قصي حمدان
New Member
الجزء الأول من ( كتاب عالم جورج بوش السري )
( الدين ـ التجـارة ـ الشبكات الـخفية (
اريك لوران
دخل جورج دبليو بوش البيت الأبيض بعد انتخابات أثير حولها الكثير من اللغط، ومع ذلك لم يسبق أن حاز رئيس قبله كل هذه السلطة، وأظهر كل هذه الغطرسة. غير أن مساره يعج بالخفايا والأسرار، و«تشوبه» تحالفات مشبوهة وتلاعبات مالية مشينة، على حد تعبير مؤلف كتاب «عالم بوش السري» الذي حاول دخول دهاليز الحكم في أميركا، ورصد دور رجال المال، وصناع الفكر والاصوليين الدينيين في كواليس البيت الأبيض، وتوقع لقارئه ان يصاب بالهلع والقلق لما يجري في مطبخ النظام العالمي الجديد، نظام القطب الواحد الأوحد.
وقد عمدنا في عملية الترجمة والاعداد إلى الأسلوب الانتقائي في اختيار المادة المترجمة بهدف تقديم صورة متكاملة للقارئ عن هوية حكام عالم اليوم، منذ مرحلة التشكل الهلامي، فمرحلة الكمون وصولا الى مرحلة العمل المنظم والعلني في سبيل الغاية الأعظم أي «إعادة تشكيل المشهد الجيو سياسي بحيث تكون واشنطن فيه سيد اللعبة».
تأليف: اريك لوران
يعد من أبرز المراسلين في فرنسا، متخصص في شؤون السياسة الخارجية، له عدة مولفات رائجة بينها: «حرب الخليج، الملف السري» شاركه في التأليف بيار سالينجر، و«عاصفة الصحراء» وصدر له أخيرا كتاب «حرب آل بوش».
ترجمة وإعداد: مليكة بوشامة
علاقة محرمة» بين صانعي السياسة الدفاعية وشركات الأسلحة في أميركا
بعد ثمانية اشهر من تولي جورج دبليو بوش مهام الرئاسة في نوفمبر 2000، نشرت مجلة نيوزويك في عددها الذي صادف هجمات 11 سبتمبر مقتطفات من كتاب كان قيد الطبع يحمل عنوان: «رئيس بالصدفة؟» وكان السؤال ليبدو استفزازيا لكنه في الواقع سؤال مغلوط تماما. فبوش يمكن وصفه بأي شيء الا انه وصل الى الحكم بمحض الصدفة. واعتبر قسم كبير من الرأي العام الاميركي حصيلة حكمه آنذاك مخيبة للآمال فيما استطاعت قلة فقط من المراقبين تقييم حجم التغيير العميق والانقلاب المقلق اللذين حدثا.
فهناك كثير من الرؤساء في التاريخ الاميركي الذين شددوا على جذورهم الدينية، وطعموا خطبهم بمقاطع من الانجيل، ولكن لم يحدث ابدا قبل وصول جورج دبليو بوش ان اكتسب الدين وزنا كبيرا كما في عهده.
وخلال حملته الانتخابية اكد بوش ان المسيح هو المفكر الفضل لديه لانه «انقذ قلبي» وحالما تسلم السلطة أعلن يوم 20 يناير 2001 يوما وطنيا للصلاة رغم وجود مثيل له في شهر مايو.
ويقول المؤرخ آلان ليشتمان من الجامعة الاميركية في واشنطن: «ان اقحام الدين بهذا الشكل لم يسبق له مثيل».
وفي احدى خطبه الاولى قال على وقع التصفيقات الحارة: «ينبغي ان ينتهي زمن التمييز ضد المؤسسات الدينية لا لشيء الا لانها دينية». وبعيد ذلك، انبرى يدافع باستماتة عن المطالب الاساسية للمنظمات المسيحية المحافظة جدا وضمنها منظمات أصولية تطالب بتوسيع نطاق استفادتها من الاموال العامة لتمويل برامجها للمساعدات الاجتماعية. وهو ما يمثل مصدر اثراء لا يستهان به بالنسبة لهذه الحركات وقادتها بمن فيهم رجال الدين ورؤساء الشركات ومعظمهم يملك ثروات شخصية طائلة.
ويذكر ان جورج دبليو بوش اكد خلال حملته الانتخابية انه يجسد «نموذجا جديدا للمرشح الجمهوري». لكن الواقع كشف عكس ذلك.
«فالتحالف الجديد» الذي كان يدعمه تنكر تماما للقيم والقناعات التقليدية للحزب الجمهوري او على الاقل تلك التي دافع عنها اثنان من الحزب وهما ابراهام لينكولن ودوايت ايزنهاور. إذ اعتبر الأول الحرب الاهلية اختبارا حقيقيا. وظلت الحرب طيلة 140 عاما تقريبا محور الاهداف بالنسبة لهؤلاء المسيحيين الاصوليين الذين يتسمون في الغالب بالعنصرية ومعاداة السامية والمرتبطين ارتباطا وثيقا ببعض المحافظين الجدد اليهود المقربين جدا من حزب الليكود اليميني الحاكم في تل أبيب. اعتبر هؤلاء ان المواجهة اللازمة ينبغي ان تتم على صعيدين اثنين فعلى الصعيد الداخلي، ينبغي التوصل الى تفكيك نظام الرعاية الاجتماعية ودعم الاقليات الذي وضع قبل عدة عقود الى جانب فرض القيم الدينية الاكثر محافظة على المجتمع الأميركي برمته.
وكانت مؤسسة «هيريتيج»، معقل هذه الاستراتيجية، تتحدث عن ثورة اميركية ثانية لـ«الاستقلال الثقافي» ترمي الى نسف المجتمع متعدد الثقافات السائد في الولايات المتحدة وتقويضه.
.. لامنافس لأميركا
اما على الصعيد الخارجي فكان الهدف يرمي الى تسخير الجبروت الاميركي، وخاصة القوة العسكرية لاعادة تركيب المشهد الجيوسياسي. وقد قالها الصقور المتحلقون اليوم حول جورج دبليو بوش صراحة «ينبغي الا نألو جهدا في منع اي بلد او مجموعة اقليمية من التمكن يوما ما من منافسة اميركا».
