ارفعوا أيديكم عن القضاة، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليهم بإنزالهم مَنزلةً فوق منزلتهم، فترسخوا بذلك لدولة ثيوقراطية من نوع جديد كهنتُها المعصومون هم القضاة المقدّسون! دولة قضا - قراطية داخل الدولة، بل فوق الدولة أَطلقتُ عليها هذا الاسم الذي أراه يُعبّر عنها.
منذ أكثر من عشرين شهراً سقط مبارك وسقط معه دستور1971م وبدأ الحديث عن التعديلات الدستورية، والاستفتاء عليها وهو ما تزامن مع ظهور واضح وتأثير ملحوظ للتيار الإسلامي في الشارع السياسى؛ في نفس التوقيت تقريباً بدأت "مُكلمات" الإعلام في ترديد مصطلح الدولة الدينية، أو التعبير الأكثر نُخبوية "الدولة الثيوقراطية".
ومنذ ذلك الحين لم تكفّ النخب العلمانية والليبرالية عن الصياح على الشاشات والصحف مُحذّرة من تلك الدولة، ومُرهبِة الناس من خطورتها، دون التفات لأصوات بُحّت منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا في بيان أن ذلك المفهوم الذي يُدندنون حوله لا علاقة له بالدولة في المفهوم الإسلامي.
حاول الإسلاميون كثيراً دون جدوى التبرؤ من اتهام قرّر النخبويون إلباسهم إيّاه -بالعافية-، بل ومحاكمتهم عليه، وتكليفهم بدفع ثمنه الباهظ؛ مهما أكدوا أن دينهم وشريعتهم لا تعرف تلك الثيوقراطية المتمثلة في تقديس الأشخاص، كنموذج ولاية الفقيه الإيراني، أو كهنوت الدول الأوروبية في العصور الوسطى والتي بلغ تسلُّط رجال الدين فيها حدّ المُتاجرة بصكوك الغفران، وبَيع أراضي الجنة للناس، والتحكُّم المُطلق في الملوك والحكّام وغير ذلك من صور الثيوقراطية التي تجلّت بوضوح في قول الأبِ "جريجوري السابعِ" مخاطباً رجالَ الدين بكنيسته:
"ألَا فليُدْرِكِ الْعالَم أجمع أنَّه إن كان بمقدورِكُم الرَّبْطُ والحلُّ في السَّماء؛ فإنَّكُم على الأرض قادرونَ على أن تُعطوا الْمُلْكَ من تشاءُون، وتنزعُونَه مِمَّنْ تشاءُون في الإمبراطورياتِ والممالكِ بَلْ إنْ شئتُمْ: في كلِ ما يمتلكُه البشر" [الدولة و الكنيسة لرأفت عبد الحميد و فيه كم كبير من تلك النقول مَنسوبة إلى مراجعها الأصلية و المترجمة و لمن شاء الاستزادة فليرجع إلى كتاب آخر للمؤلف بعنوان "الفكر السياسي الأوروبي في العصور الوسطى" فهو أكثر اختصاراً و منه نسخة إليكترونية].
أو قول الأب "جلازيوس" مُخاطباً الإمبراطور"انسطاسيوس الأول" قائلاً:
"إِنَّ أحداً لا يُمكن أن يعلو بنفسه بأساليب بشريّة، ليُقارب تِلك المكانة السامية للذي خاطبَه صوت المسيح وفضلَّه على الآخرين -يعني رجال الدين-"[المصادر السابقة].
تلك الأقوال وغيرها يتبين منها وجود قدسية وعِصمَة لرجال الدين تجعلهم في منزلة أعلى من منزلة البشر العاديين، وتجعل لهم تحكماً وسلطاناً بالحق الإلهي، وهو ما لا يُعرف أبداً في عقيدة أهل السُنّة والجماعة، حيث لا عِصمَة إلا للوحي، ولا معصوم بعد المعصوم.
ردَّد الإسلاميون طويلاً كلمة الصديق:
"وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني؛ وإن أسأتُ فقوموني؛ أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعةَ لي عليكم" [البداية و النهاية لابن كثير و السيرة النبوية لابن هشام].
وكلمة الفاروق:
"الحمد لله الذي جعلني في قومٍ إذا مِلتُ عدلوني" [رواه بن المبارك في الزهد والذهبي في سير أعلام النبلاء و إسناده فيه كلام]، وقوله: "أصابت امرأة وأخطأ عمر" [أخرجه أحمد والنسائي وعبدالرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم و ضعّفه الشيخ الألباني و حسّنه الشيخ العدوي]، وغيرها من الشواهد التي تُؤكد أن عقيدة أهل السُنّة لا تَعرف هذا الكهنوت، والتقديس؛ وأن المُقَدَس فقط هو الشرَع المُنَزَل مِن عند القدُّوس المُنزّه.
لكن بلا فائدة فالحكم قد صدر وسبق السيف العذل، استمر الاتهام بالتقديس، والرمي بالثيوقراطية.
