للنبي ولكننا فقط نناقش حجة القرآنيين الأساسية، ونؤكد بطلانها من حيث الدلالة اللغوية لكلمة الاتباع.
3. أيهما أقوى؟ طاعة الرسول الكريم أم كونه “أولى بالمؤمنين من أنفسهم“؟ فالمعنى الأخير يتجاوز معنى الطاعة حتماً إلى آفاق أكثر التصاقاً وتماهياً معه عليه الصلاة والسلام، وقد شاء الله عز وجل أن يختار لفظ النبي في هذا السياق تحديداً بدلاً من لفظ الرسول “النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا الأحزاب (6).
4. كما أنه عليه الصلاة والسلام أولى ليس بالمؤمنين فقط بل من إبراهيم نفسه، وهو من هو، ومرة أخرى يختار السياق القرآني أن يكون هنا لفظ النبي وليس لفظ الرسول “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” آل عمران(68) .
5. جاء السياق القرآني ليتحدث مع النبي بصفته الشاهد والمبشر والنذير، والسراج المنير.. “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا الأحزاب(46)” فهل هذا السياق يتحدث عن نبي في شؤون حياته الشخصية التي لا تلزم أحداً من أتباعه أم أنها على العكس صريحة تماماً في وجوب اتباعه وطاعته والانقياد لخطواته؟
6. أكبر مكانة له عليه الصلاة والسلام ستكون مع لفظ النبي وليس لفظ الرسول: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” الأحزاب(56).. فهل جاء لفظ النبي هنا في هذه الآية الكريمة اعتباطا؟ علماً أن الصلاة عليه لا تعني التلفظ بالكلمة فحسب بل هي إتباعه والاقتداء بسنته عليه أفضل الصلاة والسلام (وردّ الأذى عنه أيضا بوجه من يحاول إلغاء حجية سنته).
7. لأنه لا فرق حقيقة بين الرسول والنبي، فإن بعض الآيات الكريمة خاطبته عليه الصلاة والسلام مباشرة دون أن تشير في السياق إلى أي من اللفظين: ” فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” النساء(65) “إن الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ” الفتح(10)..و في الحالتين “التحكيم والمبايعة” فإن المعنى يشتمل على الطاعة في التحكيم وما فوقها في المبايعة علما أن سياق آخر ذكر المبايعة مع لفظ النبي (وهي فوق الطاعة حتما) “يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” الصف(12)..
كل واحد من هذه الأدلة كافٍ لدحض شبهة أن الطاعة للرسول منفصلةٌ عن طاعة النبي وعن الالتزام بالسنة النبوية، فكيف إذا اجتمعت كلها ؟
لكن لِمَ نزل العتب في الآيات القرآنية مقرونا بلفظ النبي وليس لفظ الرسول؟
الحقيقة أن هذه ليست شبهة “ضد” الاحتكام لسنته عليه الصلاة والسلام بقدر ما هي دليل على تأييدها فعندما يكون “التصحيح” معدود ومحدود بما ذكر في القرآن الكريم، فهذا يعني وجود موافقة ضمنية على سائر ما قاله عليه الصلاة والسلام، هذا بالإضافة إلى أن واقعة العتب في “لِمَ تُحرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ” –مثلا-لم تكن تشير إلى حكم تشريعي عام أطلقه عليه الصلاة والسلام بل كان قد حرم شيئاً على نفسه فحسب.. كما أن العتب جاء أيضاً في سياق آخر لم يُذكَر فيه رسول أو نبي “عبس وتولى أن جاءه الأعمى”..
لكن هذا كله يجب أن لا يصرفنا عن مناقشة معنى لفظي النبي والرسول دون انفصام مزعوم بينهما، فلفظ النبي في الغالب لم يطلق عليه (عليه الصلاة والسلام) إلا في المرحلة المدنية باستثناء مرتين في سورة الأعراف متزامنا مع لفظ الرسول، كما أنه عليه الصلاة والسلام كان الوحيد بين الأنبياء الذي أطلق عليه القرآن الكريم لفظ “النبي” مع أل التعريف.. بينما ورد ذلك مع لفظ الرسول مع رسل آخرين.. كل هذه القرائن، وخاصة استقرار لفظ النبي في المرحلة المدنية من القرآن تجعلنا مطمئنين إلى أن مفهوم النبوة يمثل ترقياً في مراتب الرسالة، فإذا كان “مَا عَلَى الرَّسولِ إلا البلاغُ المُبِين” فإن النبي سيكون عليه أشياء أخرى تتضمن البلاغ المبين حتما ولكن تتضمن أيضاً ومن دون شك واجبات ومهام أخرى (يمكن فهمها عبر فهم الاختلاف بين المرحلتين المكية والمدنية)..