وفي خطاب القاه ايزنهاور قبيل مغادرته السلطة في يناير 1961 وترك صداه الى اليوم، تحدث الرئيس عن وجود تحالف عسكري صناعي يمثل خطرا جسيما على الديموقراطية الاميركية وكانت تلك القوة العظيمة المتمثلة في البنتاغون من جهة وشركات الاسلحة من جهة أخرى تشغل بال القائد العسكري السابق.
وظل نفوذ هذا اللوبي وما يمثله من خطر موضوعا يتردد على الالسن طيلة العقود التي تلت. ونستعير كلام لينين، الذي قال قبل وفاته بقليل عام 1924 ان «الشركات متعددة الجنسيات بسطت هيمنتها على الارض» لنقول ان التحالف العسكري الصناعي قد بلغ اوجه حين هيمن على ادارة بوش. فواضعو السياسة الدفاعية ومنفذوها الذين يرسمون ايضا الملامح الجديدة للسياسة الخارجية الاميركية، يقيمون علاقات «محرمة» حسب تعبير احد المراقبين، ولكنها مثمرة مع شركات الاسلحة، والشركات الكبرى.
سيكولوجية
التقى الصحافي بوب وودوارد الرئىس الاميركي في اغسطس 2002 بمزرعته في كراوفورد. وقد كتب يقول: «خلال المقابلة، جاء الرئىس الاميركي على ذكر فطرته أو «ردود فعله الغزيرية» حوالي 12 مرة الى ان قال: «انا لست من النوع الذي يعمل بما جاء في الكتب بل بما تمليه علي غريزتي».. ومن الواضح ان غريزته هي بمثابة دينه الثاني.
صحيح ان بوش لا يقرأ. وقد ظلت السيرة الذاتية لسام هيوستن، احد مؤسسي تكساس الذي يحلو له ان يتماهى معه، هو الكتاب الذي يتصفحه قبل الخلود الى النوم طيلة شهور عديدة، غير ان ثمة كتابا وحيدا حرص على قراءته سطرا سطرا، وبتركيز شديد، واحدث فيه تغييرات جذرية على مستوى الشخصية والنظرة الى العالم، انه كتاب الانجيل الذي قرأه وهو يشارف على الاربعين من العمر.
تزوج بوش عام 1977 وانضم الى الكنيسة البروتستانتية الاصلاحية التي كانت زوجته عضوا فيها. وعرف عنه ادمانه الكحول حتى ضاقت به زوجته لورا ذرعا وفي عام 1985 اصيب بوش وهو في عمر 39 عاما بحالة احباط شديد مع توالي النكبات والاخفاقات على الصعيد المهني.
ويروي هاوارد فينمان في تحقيق نشرته نيوزويك تحت عنوان: «بوش والرب» كيف تعافى الرئيس الحالي من هذه الحالة بفضل احد اعز اصدقائه بوب ايفانز، الذي يشغل منصب وزير التجارة حاليا. كان ايفانز يمر بدوره بفترة عصيبة على الصعيد المهني والشخصي وكان قد التحق بحلقة دراسية للانجيل وهي عبارة عن برنامج لدراسة احد كتب العهد الجديد دراسة معمقة على مدى عام كامل.
واقنع ايفانز جورج دبليو بوش بالانضمام الىه في الحلقة الدراسية. فتعمق الاثنان في انجيل لوقا طيلة عامين، ودرسا نسخة القديس بول حول طريق دمشق وانشاء الكنيسة المسيحية «وقد كان هذا البرنامج بمثابة انعطافة حقيقية في حياة رئيس المستقبل على صعد عدة، اذ اصبح لديه محور اهتمام فكري للمرة الأولى». ويعتبر بوش بهذا المعنى نتاج «حزام الانجيل» وهو المصطلح الذي يطلق على الولايات المحافظة والمتدينة في جنوب الولايات المتحدة حيث يكن المؤمنون احتراماً شديدا لنصوص الانجيل.
وجد بوش الذي يحب ممارسة المشي والماراثون في دراسة الانجيل بديلا فكريا وتربية روحية كان في أمس الحاجة اليهما لمواجهة التحدي الأساسي في حياته آنذاك، اي ترك تعاطي الكحول.
وقد توقف بوش عن ذلك في صيف 1986 بعدما احتفل هو وصديقه ايفانز ببلوغهما الأربعين.
ويذكر انه قال في احدى المناسبات بعد انتخابه ببضعه شهور: «لقد كان الإيمان خير سند لي في أوقات النجاح والاخفاق. ولولاه لكنت شخصا مختلفا ولولاه لما كنت هنا اليوم، ربما».
وبعد «مولده الجديد» (اشارة الى التجربة الروحية لاعادة اكتشاف الله التي يزعم كثير من الاميركيين «1 من 4» انهم عاشوها) في عام 1986، اهتدى بوش بعد عام من ذلك الى السبيل الذي يكفل له المزج بشكل فعال بين القناعات الدينية والطموحات السياسية. ففي عام 1987، ذهب الى واشنطن والتحق بالفريق الذي كان يحضر الانتخابات الرئاسية لصالح والده. وتم تكليفه بتنسيق العلاقات مع مجموع الحركات والمنظمات التابعة لليمين المتدين وهو ما لم يكن وليد الصدفة.
ويقول احد مساعديه، وهو دوغلاس ويد متذكرا: «أما أبوه فلم يكن يشعر بالارتياح فعليا لهؤلاء الناس في حين كان الابن يعرف تماما كيف تنبغي مخاطبتهم والتعامل معهم». وتكررت مبادرات جورج دبليو بوش، طيلة الحملة لمحاولة اقحام اكبر عدد من النصوص الانجيلية على سبيل الاستشهاد في الخطب الانتخابية التي ألقاها والده.
وحين قرر في عام 1993 ترشيح نفسه لمنصب حاكم تكساس اثار ارتياب والدته التي كانت ترى شقيقة الأصغر جيب مؤهلا للمنصب في فلوريدا اكثر منه. وكان جورج دبليو بوش الذي هزم أبوه امام بيل كلينتون قبل عام من ذلك، قد انكب على تحليل الأسباب الانتخابية الكامنة وراء هذه الهزيمة بمساعدة «ملهمه السياسي» كارل روف الذي يعمل ضمن فريقه في البيت الأبيض.
واتضح ان اسباب هزيمة بوش كان مردها في جزء كبير منها الى نقص اصوات المحافظين المتدينين الذين يشكلون حسب تعبير «روف» «قوة لا غنى عنها لأنها تمثل حوالي 18 مليون ناخب. وهؤلاء الناس لا يمكن التحايل عليهم فهم يريدون ان تكون مثلهم».
