قصي حمدان
New Member
علم نفس قرآني
دكتور/ مصطفى محمود
الفلسفة، المادية أنتجت إنسانا يستهدف اللذة الفورية والمقابل المادي العاجل ويجري وراء اللحظة ويتشبث بالآن … ولكن اللحظة منفلتة أو"الآن " هارب فهو يعيش في عالم الفوت والحسرة وهو متروك دائما وفي حلقه غصة كلما اشبع شهواته ازدادت جوعا، وهو يراهن كل يوم بلا ضمان وبلا رصيد، فهو محكوم عليه بالموت لا يعرف متى وكيف وأين، وهو يعيش في قلق وتوتر مشتت القلب توزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت.
أما الإنسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف وأخلاقية مختلفة ورؤية مختلفة فهو يرى أن اللذات الدنيوية زائلة وأنها مجرد امتحان إلى منازل ودرجات وراءها وان الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل.. وان الله هو الضمان الوحيد في رحلة الدنيا والآخرة وانه لا حاكم سواه.. لو اجتمع الناس على أن يضروه لما استطاعوا أن ينفعوه إلا بشيء كتبه الله عليه. ولهذا فهو لا يفرح لكسب ولا يأسى على خسران وإذا دهمه ما يكره قال في نفسه:
(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون) (2/216)
وهو يقاتل ثابت القدم أمام الموت وهو يتذكر قول المولى عز وجل:
(ايمنا تكونوا يدر ككم الموت ولوكنتم في بروج مشيدة) (4/78)
(قل أن الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم) (62/ 8)
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (3/ 145)
وهو لا يحسد أحداً ولا يغبط أحداً بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة- يقول له قلبه:
( إلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) (3/ 196)
( أنما نملي لهم ليزدادوا أثما " (3/ 178)
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. والله لا يحب كل مختال فخور)( 57/ 22-23)
(قل لن يصيبه إلا ما كتب الله لنا) (9/ 51).
و ثمرة هذه الآيات عند المؤمن بها هي السكينة والهدوء النفسي واطمئنان البال.
( إلا بذكر الله تطمئن القلوب) (13/28)
ومثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته وجد عوضا لها حلاوة في قلبه مما يلقى من التحرر الداخلي من إغلال نفسه ومما يجد من النور في بصيرته.
والتوحيد يجمع عناصر نفسه ويوحد اتجاه مشاعره نحو مصدر واحد للتلقي، فهو لا يخاف إلا واحدا ولا يطمع إلا في واحد، ولا يتقي إلا واحدا، ولا يتقرب إلا لواحد، فيؤدي هذا التوحيد إلى أثر تركيبي في بناء الشخصية فلا تتوزع مشاعره ولا تنقسم نفسه ولا تتشتت همته.
ذلك هو علم النفس القرآني وما يصنع في تربية النفوس.
فماذا قدم علم النفسي الفرويدي من جديد.
الإحساس بالذنب رآه فرويد مرضا والتوبة نكوصا وقمع الشهوات كبتا والندم تعقيدا والصبر على الأذى بروداً.
ونظر فرويد إلى العمل في نطاق الفعل والحافز دون بحث في النية والإخلاص. ولم ير من النفس الإنسانية إلا الجانب الحيواني الشهواني وتصور الأحلام كلها تدور برموزها في هذا الفلك الشهواني المحدود، فكل ما يبدو في الحلم مستديرا كالكهف أو الحفرة أو الثقب أو الحلقة فهو رمز للأنثى، أما القلم والسيف والبرج والعصا والثعبان فهي رموز للذكر، وجميع الحركات كالمشي والجري والتسلق والطيران والسباحة كلها رموز للفعل الجنسي.
وتصور النفس معزولة تماماً عن محيطها الغيبي ولم يعترف بالنفث الشيطاني، أو الخاطر الملائكي، أو الإلهام ا لربا ني.
وخلق من تعلق الطفل بأمه عقدة أوديب تهدف إلى كراهية الأب وقتله والتخلص منه في اللاشعور، يعوضها الطفل شعوريا بالتحبب إلى الأب ومحاولة تقليده، ويعوضها الكبار بعبادة الأب السماوي تكفيرا عن رغبتهم الباطنية في قتل الأب الأرضي.
ورأى فرويد أن الشخصية تأخذ شكلها النهائي في السنوات الخمس الأولى من الطفولة ثم تصبح قدر صاحبها، ولا يعود للطب النفسي دور سوى المهدئات والمسكنات ومحاولة التنفيس عن المكبوت في داخلها، ولم ير من النفس إلا منطقة واحدة هي النفس وإصلاح الأمارة الحيوانية.
وعلم النفس الفرويدي لا يؤمن بإمكانية تبديل النفس بينما يقول علم النفس القرآني بإمكانية تبديلها.. ويقول بشفاء النفس واصلاح البال ونزع الغل من الصدور.