وهكذا فإذا كانت الطاعة للرسول واجبة بنص القرآن، فإن الطاعة للنبي هي تحصيل حاصل، لأن مرحلة النبوة تتضمن مرحلة الرسالة، والطاعة للنبي هي جزء من الطاعة للرسول بلا انفصال بين الاثنين.. يشبه الأمر –بلا تشبيه- الحصول على شهادة في الطب العام، ومن ثم الحصول على شهادة في تخصص أكثر دقة وصعوبة، ألقاب الشهادة الأولى لن تلغى بل ستُضَم وتُحتَوى ضمن الألقاب الجديدة.. وهكذا فإن الطاعة للرسول تعني من باب أولى الطاعة للنبي
الحيلة الثانية: ..لا يوجد رسول أصلاً!!
هذه الحيلة أكثر ركاكة وضعفاً من الحيلة الأولى.. تعتمد هذه الحيلة على إلغاء شخصية الرسول والنبي بالكلية، وتفسير كلمة الرسول بأنها تعني القرآن، وبذلك يرتاح هؤلاء من آيات طاعة الرسول مرة واحدة وكلما أوحت الآيات بإتباع الرسول وسنته عليه الصلاة والسلام..
( الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبى الذى ينطلق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التى تحث على طاعة الله ورسوله.. فكلها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.
والرسول بمعنى القرآن !! يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم﴾ (آل عمران 101) أى أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا، وسيظل محفوظا وحجة على الخلق الى قيام الساعة..
وكلمة الرسول فى بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد !! كقوله تعالى ﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله﴾ (النساء 100).
فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة فى سبيل الله وفى سبيل رسوله- أى القرآن!!- قائمة ومستمرة بعد وفاة النبى محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.)انتهى وعلامات التعجب مني.
تخيلوا!!..هكذا وبكل بساطة ومن دون أية محاولة –ولو من باب ذرّ الرماد في العيون- لتفسير ذلك يتم تحويل معنى الرسول إلى القرآن.. لماذا؟ ..هل كان هناك إشكالٌ أصلاً في أن تفسَّر هذه الآيات بكونها تشير إلى الرسول بشخصه في حياته وسنته بعد وفاته؟.. أو أن تكون الهجرة إلى الله-بمعنى أوامره وكتبه- والرسول بمعنى سنته عليه الصلاة والسلام؟..
لا إشكال طبعا في ذلك، إلا أنهم مستعدون لفعل أي شيء لتمرير أكبر الغرائب والأكاذيب في سبيل هدفهم الذي لا يقبلون أيّ شيء دونه: هدفهم في نسف سنته عليه الصلاة والسلام ليخلو لهم الجو في تمييع المفاهيم، ووضعها في قوالب مطاطة بقدر ما يحتاجون.
تخيَّلوا إنَّ كل ما يُمكِنهم تقديمه من براهين بخصوص أنَّ لفظة الرسول تعني القرآن هو مجرد ضميرين في آيتين كريمتين (وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على افتقادهم للضمير)..
(..وأحياناً تعنى كلمة “الرسول” القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر. كقوله تعالى ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ (الفتح 9)
فكلمة “ورسوله” هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد!.. والدليل أن الضمير فى كلمة “ورسوله” جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وتعزروه وتقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل “وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا”. والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده . ولا فارق بين الله وتعالى وكلامه، فالله تعالى أحد فى ذاته وفى صفاته ﴿قل هو الله أحد﴾…
ويقول تعالى ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة 62)
ولو كان الرسول في الآية يعنى شخص النبى محمد لقال تعالى “أحق أن يرضوهما” ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه..)أنتهى ، المصدر نفسه.
هذا كل شيء.. ليس لديهم في جعبة أدلتهم شيء آخر: ضمير هنا وضمير هناك، وهذه المجادلة المتنطعة السخيفة: لِم لَم يقل تسبحوهما؟..إذن لا فارق بين الله ورسوله!.. ولا فارق بين الله وكلامه!.. تعالى الله وكلامه عن هذا الهذر كله.. لو فرضنا جدلاً أن المقصود هنا بالرسول كلام الله وقرآنه، فهل سمعنا قبل هذا إيراد لفظ التسبيح على القرآن؟ هل سيستقيم هذا المعنى؟..والصواب هو ما أوجزه علماء التفسير بلا تكلف ولا تكليف: فكل ضمير يرجع لمن يليق به الفعل: التعزير له عليه الصلاة والسلام، والتسبيح له عز وجل، ولا مانع من أن يكون التوقير لهما معا.. الأمر ذاته يخص تطبيلهم المشار إليه في الاقتباس حول “والله ورسوله أحق أن يرضوه” بدلا من يرضوهما.. فَرِضا الرسول تابعٌ لرضا الله حتما، كما أنه لا معنى أصلاً لكون هناك إرضاء لكلام الله أو لقرآنه.. وهل هناك معنى في أن يكون الرسول يعني القرآن في آية كهذه مثلا: “وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ” الفرقان (7)
أثبت هنا على مسؤوليتي الشخصية وأتحمل ذلك كاملا وسوف أحاسب عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا مشجعون أو منددون، أثبت أن من يبحث عن ضمير هنا أو هناك ويتسلل كالأفعى بهدف نسف سنته عليه الصلاة والسلام هو ممن ينطبق عليه حتما قوله تعالى: “فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ” آل عمران 7