ثم ان بوش ارتكب في نظر المسيحيين المتطرفين خطأ.
لا يغتفر حين مارس ضغوطات على اسرائيل وأجبر رئيس الوزراء آنذاك اسحق شامير على الجلوس الى طاولة المفاوضات اثناء مؤتمر مدريد، ويذكر ان هؤلاء الناشطين المسيحيين كانوا يتبنون المواقف الاكثر تشددا لدى اليمين الاسرائيلي، وهو تحالف غاية في الغرابة والغموض.
من يدخل الجنة
في عام 1993 وخلال الفترة التي كان جورج دبليو بوش يتهيأ فيها لدخول السباق الانتخابي لتبوؤ منصب حاكم ادلى بمقابلة صحيفة لصحافي يهودي وكان من ضمن ما قاله فيها: «وحدهم المؤمنون بالمسيح سيدخلون الجنة».
وهي جملة أثارت حفيظة عدة كتاب اعمدة في الصحافة المحلية والاقليمية في حين ابتهج لها كارل روف لان هذا الكلام الطائش الصادر عن مرشحه يعتبر الوسيلة الاضمن لاستمالة قلوب واصوات الناخبين المسيحيين المحافظين وخاصة في المناطق القروية من ولاية تكساس.
وقد استخدم بوش طيلة حملته الانتخابية القساوسة كوسطاء او مفاتيح انتخابية، وفور اعلان فوزه صرح قائلا: «لم أكن لاصبح حاكما لو لم اكن مؤمناً بمخطط الهي كبديل لكل المخططات الانسانية».
ويتحدث الصحافيان لودوبوز ومولي ايفنس اللذان تقصيا كثيرا حول الرئيس الحالي عن «ايمان قدري وغريب للغاية» ويمكن الجزم ان بوش موقن انه مكلف بمهمة الهية.
رئيس
بدأت فكرة الترشح للانتخابات الرئاسية تراود جورج دبليو بوش مع مطلع عام 1999، ففاتح والدته في الامر اولا، وبعد ذلك بفترة قصيرة ذهبا معا الى الكنيسة لحضور القداس، وكان موضوع العظة في ذلك اليوم يتلخص في شكوك موسى في مؤهلاته كزعيم، فاسرت بربارة لابنها بالقول: «انك تشبه شخصية موسى» وفور عودتهما الى البيت استشارا القس بيل غراهام باعتباره صديقاً شخصياً لبوش الاب، كما يعد اشهر مبشر ديني في الولايات المتحدة وكان المستشار الروحي للعديد من الرؤساء الاميركيين وكاتم اسرارهم.
وطمأن غراهام بوش جونيور بشأن مؤهلاته، وما هي الا بضعة اسابيع حتى جمع حاكم تكساس في مقر سكنه ابرز القساوسة والقادة في تيار اليمين المسيحي.
أجواء غريبة
محرر خطابات بوش ديفيد فروم: «جاء بوش يتحدث عن ثقافة مختلفة تماما عن ثقافة رونالد ريغان الفرداني النزعة. ولفهم إدارة بوش لابد من فهم مدى سيادة هذه العقيدة». ويروي أن الرئيس الأميركي بادره بالقول ذات صباح فور وصوله للعمل إلى جانبه: «لم أرك في جلسة قراءة الانجيل». إن ثمة اجواء غريبة تسود البيت الابيض الاميركي فزوجة الامين العام للرئاسة، اندروكارد مبشرة بالعقيدة الميثودية methodiste ووالد كونداليسا رايس يعمل مبشرا في الاباما، ومايكل جيرسون المسؤول عن الفريق الذي يتولى كتابة الخطب الرئاسية خريج كلية «ويتون في ايلنوا» التي تلقب بهارفارد الانجيلية»، وهو يؤمن بنبؤات اليمين المسيحي المتطرف الذي يتحدث عن ارما جدون وشيكة، وعودة المسيح الدجال وظهور مخلص جديد من بعده.
ويشارك كل موظفي البيت الابيض في مجموعات لدراسة الانجيل بشكل يومي، ويبدو مقر الرئاسة اليوم اشبه بقاعة صلاة واسعة يقوم العاملون فيها بادارة شؤون اميركا والعالم بعد جلسة قراءة جماعية لـ «العهد القديم» أو «الجديد».
السفير
في عام 1973، كان جورج بوش سفيرا في الامم المتحدة في عهد ريتشارد نيكسون ولم يكن احد ليتنبأ له بمستقبل سياسي واعد. وكان يدافع عن السياسة الاميركية في فيتنام امام اعضاء مجلس الامن فيما كان ابنه البكر جورج دبليو ينهي خدمته العسكرية في صفوف الحرس الوطني في تكساس كأضمن طريقة لتفادي ارساله الى الاوحال وحقول الارز في فيتنام. ولا شك انه كان يجهل بل لعله لم يكن يعلم ابدا ان ذلك العام كان بداية هجمة غلاة المحافظين الذين سيبلغ انتصارهم المطلق اوجه بانتخابه هو بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ.
هيريتيج ضمت «جند الصدام في الثورة المحافظة»
ممول اليمين الأميركي الأول ملياردير معقد وخجول حتى المرض
بدأ كل شيء في عام 1971 حين كان التنديد بحرب فيتنام يتفاقم دون هوادة، وبدا ريتشارد نيكسون وكأنه في مواجهة مباشرة مع قطاع كامل من الشعب الاميركي.
وحدثت آخر صدمة عام 1971 تحديدا مع نشر «ملفات تخص البنتاغون» تكشف مجموعة من الاسرار حول خفايا الحرب الدائرة في جنوب شرق آسيا. وكان مسؤول رفيع في البنتاغون يدعى دانيال إيلسبيرغ قد سرقها ونشرتها صحيفة نيويورك تايمز رغم الضغوط الشديدة التي مارسها عليها البيت الابيض. وكان وقعها شديدا. ووقع الرئىس الاميركي في حيص بيص، حين علم ان نسخة من الملف الضخم قد وصلت الى سفارة الاتحاد السوفيتي في واشنطن.