حتى حدثت تلك المحكات الأخيرة مع القضاء، بداية من أحكام براءة بالجملة، توحي لمن يُتابع المشهد من بعيد أن شهداء الثورة قد ماتوا من تلقاء أنفسهم، ومروراً بتحكُّمات الدستورية العليا، وأخيراً تلك المَناحة التي أُقيمت حينما حاول الرئيس تنفيذ المطلب الذي طالما كان مرفوعاً منذ أيام الثورة الأولى إلى يوم الناس هذا و أقدم نقل النائب العام من منصبه.
فجأة تحول جُل المناهضين للثيوقراطية، والمنادين بعدم تقديس الأشخاص إلى مقدِّسين للقضاء ورجاله!!
صاروا من حيث لا يشعرون ثيوقضائيين أو قضاقراطيين أيّاّ كان الاشتقاق الذى ترتاح إليه.
تناثرت تصريحات من هنا وهناك تنضح بالتقديس و الغلو من بعض القضاة و رؤساء النوادي الاجتماعية و من بعض من يُفترض أنهم ثوار كانوا يوماً يطالبون بأقسى العقوبات على قتلة الثوار أو بإقالة أذناب النظام داخل كل مؤسسات الدولة و من ضمنها القضاء.
فجأة و لاعتبرات مُعروفة و تحزُّبات مُقيتة تم تناسى كل ذلك و صار القضاة خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه ولا تعقيب عليه و سبحان من لا مُعقّب لحُكمه و لا راد لقضائه. وَمن قال أن مُحاسبة القاضي و تطهير منظومته بالأساليب التي يتفق عليها و التي تمنع حدوث انتهاك وتغول السلطات على بعضها لا يتنافى مع الاحترام العام لتلك المؤسسة في شيء.
إن الفارق كبير جداً بين احترام القاضى وبين إنزاله فوق منزلته، أو تقديسه وتنزيه أحكامه واعتبارها عنوان الحقيقة المُطلقَة كما يفعل البعض وكأن القضاة مُنزّهون عن الزلل، أو مَعصومون من الخطأ؛ وهذا أمر في غايةِ الخطورة.
القضاة أولاً وأخيراً بشر يَحكمُون بقانون وضعه بشر، يُصيبهم الزلل، ويعتريهم النقصُ والخلل.
بل حتى لو أنهم حكموا بالشرع كما نطمح وليس بالقانون الوضعي الحالي، فهم ليسوا حينئذ أيضاً مقدسين، ولا معصومين؛ بل من بين كل ثلاثة منهم قاض في الجنة، وقاضيان في السعير كما ثبت عن البشير النذير [صحيح الجامع].
بل إن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفسه كان في مقام القضاء بين الناس ينبه أنه يقضي ببشريته كما صح عنه قوله: «إنكُم تَخْتَصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعْضَكُم ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ من بعضٍ، فمن قضَيتُ له بحَقِّ أخيهِ شيئًا بقوله، فإنما أقْطَعُ له قِطْعَةً من النارِ، فلا يأخُذها» [رواه البخاري].
و ها هو نبي الله داوود عليه السلام يخرّ راكعاً تائباً بعد قضاء قضاه خشيَ أن يكون قد فُتن فيه.
قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: من الآية 24].
هذا حال نبي و ليس رجل عادي و مع ذلك كما قال جمهور المفسرين لما تبين أنه قد استمع إلى أحد الخصمين تواضعَ و خرَّ راكعاً و أناب خشيةَ الافتتان. لم يقل حُكمي عنوان الحقيقة ولا مُعقبَ له، إنما تواضع و خرَّ واستغفر.
القضاء يا سادة؛ هو مجرد آلية لتحقيق العدل وهو محضُّ وسيلة بينما العدل مَقصِدٌ وغاية، وكم من قاضٍ لا يُقيم العدل في ذاته قبل غيره فلا يتورّع عن توظيف ولده بالواسطة كما قد يكون وُظّف هو نفسه من قبل، بل ربما لا يحترم حتى قانون المرور في سيارته داكنة الزجاج مِجهرية الأرقام، و مثل هذه النماذج يفترض أن يُطهَّر منها القضاء لا أن تفتعل لها قداسةً وهمية!
ليس بيننا وبين القضاة الشرفاء مشكلة فلا داعي لافتعالها بإلباسهم ثوب القدّسيّة، والغلو فيهم بهذه الطريقة الفجّة التي تحمل من ورائها أهدافاً سياسية، ومقاصدَ أيديولوجية واضحة جلية.
ارفعوا أيديكم عن القضاة، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليهم بإنزالهم مَنزلةً فوق منزلتهم؛ فترسخوا بذلك لدولة ثيوقراطية من نوع جديد كهنتُها المعصومون هم القضاة المقدّسون! دولة قضا - قراطية داخل الدولة، بل فوق الدولة أَطلقتُ عليها هذا الاسم الذي أراه يُعبّر عنها.
بقلم/ دكتور محمد علي يوسف