ولم يقف وصف القرآن للنفس عند حدود النفس الأمارة الحيوانية بل قال بسبع مر اتب هي: النفس الأمارة، واللوامة،، والملهمة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، والكاملة.. وبإمكان الإنسان أن يرتقي في هذا المعراج من الكمال بالطاعة والعبادة، وحدد القرآن السلوكية المثلى بأنها سلوكية الاعتدال.
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) (25/ 67)
والسيرة تحفظ لنا صورا ونماذج من تبدل النفوس من الظلامية إلى النورانية في لحظة بالفضل والهدى الإلهي.. كما
كان من شأن عمر بن الخطاب الذي تحول من الغلظة والقسوة والشراب والضلال إلى نموذج رفيع للعدل الكامل في لحظة .
(ونزعنا ما في صدورهم من غل أخوانا على سرر متقابلين) (15/47) وذلك هو شفاء النفوس الفوري الذي نتعلمه من القرآن ولا نجد له مثيلاً في أي علم.
ن علماء النفس المحدثين، في محاولتهم لفهم شخصية الإنسان والعوامل المحددة لها، قد عنوا بدراسة أثر كل من العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية في الشخصية ، وفي دراستهم لتأثير العوامل البيولوجية على الشخصية، قد اهتموا بدراسة أثر كل من الوراثة والتكوين البدني، وطبيعة تكوين الجهاز العصبي، والجهاز الغدي وما يفرزه من هرمونات متعددة، وفي دراستهم لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية على الشخصية، فقد اهتموا بدراسة تأثير خبرات الطفولة وخاصة فى الأسرة وطريقة معاملة الوالدين، كما اهتموا بدراسة تأثير الطبقات الاجتماعية، والثقافات الفرعية المدرسة، المؤسسات الاجتماعية المختلفة، وجماعات الرفاق والأصدقاء.
غير أن علماء النفس المحدثين قد أغفلوا في دراستهم للشخصية تأثير الجانب الروحي من الإنسان في شخصيته وسلوكه، مما أدى إلى قصور واضح في فهمهم للإنسان وفي معرفتهم للعوامل المحددة للشخصية السوية وغير السوية ، كما أدى إلى عدم اهتذائهم إلى مفهوم واضح دقيق للصحة النفسية. وأدى ذلك بالتالي إلى عدم اهتدائهم إلى الطريقة المثلى في العلاج النفسي لاضطرابات الشخصية.
وقد لاحظ اريك فروم المحلل النفسي قصور علم النفس الحديث وعجزه عن فهم الإنسان فهما صحيحا بسبب إغفاله دراسة الجانب الروحي في الإنسان. ويبدو ذلك واضحا من قوله: "... إن التقليد الذي يعد السيكولوجيا دراسة لروح الإنسان دراسة تهم بفضائله وسعادته- هذا التقليد نبذ تماماً ، وأصبح علم النفس الأكاديمي في محاولته لمحاكاة العلوم الطبيعية والأساليب المعملية في الوزن والحساب- أصبح هذا العلم يعالج كل شيء ما عدا الروح، إذ حاو ل ، هذا العلم أن يفهم مظاهر الإنسان التي يمكن فحصها في المعمل، وزعم أن الشعور ـ وأحكام القيمة، ومعرفة لخير والشر، ما هي إلا تصورات ميتا فيزيقية تقع خارج مشكلات علم النفس. وكان اهتمامه ينصب في أغلب الأحيان على مشكلات تافهة تتمشى مع منهج علمي مزعوم، وذلك بدلأ من أن يضع مناهج جديدة لدراسة
مشكلات الإنسان الهامة. وهكذا أصبح علم النفس علما يفتقر إلى موضوعه الرئيسي وهو الروح، وكان معنياً بالميكانيزمات، وتكوينات ردود الأفعال والغرائز، دون أن يعنى بالظواهر الإنسانية المميزة أشد التمييز للإنسان: كالحب والعقل والشعور والقديم " (1).
وهذا القصور في فهم علماء النفس المحدثين للإنسان قد دفع أبرا هام ماسلو أيضا إلى اقتراح تصنيف جديد لدوافع الإنسان! يشمل الدوافع الروحية التي يغفلها عادة علماء النفس المحدثون قي دراستهم لدوافع الإنسان .
إننا لا نستطيع أن نفهم الإنسان فهما واضحاً دقيقاً ، كما لا نستطيع أن نكون مفهوماً دقيقاً وسليماً عن صحته النفسية دون أن نفهم جميع العوامل المحددة لشخصية الإنسان، سواء أكانت عوامل بيولوجية أم روحية أم اجتماعية أم ثقافية .
تكوين الإنسان:
يتكون الإنسان كما أخبرنا القرآن الكريم من جسم وروح، وروح الإنسان قبسة من روح الله سبحانه وتعالى ، تميز بها عن سائر الحيوان ، وهي التي خصته بالاستعداد لمعرفة الله والإيمان به وعبادته،،-تحصيل العلوم وتسخيرها فى عمارة الأرض، والتمسك بالقيم والمثل العليا، وبلوغ أعلى مراتب الكمال الإنساني، وهي التي تؤهله لخلافة الله سبحانه وتعالى في الأرض .