وفي العام نفسه قامت الغرفة الوطنية للتجارة بنشر مذكرة موجهة للزعماء في عالم الاعمال كتبها لويس باول الذي اصبح فيما بعد قاضيا في المحكمة العليا، وترك هذا النص ابلغ الاثر في العقول والنفوس، وورد فيه ان النظام الاقتصادي الحر يتعرض لهجمات عنيفة من قبل الشيوعيين واليساريين وغيرهم من الثوريين الذين يهدفون الى تدميره تماما اقتصاديا وسياسيا، وذهب باول الى ان من يشنون هذه الهجمات يؤيدهم «الطلاب في الاحياء الجامعية واساتذة الجامعات، وعالم الاعلام، والمثقفون والصحف الادبية والفنانون، والعلماء ومحترفو السياسية».
اعلان الحرب
ولم يقف تأثير مذكرة باول عند هذا الحد، بل انها ابهرت المسؤولين المحافظين كونها ترسم خطوط الاستراتيجية الواجب تبنيها ليس فقط لاستعادة ما فقد من سلطة ونفوذ بل ايضا لبسط هيمنة دائمة على السياسة والمجتمع الاميركي، اذ تدعو الى تصدي عالم الاعمال لمحاربة هذا الخطر من اليسار واليسار المتطرف وحله عبر تسخير كل حنكة لإنشاء منظمات يتم التخطيط لاهدافها وعملية تطبيقها بعناية، على ان يمتد عملها المترابط لفترة لامتناهية من السنوات تحظى بوسائل تمويل ضخمة تحشد لها جهود متضافرة «فالتأثير في السلطة السياسية يقتضي حسب باول مبادرات موحدة ومنسقة ومنظمات حاضرة على الصعيد الوطني» كما اقترح ان تستعين هذه المنظمات بباحثين، وان تصدر صحفا، وتؤلف كتبا ومقالات ورسائل نقدية وتنخرط في جهود طويلة المدى لتصحيح الخلل النابع من الاحياء الجامعية وتحقيق التوازن، واوصى في نهاية المطاف «بممارسة رقابة دائمة على برامج التلفزيون والكتب المنشورة» معتبرا انه لابد من توخي الحذر نفسه ازاء جهاز القضاء. ويمثل كلام لويس باول اعلان حرب حقيقية ضد الثقافة المضادة التي كانت تتصدر الساحة العامة والاعلامية، وتتزعم كل الافكار والتيارات الفكرية المعتدلة.
وقد افتتن رجال فاحشو الثراء من اقصى التيار المحافظ بهذا الكلام، وكانوا وهم المتشربون «بثقافة حربية» حقيقية على استعداد للدخول في صراع ضد هذه الاميركا التي يبغضونها، اذ «نخرها» في نظرهم «الانحطاط والافكار المنحطة» ولا تزال الذهنية نفسها تسيطر على اقصى اليمين الاميركي في عهد الرئىس جورج دبليو بوش رغم مرور 30 عاما.
أميركا تغيرت
وربما كان هؤلاء غلاة المحافظين يحلمون في مطلع السبعينات بنزاع مسلح قادر على إحياء أميركا من جديد لو لم تكن رحى الحرب دائرة في فيتنام. وقد اغرق هذا الاخفاق السياسي والعسكري البلاد في واحدة من اخطر الازمات الاخلاقية في تاريخها، فقرروا نقل المواجهة الى الداخل وتحقيق النصر عبر ممارسة تأثيرهم على العقليات واعادة تشكيلها. فتصرفوا بحزم ومنهجية ودأب. وقد قال رئيس معهد «أميركان انتربرايز»، وهو من ابرز المؤسسات التابعة للمحافظين، كريستوفر دي موث: «ان الامور تستغرق وقتا، وعلينا ان ننتظر مرور عشر سنوات على الاقل قبل ان تخرج الافكار الراديكالية الجديدة الى النور». غير ان هذه «المسيرة الطويلة» استغرقت في الواقع 30 عاما. ففي عام 2001 فقط تسنى لأقصى اليمين تذوق طعم النصر الكبير. وقد كتب ويل هاتون في صحيفة الابزورفر يقول: «ما زال البريطانيون وغيرهم من الاوروبيين لا يفهمون، فالولايات المتحدة تغيرت. اذ تحول مركز الثقل السياسي فيها من جانبيها الليبراليين (الشرق والغرب) الى جهتي الجنوب والغرب المحافظتين اللتين لا ترغبان في اية علاقة مع العالم الخارجي [...]. ويذكر ان المحافظين الاميركيين شنوا منذ الستينات حربا ضد التيار الليبرالي بحماس شبه لينيني وها هم يسيطرون اليوم على الدولة الاميركية، ويرغبون في الاستفادة من هذا النصر».
الأب المالي
في عام 1973، دخل ريتشارد سكيف ميلون الى الحلبة. ومع توالي السنين لقب هذا الرجل الاشقر ذي العينين الزرقاوين والمعروف بتحفظه الشديد «بالأب المالي لليمين الأميركي»، وكان آنذاك في العقد الثالث من عمره.
وهو ابن سارة ميلون، وريثة المصرفي الملياردير اندرو ميلون الذي كان يعتبر في حياته اغنى رجل في الولايات المتحدة الى جانب جون دي روكفيلر. وحين توفيت والدة ريتشارد سكيف ميلون عام 1965 تركت له ثروة قدرت قيمتها بأكثر من مليار دولار الى ثلاث مؤسسات كبرى.
كان ريتشارد سكيف شخصية معقدة ومتكتمة يعيش في عزلة. وكانت لديه املاك في مختلف انحاء الولايات المتحدة. وكان يرفض المقابلات الصحفية وكل علاقة مع الصحافة. وهناك عدد كبير ممن استفادوا من عطاياه لم يلتقوه ابدا. وكان خجولا لحد المرض مشغولا بالنفوذ اكثر من الشهرة وقد قام بسحب اسمه من كتاب .whoصs who ويحكي رئيس التحرير السابق لمجلة بيتسبيرغر التي كان يمولها سكيف أنه سأله أثناء اجتماع عمل قائلا: «هل سلطتك نابعة من سلطة المال؟»، فصمت سكيف لثلاث أو أربع ثوان وهو يحدق فيه بنظرة قاسية قبل أن يجيبه: «أنا لا أضيع وقتي في التفكير في هذا الأمر لكنني كلما تقدم بي العمر زاد تأثيري وبالتالي زادت مكاسبي». وقد ظل العمل الخيري المعفى من الضرائب احدى ركائز عالم الاقتصاد والمال الاميركي وقدرته على التأثير في السلطة السياسية زمنا طويلا. (...) وقد عرف ريتشارد سكيف ميلون دائما باهتمامه بالسياسة وقضايا غلاة المحافظين. ففي عام 1963، قام بدعم باري غولدووتر التي كانت تمثل الجناح اليميني في الحزب الجمهوري للرئاسة. ومول حملتها ووضع طائرة خاصة في خدمتها لكنها منيت بفشل ذريع امام ليندون جونسون وهو ما راعه. وقد نأى بنفسه عن السياسة الاحترافية بعد ذلك وان تبرع بمليون دولار لحملة ريتشارد نيكسون الانتخابية في عام 1972، على شكل 344 شيكا تفاديا للضرائب.