ولكل من الجسم والروح حاجات، ويشارك الإنسان الحيوان في حاجاته البدنية التي يتطلبها حفظ الذات وبقاء النوع، وما تثيره فيه من دوافع فسيولوجية مختلفة كالجوع والظمأ والدافع الجنسي إلى غير ذلك من الدوافع الفسيولرجية الأخرى، غير إن الإنسان أيضا حاجاته الروحية التي تشمل في تشوقه الروحي إلى معرفة الله سبحانه وتعالى والإيمان به وعبادته .
وهذه الحاجة فطرية في الإنسان، فالإنسان يشعر في أعماق نفسه بدافع يدفعه إلى البحث والتفكير في خالقه وخالق الكون، وإلى عبادته والالتجاء إليه، وطلب العون منه. ولير بعض آيات القرآن الكريم إلى أن دافع التدين فطري في الإنسان. قال تعالى:
فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم وكن أكثر الناس لا يعلمون "
ففي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى أن في فطرة الإنسان استعداد اً لمعرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده وعبادته .
وقال الله-تعالى أيضاً:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين "
وتبين هذه الآية أن الله جل شأنه أخرج من صلب آدم وبنيه ذريتهم نسلاً بعد نسل على هيئة ذر، وذلك قبل خلق الدنيا، وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته تعالى حتى لا يقولوا يوم القيامة إنهم كانوا عن هذا التوحيد غافلين .
وجاء في الحديث الشريف أيضاً ما يؤكد أن دافع التدين فطري في الإنسان. فقد جاء في صحيح مسلم عن عباس ابن عمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن ديتهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
وجاء في حديث رواه الإمام أحمد وأخرجه النسائي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إنها ليست نسمة تولد الا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليه حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها ".
الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان:
يتضمن الإنسان إذن في شخصيته صفات الحيوان التي تتمثل في حاجاته البدنية التي يتوقف على إشباعها حفظ ذاته وبقاء نوعه، كما يتضمن في شخصيته أيضاً صفات الملائكة التي تتمثل في تشوقه الروحي إلى معرفة الله تعالى والإيمان به وعبادته. وقد يحدث بين هذين الجانبين من شخصية الإنسان صراع، فتجذبه أحياناً،حاجاته البدنية ومطالب الحياة الدنيوية الأخرى، وتجذبه أحياناً حاجاته وأشواقه الروحية ومطالب الاستعداد للحياة الأخرى الباقية. ويثير القرآن الكريم إلى هذا اله مراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان، وذلك في قوله تعالى:
فأما من طغى واثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى .
ويثير القرآن، الكريم أيضا إلى الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان في وصفه لانفضاض بعض المسلمين من حول الرسول عليه الصلاة والسلام حينما سمعوا بأنباء وصول قافلة محملة بالمؤونة إلى المدينة.
" وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (8).
ويثير القرآن الكريم أيضا إلى الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان في، صفه تعالى لخروج قارون على قومه في زينته، مما جعل بعض كل الناس يتمنون أن يكون لهم مثل ما لقارون من ثروة، فيرد عليهم البعض الآخر من ذوي العلم والتقوى بأن ما عند الله خير وأبقى .
(فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون .
وتشير آيات أخرى كثيرة إلى هذا الصراع في الإنسان بين الجانبين المادي والروحي. ومن أمثلة ذلك:
9 يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون " (10).
" إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) (11).
إن الصراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان هو الصراع النفسي الأساسي الذي يعانيه الإنسان في هذه الحياة وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله:
" لقد خلقنا الإ نسان في كبد " (12)
إن إغفال المطالب الروحية للإنسان، يجعل حياة الإنسان خالية من المعاني السامية التي تجعل للحياة قيمة، وتفقده شعوره برسالته الكبرى في الحياة كخليفة لله تعالى في الأرض، فتضيع منه الرؤية الواضحة لأهدافه الكبرى في الحياة وهي عبادة الله . والتقرب إليه، ومجاهدة النفس في سبيل بلوغ الكمال الإنساني. ويتملك الإنسان في هذه الحالة الشعور بالضياع ويصبح فريسة للقلق. وقد صور القرآن الكريم حالة الصراع والقلق التي تنتاب الإنسان الذي يفقد إيمانه بالله سبحانه و تعالى بالحالة التي يشعر بها الإنسان الذي يخر من السماء فتتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق.
" ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق .
ويصور النبي عليه الصلاة والسلام الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان تصويراً واقعياً بقوله عليه الصلاة والسلام:" مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل، يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، قال: فذلكم مثلي أو مثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقحمون فيها "، رواه مسلم.
ففي هذا الحديث الشريف تصوير بارع للصراع بين الشهوات الحسية ومغريات الحياة الدنيوية، وبين الوازع الديني الذي يمنع الناس من الانغماس في ملذاتهم وشهواتهم.