واعجابا من سكيف ميلون بمذكرة لويس باول قام «بتعميد» مؤسسة «هيرتيج» في عام 1973 حيث انشئت لتصبح السلاح الكفيل في نظره بتحقيق «النصر في معركة الافكار» وقدم لها 900 الف دولار. وبعد مرور ثلاث سنوات قدم لها 420 الف دولار اي ما يعادل 42 في المائة من الميزانية الاجمالية للمؤسسة التي كانت تقدر آنذاك بمليون دولار. وقد علق رئيسها الحالي ايدوين ج. فولنر على ذلك بالقول: «كان المبلغ دعما اساسيا جاء في وقت حرج من حياة المؤسسة».
وكان ميلون يشرف بشكل مباشر على ثلاث مؤسسات هي مؤسسة سارة (قدرت موجوداتها في عام 1997 بـ 302 مليون دولار ومؤسسة آليغاني (39 مليون دولار) ومؤسسة قرطاج (24 مليون دولار) وكان والداه ديفيد وكيري يترأسان مؤسسة رابعة هي مؤسسة عائلة سكيف Scaife Family Foundation التي بلغت موجوداتها 170 مليون دولار، وتتقيد بالاهداف التي رسمها والدهما. وقد بلغ مجموع ما انفقه ميلون في ظرف 30 عاما، بين عامي 1967 و1997 في تأسيس ودعم عدة معاهد ومنظمات ذات نهج محافظ متطرف حوالي 600 مليون دولار. ومن بينها معهد هوفر بجامعة ستانفورد الذي كانت كونداليسا رايس مسؤولة عنه، ومعهد اميركان انتربرايز، ومن اعمدته ريتشارد بيرل ولين تشيني، زوجة نائب الرئيس الاميركي، ومعهد كاتو بالاضافة الى مجموعة من المؤسسات الناشطة في المجالات الاجتماعية والقضائية وكذا في المجال الاستخباراتي.
عبقرية هيريتيج
ظلت مؤسسة هييرتيج على مر السنين درة اعمال سكيف اذ تضم حسب تعبير احد نواب الرئيس بورتون يال بينز «جند الصدام في الثورة المحافظة» وهم رجال يملكون رؤية ايديولوجية للمجتمع الاميركي. فكل خطوة تقدمية اصبحت تعتبر في نظرهم منذ «الصفقة الجديدة» في عهد فرانكلين روزفلت بمثابة «هجمة ضد المبادئ التأسيسية لأميركا كما وضعت في القرن 18».
وقد رصد نصف ميزانية «هيريتيج» على مر السنين لترويج الافكار. فانبرى المتعاونون معها لتحرير المقالات واعداد الدراسات في كل حقول السياسة الاميركية وتحدثوا عن الحظر الشيوعي. وتقليص البرامج الاجتماعية وتعزيز الميزانية العسكرية، ومكانة الدين ومكافحة النقابات وكان اي عضو في الكونغرس، يجد على مكتبه عشية جلسة نقاش او تصويت على قانون هام تقريرا من المؤسسة يتناول المشروع المرتقب بالتحليل ويقترح الحلول. وكانت هيرتيج تقدم هذه الدراسات الى مجلس الشيوخ والنواب ووسائل الاعلام وعامة الناس.
صناعة متنامية
يرى نائب رئيس وكالة اسوشيتد برس، و«الترمايرز» ان حركة المحافظين كانت تتحول آنذاك الى صناعة متنامية. ونظرا لتواجدها في المكان والوقت المناسبين احدثت تغييرا في الحياة السياسية والنقاشات داخل مبنى الكابيتول.
أما مدير صحيفة ديترويت نيوز فيقول: «تتمثل أهم جوانب نجاحاتهم الباهرة في تمكينك من الاطلاع على وجهة نظرهم في صباح اليوم التالي في بريدك الخاص. كان المرء يجد كل يوم نشرة صادرة عن المؤسسة، وكانت قراءتها كفيلة بجعله ينظر الى الأمور من زاوية كان غافلاً عنها».
كان ميلون يعيش هاجساً مصحوباً بيقين ان الجمهورية الأميركية في خطر قاتل، وان ثمة مؤامرات تحاك لتقويضها. وقد أسر لأحد الأشخاص انه يعتبر جون ادغار هوفر، مدير اف. بي. اي بطلاً ضمن ابطال آخرين. ويذكر ان ميلون لا يقرأ إلا لماما، وهو أمر غريب على رجل يؤمن بقوة الأفكار. لكن ثمة كتاب واحد أثر في نفسه كثيراً، وهو كتاب The Spike لمؤلفه الصحفي ارتو دي بورشغريف الذي أصبح فيما بعد صديقاً له ومديراً لصحيفة واشنطن تايمز التي تحظى بتمويل طائفة المون. ويحكي الكتاب قصة صحافي شاب يكتشف انه يستخدم كبيدق في مؤامرة كبيرة دبرها الاتحاد السوفيتي للسيطرة على العالم.
هيريتيج وأخواتها
لم يكن وريث ميلون الممول الوحيد الذي قام بدعم ولادة مؤسسة هيرتيج. فهناك ويليام كورز، قطب البيرة الذي تبرع بـ 250 الف دولار. وترتبط مؤسسة كورز التي تأسست عام 1877 على يد ادولف كورز بعلاقات وثيقة مع منظمات تابعة للتيار المحافظ المتطرف وبقادة اليمين المسيحي على نحو خاص.
كما استفادت مؤسسة الكونغرس الحر Free Congress Foundation من عطايا كورز. وهناك ايضاً مؤسسة اولين Olin Foundation وهي مؤسسة تعتمد في عائداتها على شركة عائلية أثرت في صناعة الذخيرة والمواد الكيماوية، لم تبخل بالدعم المالي على مؤسسة هيريتيج فضلاً عن اميركان انتربرايز ومعهد هوفر. كما مولت جامعيين محافظين مثل آلان بلوم الذي تلقى 6.3 ملايين دولار لادارة مركز جون م. أولين بجامعة شيكاغو لدراسة نظرية الديموقراطية وتطبيقها.