ولعل مشيئة الله تعالى قد اقتضت أن يكون أسلوب الإنسان في حل هذا الصراع بين الجانبين المادي والروحي في شخصيته هو الاختبار الحقيقي الأساسي الذي وضعه الله- جل شأنه- للإنسان في هذه الحياة. يقول تعالى:
" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (14).
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: "إن الدنيا خضرة حلوة وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ". رواه الترمذي وأحمد والحاكم.
فمن استطاع أن يوفق بين الجانبين المادي والروحي في شخصيته، وأن يحقق بينهما أكبر قدر مستطاع من التوازن، فقد نجح في هذا الاختبار، واستحق) ن يثاب على ذلك بالسعادة في الدنيا والآخرة.
من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون! (1).
وأما من انساق وراء شهواته البدنية وأغفل مطالبه الروحية، فقد فشل في هذا الاختبار، واستحق أن يجازى على ذلك بالشقاء في ا لدنيا والآخرة:
" ومن أعرض عن ذكري فإن معيشة ضنكأ ونحشره يوم القيامة أعمى " (16).
والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " (17).
وقد كان من رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان، ومن نعمه العظيمة عليه، أن أمده بجميع الإمكانات اللازمة لحل هذا الصراع، واجتياز هذا الاختبار الصعب، بأن وهبه العقل ليميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل. كما أمده سبحانه بحرية الإرادة والاختيار ليستطيع أن يبت في أمر هذا الصراع، وأن يختار- الطريق الذي يريده لحل هذا الصراع. وأن- حرية إرادة الإنسان في اختيار الطريق الذي يحل به هذا الصراع إنما يمثلان مسئوليته وحسابه، كما أنهما يضعان الأساس (سعادته وشقائه (18).
" وهديناه النجدين (19).
إنا هديناه السبيل إما شحرا وإما كفورا (20).
وقل الحق ، من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... " (21).
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (22).
حالات النفس الثلاث:
وحينما يتغلب الجانب المادي في حياة الإنسان، فينساق وراء أهوائه وشهواته، ويهمل مطالبه الروحية، فإنه يصبح في معيشته أشبه بالحيوان، بل أضل سبيلا لأنه لم يستخدم عقله الذي ميزه الله سبحانه وتعالى به على الحيوان. "
أر أريت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحاسب أن كثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام
بل هم أضل سبيلا " (23).
والإنسان الذي يعيش هذا النوع من المعيشة يكون غير ناضج الشخصية، ويكون أشبه بالطفل الذي لا يهمه إلا إشباع حاجاته ورغباته، ولم تقو إرادته بعد، ولم يتعلم كيف يتحكم في أهوائه وشهواته، ويصبح خاضعاً لترجيه "نفسه الأمارة بالسوء !
" وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي كفور رحيم
وحينما يبلغ الإنسان مرتبة أعلى من النضوج والكمال، يبدأ ضميره في الاستيقاظ، فيستنكر ضعف أرادته وانقياده .
لأهوائه وشهواته وملذات الحياة الدنيوية مما يوقعه في الخطيئة والمعصية، فيشعر بالذنب، ويلوم نفسه ويتجه إلى الله سبحانه وتعالى مستغفراً ، فإنه يصبح في هذه الحالة تحت تأثير" النفس اللوامه ".
" لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة، (35).
واذا أخلص الإنسان بعد ذلك في توبته، وأخلص في تقربه لله تعالى بالعبادات والأعمال الصالحة، والابتعاد عن كل ما يغضب الله، وتحكم تحكما كاملا في هوائه وشهواته وقام بتوجيهها إلى الإشباع بالطريقة التي حددها الشرع فحقق بذلك التوازن التام بين مطالبه البدنية ومطالبه الروحية، فإنه يصل إلى أعلى مرتبة من النضوج والكمال الإنسانية، وهي المرتبة التي تكون فيها النفس الإنسانية في حالة اطمئنان وسكينة، وينطبق عليها وصف " النفس المطمئنة".
" يأيتها النفس، المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي "
ويمكن أن نتصور هذه المفاهيم الثلاثة للنفس، وهي النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة على أنها حالات تتصف بها شخصية الإنسان في مستويات مختلفة من النضج التي تمر بها أثناء صراعها الداخلي بين الجانبين المادي والروحي من ، طبيعة تكوينها. فحينما تكون شخصية الإنسان في ادنى مستوياتها الإنسانية بحيث تسيطر عليها الأهواء والشهوات الملذات البدنية والدنيوية، فإنها تكون في حالة ينطبق عليها وصف النفس الأمارة بالسوء. وحينما تبلغ الشخصية أعد، مستويات النضج والكمال الإنساني حيث يحدث التوازن التام بين المطالب البدنية والروحية فإنها تصبح في الحالة التي، ينطبق عليها وصف النفس المطمئنة. وبين هذين المستويين مستوى آخر متوسط بينهما يحاسب فيه الإنسان نفسه على ما يرتكب من أخطاء، ويسعى جاهداً للامتناع عن ارتكاب ما يغضب الله ويسبب به تأنيب الضمير، ولكنه لا ينجح دائمـاً في مسعاه، فقد يضعف أحياناً ويقع ني الخطيئة. ويطلق إلى الشخصية في هذا المستوى النفس اللوامة (27).