وبلوم هذا كان الأستاذ والمعلم الفكري «لبول وولفويتز» نائب وزير الدفاع الحالي، والمنظر الحقيقي للصقور في البيت الأبيض.
أما ايرفين كريستول الذي كان احد الرواد الكبار في تيار اليمين المحافظ في عهد ريغان، فقد تلقى اكثر من 380 الف دولار بين عامي 1992 و1994 بصفته باحثاً في معهد اميركان انتربرايز. ويعتبر ابنه ويليام كريستول اليوم من أهم المفكرين المؤثرين في الادارة الاميركية الحالية، ويتولى ايضاً ادارة مجلة المحافظين الجدد وويكلي ستاندرد التي يمولها قطب الصحافة روبرت مردوخ المقرب من عائلة بوش. وتنتهي قائمة الشركات الداعمة لتيار المحافظين المتطرف بمؤسسة ليند وهاري برادلي Lynde & Harry Bradley Foundation التي تتجاوز قيمة موجوداتها 420 مليون دولار. وقد أصبح هاري بفعل مواقفه اليمينية المتطرفة عضواً ناشطاً وممولاً لمنظمة Jhon Birch Society. وهي منظمة يمينية متطرفة معادية للشيوعية تدافع عن الطروحات القائلة بتفوق الرجل الأبيض. كما تمول موسسة برادلي على نحو خاص قناة NET National Empowerment Television التي تعتبر أخطر سلاح اعلامي يملكه اليمين المتطرف إذ تنشر ايديولوجيا مسيحية متطرفة بين المشتركين الذين يقدر عددهم بالملايين.
اطلعنا في الحلقتين الأولى والثانية على مدى تمكن النزعة الدينية من نفس الرئيس جورج دبليو بوش، وميله الى التودد للمؤسسات الدينية، وما يدين به من فضل للدين باعتباره كان عامل تغيير أساسي في حياته. ثم تعرفنا إلى الارهاصات الأولى التي مهدت لظهور فكر المحافظين الجدد، وأصحاب الثروات الطائلة الذين سخروا ملايين الدولارات لتغذية هذاالفكر ونشره عبر أشخاص ومؤسسات أنشئت لهذا الغرض.
البرنامج السياسي لريغن جسد «ثورة المحافظين» وتحول إلى إنجيل لكل من يصل إلى السلطة
انكمش مفكرو اليسار فاكتسح فوكوياما وهانتينغتون وأمثالهما
كان وصول رونالد ريغان الِى السلطة في عام 1980 بمنزلة اول انتصار ساحق تحققه حركة المحافظين المتطرفين ومؤسسة هيرتيج التي قدمت للادارة الجديدة الرجال والافكار، بل انها وضعت في العام نفسه الذي شهد الانتخابات الرئاسية «مذكرة للقيادة» تقع في 3 آلاف صفحة موزعة على 20 جزءا تتضمن تفاصيل البرنامج السياسي لريغان الذي وصف لاحقا «بثورة المحافظين».
ويقول احد المشاركين في وضع هذا النص متذكرا انها اصبحت «مرجعا حقيقيا وبمنزلة انجيل لكل شخص يصل الى السلطة».
في عام 2000، كان اليسار الاميركي قد خسر تماما معركة الافكار «فابتعد عدد كبير من الكفاءات الفكرية اليسارية الواعدة في صفوف اليساريين عن العالم الواقعي، ليعيش في عزلة داخل الاروقة الجامعية الضيقة، في حين حقق اليمين النجاح تلو الآخر في المكتبات اذ الف كتّاب مثل الان بلون، وجود وانيسكي، وتشارلز موراي، ومارفن اوفالسكي ودينش دسوزا، وفرانسيس فوكوياما، وصاموئيل هانتينغتون كتبا خلال العقدين الاخيرين غيرت من الخطاب السياسي والثقافي حول مواضيع مركزية بالنسبة لكل ما يتعلق «برؤيتنا» لتنظيم المجتمع، غير ان اهم ما في الامر ان هؤلاء الفوا كتبا موجهة لجمهور واسع ويتلقون دعما ماليا من المنظمات المحافظة التي ادركت الاهمية الكبرى لمعركة الافكار» حسب ما كتبه إيريك الترمان في صحيفة the Nation. وقد عدت مؤسسة برادلي في نهاية عام 1999 اكثر من 400 كتاب قامت بتمويلها في غضون 14 عاما، ويقول مدير المؤسسة مايكل جويس مؤكدا «لدينا قناعة بأن عددا لا بأس به من وسائل الاعلام الاخرى، تتأثر بالكتب، فإذا كنت تريد التأثير على عالم الافكار، فإن الكتب تمثل احد القطاعات التي يتعين عليك ان تستثمر اموالك فيها».
معين جورج بوش
اصبح معهد اميركان انتربرايز «المعين» الذي ينهل منه جورج دبليو بوش لتشكيل ادارته، ومن اعمدته ريتشارد بيرل، احد رواد الصقور وايرفينغ كريستول، مفكر المحافظين الجدد الاساسي ووالد ويليام كريستول، مدير مجلة المحافظين ويكلي ستاندرد، وليسن تشيني، زوجة نائب الرئيس، كما يعد داينش دسوزا احد «نجوم» معهد اميركان انتربرايز».
وتعد كتب تشارلز موراي وداينش دسوزامن بين الكتب المفضلة لدى جورج دبليو بوش غير انه اعجب اكثر بطروحات مارفن اوفالسكي، صاحب كتاب «مأساة الرأفة الاميركية» الذي يدعو فيه الى تفكيك نظام الرعاية الاجتماعية الاميركي وقد اصبح مستشاره خلال حملته الانتخابية وابتكر مفهوم «الرأفة المحافظة» الذي استخدمه الرئىس. وقام اوفالسكي بتأسيس كنيسة في مدينة اوستين في تكساس، تعلم من بين اشياء اخرى ان المرأة ليس لها مكان ولا دور تضطلع به في مركز الزعامة.
الإعلام من بعد النشر للاكتساح
في عام 1981، عزمت ادارة ريغان - بوش التي كانت تدير شؤون الحكم في واشنطن على انشاء صحيفة يومية محافظة في العاصمة الفدرالية، تستطيع ترجمة رؤاها وسياستها وتنافس في الوقت ذاته صحيفة واشنطن بوست، ذات الحضور الطاغي، وكانت هذه القلعة الليبرالية التي يتسم خطابها غالبا بالصرامة والتشدد الصحفي، بمثابة شوكة في حلق اليمين الاميركي.
وطرح مشروع الصحيفة على عدة شخصيات ادبية وفنية ورفضوه بمن فيهم ريتشارد سكييف ميلون الذي تردد كثيرا قبل ان يعلن رفضه، وكان يتعين على المجنون الذي يقبل بهكذا تحد أن يستعد لتكبد خسائر جسيمة لفترة طويلة. ومع ذلك فإن الرجل الذي اطلق صحيفة الواشنطن تايمز 1982 لم يكن يعرف عنه لا الجنون، ولا التجرد. انه الأب سان ميونغ مون، مؤسس كنيسة التوحيد في الستينات التي يعتبر اتباعها طائفة خطيرة. ومن خلال تصريحاته العديدة نعلم انه هو «المخلص الجديد» بما ان المسيح قصر في مهمته فأخذ هو على عاتقه توحيد الكرة الارضية عبر ضم كل القوى الدينية تحت لوائه.
وفي السبعينات، خضع مون وكنيسته للتحقيق حول ممارساته على يد لجنة من الكونغرس على رأسها النائب الديموقراطي دونالد فريزر.
كان مون قد اصبح مقيما بصفة دائمة في الولايات المتحدة ابتداء من عام 1973 حسب ما تشير اليه تقارير وزارة العدل، فيما اكد المتعاون الرئيسي مع الوزارة، وهو ضابط سابق في جهاز سي.آي.ايه الكوري يدعى بوهاي بارك، انه كان يحمل «البطاقة الخضراء».
وكان غطاء كثيف من السرية يلف طريقة تنظيم امبراطوريته، التي تضم عدة شركات يقدر عددها داخل الولايات المتحدة فقط بـ 12 شركة، وكذا مصادر وقنوات تمويله.
غير ان جهاز السي.آي.ايه كان على علم بكل شيء. وفي الوقت الذي كان مون يخضع فيه للتحقيق من طرف الكونغرس الاميركي كان جورج بوش مديرا لوكالة الاستخبارات. ويذكر ان جهاز سي.آي.ايه تولى تدريب الاجهزة السرية في كوريا الجنوبية التي حملت اسم ك.سي.آي.ايه وعرفت بشدة بأسها تجاه المعارضين الكوريين في الخارج، اذ قامت باختطاف وتصفية كثير منهم.
وكان بوش ومساعدوه الاقرب داخل الجهاز الاستخباراتي يعتبرون كوريا الجنوبية كبلد على «درجة عالية من الحساسية بالنسبة للأمن القومي الاميركي، ومون كمحور للعمليات السرية التي ينفذها جهاز سي.آي.ايه الاميركي بالشراكة مع نظيره الكوري. وقد تدخل رئيس المستقبل شخصيا لدى اعضاء الكونغرس لحضهم على عدم التعمق كثيرا في تحقيقاتهم. وكان له ذلك فأصبح مون ممتنا لجورج بوش طيلة السنوات الاربع والعشرين اللاحقة. وعمل باستمرار على تعبئة امكاناته الهائلة لخدمة الطموحات السياسية لعائلة بوش واغدق كثيرا على بوش الاب ثم الابن لاحقا، ولم يكن ذلك بدافع الشعور بالامتنان تجاه الرجل فقط. فقد استطاع مون بفضل صحيفة واشنطن تايمز ان ينفذ الى قلب السلطة السياسية الاميركية. وكان قد انفق اكثر من 100 مليون دولار لاطلاق صحيفة ستصبح لاحقاً مفضلة لدى المؤسسة المحافظة في واشنطن لكنها لم تتمكن من منافسة غريمتها الواشنطن بوست ابدا.
وقد اضطره هذا الفشل التجاري الى ضخ عشرات ملايين الدولارات سنويا لضمان استمرارها وهي سياسة دأب عليها منذ مطلع السبعينات وفي عام 1978 قامت لجنة تحقيق من الكونغرس بالتحقيق في فضيحة «كوريا غيت» وكان ذلك بمثابة استراتيجية من قبل جهاز سي اي ايه الكوري لشراء النفوذ لدى الحكومة والمسؤولين الاميركيين. وورد اسم مون مرات عدة باعتباره متورطاً في العملية وهي تهمة نفاها عن نفسه.
غير ان مون قال لبعض المقربين بشكل واضح لا يحتمل اللبس: «ينبغي ان يكون جزء من استراتيجيتنا في الولايات المتحدة اكتساب صداقات داخل جهازي الاف بي اي و سي. آي. ايه وقوات الشرطة، بالاضافة الى الأوساط العسكرية والتجارية». وهذا ما حدث بالفعل، فقد كان جهاز سي. آي. ايه يزود الواشنطن تايمز بانتظام بمعلومات غير منشورة، مقابل قيام الصحيفة بشن هجمات مضادة عنيفة، كلما كشفت معلومات محرجة حول موضوع حساس. فحين دخل جورج بوش حلبة السباق للفوز بالرئاسة وقف مون وواشنطن تايمز في صفه بكل حزم، وزعم المرشح الجمهوري انه لا يعلم شيئا عن القضايا والفضائح التي اثيرت في عهد ريغن مع انه شغل منصب نائب الرئيس طيلة ثماني سنوات، وكان المدعي الخاص لورنس وولش الذي كان يتولى التحقيق في قضية ايران غيت، على وشك النيل من جورج بوش، فهاجمته الصحيفة بشدة، بل ان الهجوم طاول الخصم الديموقراطي لبوش لاحقا، مايكل دوكاكيس، حاكم ولاية ماساشوسيتس سابقا، اذ روجت الصحيفة اشاعات زائفة حول صحته العقلية ساهمت في نزع المصداقية عن دوكاكيس لدى الرأي العام، وخلخلة حملته الانتخابية.
وعندما خاض الرئيس الاميركي معركته الانتخابية للمرة الثانية عام 1992، دأبت الواشنطن تايمز على ترديد الاشاعات التي تتهم خصمه الديموقراطي بيل كلينتون باحتمال تجنيده من قبل جهاز الكي. جي. بي لدى زيارته الى موسكو كطالب حاصل على منحة رودس الدراسية.