الشخصية السوية:
إن الحل الأمثل للصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان هو التوفيق بينهما، بحيث يقوم الإنسان بإشباع حاجاته البدنية في الحدود التي أباحها الشرع، ولقوم في الوقت نفسه بإشباع حاجاته الروحية. ومثل هذا التوفيق بين حاجات البدن وحاجات الروح يصبح أمراً ممكناً إذا التزم الإنسان في حياته بالتوسط و- الاعتدال ، وتجنب الإسراف والتطرف سواء في إشباع دوافعه البدنية أو الروحية. فليس في الإسلام رهبانية تقاوم إشباع الدوافع البدنية وتعمل على كبتها (38). كما ليس في الإسلام إباحة مطلقة تعمل على الإشباع التام للدوافع البدنية دون ضبط وتحكم، وإنما ينادي الإسلام بالتوفيق بين دوافع كل من البدن والروح، واتباع طريق وسط يحقق التوازن رين الجانبين المادي والروحي في الإنسان. وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم:
" وابتغ في آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " (29).
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى أيضا:
(إن الرهبانية لم تكتب علينا " رواه أحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنب وما تأخر، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصاب الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولى أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل
النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله r فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله انى لأخشاكم لته وأتقاكم اله لكني أصوم وأفطر وأصاب وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه الشيخان والنسائي.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال لي النبي rr أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قلت: إني أفعل ذلك قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك حقا فصم وأفطرا وقم ونم (30) رواه الشيخان.
وحينما يتحقق التوازن بين البدن والروح تتحقق ذاتية الإنسان في صورتها الكاملة السوية، والتي تمثلت في شخصية النبي صلوات الله عليه وسلامه- التي توازنت فيها القوة الروحية الشفافة، والحيوية الجسمية الفياضة، فكان يعبد ربه حق عبادته في صفاء وخشوع تامين، كما كان يعيش حياته البشرية مشبعا لدوافعه البدنية في الحدود التي رسمها الشرع. ولذلك فهو يمثل الإنسان الكامل، والشخصية السوية النموذجية الكاملة التي توازنت فيها جميع القوى الإنسانية البدنية منها والروحية. وفي الحديث الشريف: "حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"، روإه النسائي وأحمد والحاكم.
إن الشخصية السوية في الإسلام إذن، هي الشخصية التي يتوازن فيها البدن والروح ، وتشبع فيها حاجات كل منهما. إن الشخصية السوية هي التي تعني بالبدن وصحته وقوته، وتشبع حاجاته في الحدود التي رسمها الشرع، والتي تتمسك في نفس الوقت بالإيمان بالله، وتؤدي العبادات، وتقوم بكل ما يرضي الله تعالى، وتتجنب كل ما يغضبه. فالشخص الذي ينساق وراء أهوائه وشهواته شخص غير سوي. وكذلك فإن الشخص الذي يكبت حاجاته البدنية،
ويقهر جسمه ويضعفه بالرهبانية المفرطة والتقشف الشديد، وينزع إلى إشباع حاجاته وأشواقه الروحية فقط، هو أيضا شخص غير سوي وذلك لأن كلا من هذين الاتجاهين المتطرفين يخالف الطبيعة الإنسانية، ويعارض فطرتها. وحينما يتحقق التوازن بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان تتحقق ذاتية الإنسان في صورنها الكاملة السوية، والتي ينعم فيها الإنسان بكل من الصحة البدنية والنفسية، ويشعر فيها الإنسان بالأمن النفسي والطمأنينة والسعادة.
والتوازن وشخصية الإنسان بين البدن والروح ليس إلا مثالا للتوازن الموجود في الكون بأكمله. فقد خلق الله
سبحانه وتعالى كبر شيء بمقدار وميزان.
والأرض، مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون " (31!.
وكل شيء عنده بمقدار " (33).
" إئا كل شيء. خلقناه بقدر " (33).
" وخلق كل شئ فقدره تقديرا " (34).
منهج الإسلام في تحقيق الصحة النفسية:
يتبع الإسلام في تربيته للإنسان منهجا تربويا هادفاً يحقق التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في شخصية الإنسان، مما يؤدي ، الى تكوين الشخصية السرية التي تتمتع بالصحة النفسية. ولما كان معظم الناس يميلون إلى الانشغال بتحصيل السعادة العاجلة في هذه الحياة الدنيا، ويغفلون العمال لتحصيل السعادة الآجلة في الحياة الآخرة، كان الإنسان في حاجة إلى منهج تربوي خاص يتضمن أسلوبين من التربية:-
الأسلوب الأول هو تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتقواه، وأداء العبادات المختلفة .
والأسلوب الثاني هو السيطرة على الجانب البدني في الإنسان كما يتمثل ذلك في توجيهات الإسلام الخاصة بالسيطرة على الدوافع والانفعالات والتحكم في أهواء النفس.
اولا- أسلوب تقوية الجانب الروحي في الإنسان:
ا- الإيمان بالله :
يدعو الإسلام إلى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته. ويؤدي الإيمان بالله إلى تحرر الإنسان من الخوف من الأشياء التي يخاف منها معظم الناس. فالمؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من الفقر أو المرض أو مصائب الدهر أو الموت أو الناس. فهو يعلم أن رزقه بيد الله تعالى وانه لن يصيبه الأ ما هو مقدر له.
وفي السماء، رزقكم وما توعدون " " (3)
" كل نفس ذائقة الموت... " (36).
(ما أصاب من مصيبة ني الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها إن في ذلك على الله يسير " (37).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنت خلف النبي r فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو أجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي.
2- التقوى:
وتصاحب الإيمان الصادق بالله تقوى الله. والتقوى هي أن يقي الإنسان نفسه من غضب الله وعذابه بالابتعاد عن
ارتكاب المعاصي والالتزام بمنهج الله تعالى، فيفعل ما أمره الله تعالى به، ويبتعد عما نهاه عنه.
ويتضمن مفهوم التقوى أن يتوخى الإنسان دائما في أفعاله الحق والعدل والأمانة والصدق، وأن يعامل الناس بالحسنى، ويتجنب العدوان والظلم. ويتضمن مفهوم التقوى كذلك،) ن يؤدي الإنسان كل ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه، لأنه دائم التوجه إلى الله تعالى في كل ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه. وهذا يدفع الإنسان دائما إلى تحسين ذاته، وتنمية قدراته ومعلوماته ليؤدي عمله دائما على أحسن وجه. إن التقوى بهذا المعنى تصبح طاقة موجهة للإنسان نحو السلوك الأفضل والأحسن ونحو نمو الذات ورقيها، وتجنب السلوك السيئ والمنحرف والشاذ . فالتقوى إذن من العوامل الرئيسية في نضوج الشخصية وتكاملها واتزانها، وفي بلوغ الكمال الإنساني، وتحقيق السعادة والصحة النفسية .
3- العبادات:
إن القيام بالعبادات المختلفة من صلاة وصيام وزكاة وحج إنما يعمل على تربية شخصية الإنسان وتزكية نفسه، وتحليه بكثير من الخصال المفيدة التي تعينه على تحمل أعباء الحياة، والتي تساعد على تكوين الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية. فالقيام بهذه العبادات المختلفة تعلم الإنسان الصبر وتحمل المشاق، ومجاهدة النفس والتحكم في أهوائها، وقوة الارادة وصلابة العزيمة، وحب الناس والإحسان إليهم، وتنمي فيه روح التعاون والتكافل ا لاجتماعي.
ثانيأ- أسلوب ا (سيطرة على الجانب البدني في الإنسان:
ا- السيطرة على الدوافع:
يدعو الإسلام إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها. ولا يدعو الإسلام إلى كبت الدوافع الفطرية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل ة، و إنما يدعو إلى تنظيم إشباعها والتحكم فيها، وتوجيهها توجيهاً سليما تراعى فيه مصلحة الفرد والجماعة. ويدعو القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى نوعين من التنظيم في إشباع الدوافع الفطرية.
التنظيم الأول هو إشباعها عن الطريق الحلال المسموح به شرعاً ومن أمثلة هذأ التنظيم إباحة إشباع الدافع الجنسي عن طريق الزواج فقط، وتحريم الزنا.
"و ليستعف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضلها (38).
وفي الحديث الشريف: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعله " بالصوم فإنه له وجاء " رواه الشيخان.
والتنظيم الثاني هو عدم الإسراف في إشباعها لما في ذلك من إضرار بالصحة البدنية والنفسية. قال تعالى:
" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " (39).
وفي الحديث الشريف: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة! ". رواه البخاري.
ولا يعنى القرآن الكريم بتوجيه الإنسان إلى السيطرة علي دوافعه الفسيولوجية فقط، وانما يعنى القرآن الكريم كذلك بتوجيهه إلى السيطرة على دوافعه النفسية أيضا. ففي كثير من المواضع يحث القرآن الكريم على السيطرة على دافع العدوان ودافع التملك ، وأهواء النفس وشهواتها المختلفة سواء كانت بدنية أو نفسية. وقام الرسول عليه الصلاة والسلام أيضآ بتوجيه الناس إلى التحكم في دوافعهم وشهواتهم. قال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما- جئت به رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: " حبط الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". ر وان مسلم.