وكانت معاداة الشيوعية تبدو في الظاهر كلحمة تجمع بين مون والادارات الجمهورية، لكن الحقيقة كانت أكثر تعقيدا من ذلك، فمون الذي يلقبه اتباعه بـ«أبونا» كان يمول بسخاء الطاقم السياسي في كوريا الجنوبية، خاصة كيم جونغ بيل، الذي سيتولى لاحقا منصب رئيس الوزراء عامي 1998 و1999، وكيم داي جونغ الذي انتخب رئيسا عام 1998 وعرف بتأييده للتفاوض مع النظام الشيوعي في كوريا الشمالية.
حصاد الشيطان
ومع حلول عام 1991، وفي الوقت الذي كانت بيويانغ لا تزال تخضع فيه للحصار التجاري المفروض عليها من قبل أميركا، وكان بوش الأب يشغل المكتب البيضاوي، قام مون بإرسال عدة ملايين من الدولارات الى دكتاتور كوريا الشمالية كيم ايل سونغ كهدية عيد ميلاده، والتقى الرجلان عدة مرات وحصلت الواشنطن تايمز الأكثر معاداة للشيوعية على شرف اجراء أول مقابلة صحفية مع آخر زعيم ستاليني فوق الكرة الأرضية، وتشير المعلومات التي حصل عليها الصحافي ريتشارد بييري، ومصدرها تقارير اعدها جهاز دي. آي. ايه (الأجهزة السرية العسكرية الأميركية) الى ان عدة لقاءات جرت بين زعيم الطائفة والزعيم الشيوعي في الفترة الممتدة بين 30 نوفمبر و8 ديسمبر 1991، ومهدت لإرساء تعاون تجاري، ونص الاتفاق على قيام مون بتشييد مجمع فندقي في بيونغ يانغ، وتنمية السياحة في منطقة كيم كانغ سان والاستثمار في منطقة كومان غانغ ريفر، وبناء محطة لتوليد الكهرباء في وونسان، وبلغت قيمة الاستثمارات حسب جهاز دي. آي. ايه 5.3 مليارات دولار.
وتضمن الاتفاق الاقتصادي المبرم مع كوريا الشمالية بندا سريا يقضي بحصول زعيم كنيسة التوحيد على حق استثمار أرض تقع في تشونغ تشو مسقط رأسه لمدة 99 عاما، تعبيرا عن امتنان كيم ايل سونغ له على مساعدته، ورصدت المنطقة لتصبح «أرضا مقدسة» ومحجا يقصده أتباع مون من كل أنحاء العالم.
ووضعت هذه المساعدة المقدمة لنظام كوريا الشمالية ادارة بوش في موقف محرج، فالحصار الأميركي المفروض على بيونغ يانغ يعود الى زمن الحرب بين الكوريتين في مطلع الخمسينات ويحظر عقد اي اتفاقات تجارية او مالية «بين كوريا الشمالية وأي مواطن اميركي او مقيم بصفة دائمة». وهذا ينطبق تماما على مون المقيم رسميا في «تاري تاون» قرب مدينة نيويورك، وما فعله بالتالي لا يعتبر في نظر كثير من المسؤولين الاميركيين خرقا للقوانين فقط بل دعما لدكتاتور مفلس بالعملة الصعبة التي كان في امس الحاجة اليها، وفي وقت كان يسعى فيه لتمويل برامج تسلح طموحة.
وهكذا حظيت كوريا الشمالية التي صنفها جورج دبليو بوش ضمن «محور الشر»، بدعم والده قبل 12 عاما في الخفاء، تماما كما حدث مع العراق، وقد تعززت العلاقات اكثر فأكثر بين مون الذي امن العقوبة وبوش حتى بعد خروجه من البيت الابيض في عام 1992.
وشارك جورج وباربرة بوش في عدة ندوات في مختلف مناطق الولايات المتحدة وآسيا لمصلحة منظمات يمولها مون. وفي زيارة رافق فيها الرئيس السابق صديقه مون الى الارجنتين، القى محاضرة تقاضى عنها مائة الف دولار، فيما بلغ مجموع ما تلقاه بوش من مون ومنظمته مقابل محاضراته العديدة 10 ملايين دولار.
ولكن حدث ما عكر صفو العلاقة وضايق الرئيس الأميركي الـ41 من صديقه. ونعني بذلك نبرة معاداة أميركا اللاذعة التي طبعت خطب مون. فقد قال مرة: «سيكشف التاريخ بوضوح مكانة مون وموقع اعدائه وسينحني الشعب الاميركي وحكومته امامه». وفي الاول من مايو عام 1997، اكد قائلا على اسماع جمهور من اتباعه: «ان البلد الذي يمثل حصاد الشيطان هو اميركا».
وقد كتب احدهم في مجلة اميركية بارزة معلقا: «من الواضح ان مون يكن عداء صريحا لأميركا وللديموقراطية، ويملك اجندة لتقويض الديموقراطية الاميركية والنزعة الفردانية».
عمل مون بلا كلل طيلة سنوات عدة على تسخير ثروته الطائلة والاعيبه لنيل الحظوة لدى القادة الاميركيين المحافظين في مجالي السياسة والدين، اي لدى ممثلي بلد يكن له في اعماقه كل البغض. والى جانب تعاونه مع بوش اقام تحالفا مع كل زعامات اليمين المتطرف المسيحي والمدافعين المتشددين عن اميركا وقيمها. وحولهم الى شركاء مثل المبشر الاصولي جيري فالويل، زعيم الاغلبية الاخلاقية الذي كان يمر بأزمة مالية حادة في نهاية عام 1993 فطار يوم 5 يناير الى سيئول حيث اجتمع طويلا بمسؤولي كنيسة التوحيد. وحصل في وقت لاحق على 5.2 مليون من مون.
ولم يكن فالويل الذي ايد حملات التشهير ضد بيل كلينتون الوحيد ضمن «الشبكة» التي اقامها مون، فهناك المبشر تيم لاهاي، مؤلف الكتب الدينية الاكثر مبيعا، الذي تلقى 500 الف دولار من بوهاي بارك، الساعد الايمن لمون، والضابط السابق في جهاز سي.اي.ايه الكوري. وهنالك ايضا، رالف ريد مسؤول هيرتيج وغاري بايور، المدير التنفيذي للتحالف المسيحي، بالاضافة الى روبرت شولر، القس والمبشر الديني الشهير على قنوات التلفزيون.