2- السيطرة على الانفعالات:
ويدعو القرآن الكريم الناس إلى السيطرة على انفعالاتهم والتحكم فيها. وقد سبق القرآن الكريم لا ذلك العلوم الطبية والنفسية الحديثة التي بينت أن اضطراب الحياة الانفعالية للإنسان من الأسباب الهامة في نشوء كثير من أعراض الأمراض البدنية. ومن أمثلة ما جاء في القرآن الكريم من دعوة إلى السيطرة على الانفعالات نذكر الآيات التالية التي تدعو إلى السيطرة على انفعال الغضب.
" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"
تقسيم الأمراض النفسية :-
إن ما يطلق عليه (الأمراض النفسية) ليس هو الوحيد في ميدان الأحوال الطارئة على فطرة الإنسان ووضعه السوي، فهناك زمر أخرى مشابهة في الدور من حيث إحداث الاختلال وإعدام التوافق أو التكيف.. ومن هنا يؤثر أكثر الكاتبين في دراساتهم أن يتطرقوا إلى (الأمراض العقلية) جنبا إلى جنب مع الأمراض النفسية، بل يضيفون إليهما ما يشكل (نقصا أو تخلفا عقليا) أو ما هو من قبيل الأمراض (السيكوسوماتية أي النفسجسمية) وهي أمراض ذات أعراض تنتج عزل حالات نفسية في حين تأخذ أشكالا بدنية، والاهتمام بها لتلافي تنازع الاختصاص بها لازدواج طبيعتها، وهذا فضلا عن زمرة أخرى لم يتناولها الطب النفسي وحده، بل كانت الغلبة في معالجتها للأخلاق والقانون أحيانا من مثل (انحرافات سمات الشخصية) كالجبن والغضب والخجل، أو (اضطرابات السلوك) كالكذب والسرقة، أو (اضطرابات العادات) لدى الناشئة، وهذا التوسع له ما يسوغه في ظل ما يلحظ من غموض وحيرة في حصر هذه الشرائح ، توزيعها. كما أن بينها قاسما مشتركا يجمعها هو أن موضوعها هو النفس (التي سبق تعريفها بما يميزها عن كل من الروح والجسم) ، كما أنها كلها تجانب الفطرة والحالة السوية الغالبة في الإنسان.
على أن الأجدر بالحديث عنه كمرض يراد علاجه ويؤمل شفاؤه عن قرب، وفقا للأصول ذات الطبيعة النفسية هو ما يطلق عليه (العصاب) وهو كل خلل وظيفي في السلوك لا يكون- بالرغم من إزعاجه- سببا كافيا لإدخال المصاب به إلى مستشفى الأمراض العقلية، وذلك كالقلق والاكتئاب والوسواس والهستيريا.
وقد أنصف عدد من الكاتبين في مشكلات الصحة النفسية حين تحاشوا رسم إطار عام لها أو مبادىء عامة مطلقة تصلح للتطبيق في النواحي الإيجابية للصحة النفسية. وأقاموا عذرهم في ذلك على أن المعلومات عن كثير من تلك المشكلات لا تزال غير كافية ، وهو ما جعلهم يقنعون بالتوجيهات المبدئية إلى أن يحظى هذا العلم الحديث بطابع الحصر والتحديد.. كما أشاروا- للتأكيد على موانع الإقدام على تلك المحاولة- إلى التعقيد الذي تتسم به مشكلات الصحة النفسية (إذا أريد تتبعها في الميادين التطبيقية المختلفة) بل إن قاموس أكسفورد لعام 1970 يقول إن مفهوم الأمراض النفسية والعقلية قد اتسع في العقود الأخيرة ليشمل أكثر من حالات التعاسة العادية التي تصاحب حياة الإنسان. كما ذكر أن هناك اتجاها في بعض المجتمعات (التي تحاول التخلص من السمات الأولية للفقر) إلى إلحاق بعض مشاكل الحياة بمصطلح الأمراض النفسية.
ولا حاجة للتنويه في ضوء ما سبق إلى الدور الذي يقوم به العلاج الروحي قاطعا جهيزة هذا الغموض والتردد ، والذي لا يزداد مع الأيام إلا شدة وإمعانا في الاختلاف.
وفيما يلي تسليط بعض الأضواء على أشهر الأمراض النفسية:-
1 - القلق (ANXIETY)
ويسمى في لغة التراث النفسي ويعرف بأنه هو الشعور بالخوف الزائد من شر متوقع، والإحساس بالعجز عن مواجهته. وهذه الحالة النفسية المرضية تتميز بعدم الرضا وعدم التأكد وبالاضطراب، وتنجم عن الخوف لكنه خوف مما يمكن أن يقع غالبا، أو مما كان قد وقع، أكثر منه خوفا من أوضاع مخيفة واضحة.
والتسمية بالحصار تذكر بالحالة النفسية التي تتصف بها بعض الفئات الضعيفة التي تلوذ بالحياد بدلا من الانتماء واختيار جبهة معينة فتعيش في قلق بسبب هذا الموقف المضطرب. قال الله تعالى في شأن من لم تتح لهم ظروفهم أن يهاجروا ليعيشوا حياة دار الإسلام (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ) (5) ويسمى هذا النوع (الحزن) بفتح الزاي ، إذا كان خوفا لشر متوقع وله حقيقة. أي يخشى وقوعه، فإن كان الشر قد وقع في السابق فإن أثره يسمى (الهم) ولذا جاءت الاستعاذة النبوية تجمع بينهما في جملة واحدة (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)..أي من قلق ينشأ عن أمور ماضية لا يزال المرء يجش في ظل مخاوفها كالمصائب، أو ما ينشأ من أمور مستقبلية كالوعيد والتهديد أو الخطر المتوهم.
ولعل مما يوجه الأبصار صوب العلاج الروحي ما لهذا المرض النفسي من جوانب متباينة بعضها منشؤه شعوري كالخوف أو الإحساس بالذنب أو مشاعر التهديد وبعضها لا شعوري ينشأ عن عمليات معقدة تعمل دون وعي، فلا سبيل إلى إدراك العوامل الباعثة، وإذا كان بعضه موضوعيا يمكن وضع اليد عليه لأنه منوط بخطر خارجي أو أذى متوقع فإن البعض الآخر عام غامض لا يرتبط بأي موضوع محدد، ولهذا يعبر عنه المختصون بأنه حالة من التوتر الشامل الذي ينشأ خلال صراعات الدوافع ومحاولات الفرد للتكيف، وهو مظهر للعمليات الانفعالية المتداخلة التي تحدث خلال الصراع أو الإحباط.
2- الاكتئاب (DEPRESSION):-
وهي حالة انفعالية تكون فيها الفاعلية النفسية الجسدية منخفضة وغير سارة، وقد تكون سوية أو مرضية وتشير المرضية منها إلى اليأس والشعور الساحق بالتفاهة. وبعبارة أخرى هو: فقد الاهتمام بالأشياء والعجز عن التركيز وإن بعض الحالات، المبالغ فيها قد تتميز بالشعور بالعجز والميل إلى التخلص من الحياة.. والاكتئاب إذا زاد تحول إلى اضطراب عقاب والاكتئاب كثيرا ما يصاحب القلق.
هذا وإن الاكتئاب في الدراسات التراثية لا يخرج عما يطلق عليه الهم والغم والكرب والحزن، لأنها هي الأعراض التي يطلق عليها في الطب النفسي الحديث " الاكتئاب النفسي".
3- الخور، وهو يدعى الآن: )النوراستينيا (NEURASTHENIA
ويقصد به تقليد شكوى الغير، أو كما يقول الشاعر المهجري أبو ماضي:-
أيها الشاكي وما بك داء كيف تبدو إذا غدوت عليلا
وهو خلل وظيفي في السلوك يتصف صاحبه بالتعب غير السوي، والشكايات الجسدية غير المستندة لواقع، وهو نوع من العصاب، ووجه ما في التراث من تسميته بالخور أنه عبارة عن الجبن إزاء أمور لا يجبن عنها الآخرون الأسوياء، فهو ينبع من شعور ذاتي فردي يستروح إليه صاحبه دون أن يكون له حقيقة أو مسوغ .
ولا يخفى أن علاج هذا المرض يكمن في التسلي عن المصائب والتذرع بالصبر، وإدراك النعم الأخرى السابغة على الإنسان مهما ألحقت به من آلام، وسيأتي مزيد بيان لهذا الإجمال.
4- الوسواس القهري (OPSESSION):-
وهر وجود فكرة أو انفعال أو إلحاح مستحوذ بصورة مرضية على فرد ما. وبعبارة أخرى: الانشغال بفكرة تافهة ظاهرا لكنها مسئولية على صاحبها بحيث يعجز عن مقاومتها أو إبعادها، وهي تقتحم تفكيره حتى تعطل اهتمامه بغيرها. وعليه يشعر الفرد) أنه ملزم بأداء عمل معين بدون قناعة، لكنه يقع تحت سيطرة هذا الشعور إلى حد العجز عن فالواقع أن الدين السماوي هو نظام إلهي متكامل واجب التطبيق باعتباره معيارا للحق الثابت، وهو هدف أساسي يتبعه كل ما عداه لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).
ثم إن هذا لا ينطبق إلا على الدين الحق ، أي الدين السماوي قبل النسخ أو التحريف، فإن الأديان المحرفة، أو الأديان المخترعة من البشر ما هي إلا مجلبة لأضرار لأحد لها على الصحة النفسية للإنسان، بعد ضررها على الدين والعقل.
إن هناك كلمة وفيرة من المفاهيم الأساسية في التربية وعلم النفس في مجال العلاج، والقدر الأكبر منها مشترك في التعويل عليه، وتتميز إسلامية علاج ما بالربط الوثيق بين جوهره وبين التطبيقات الأصيلة في القرآن والحديث والتراث الإسلامي الذي نشأ في ظلهما. وكثيرا ما تتبين الريادة والسبق الإسلامي في أساليب نحسبها عصرية وذلك كلما تم الكشف عن مزيد من الثروة العلمية والعملية مما لا يفتقر إلا لبعض الروابط ليفهم بموازين العصر و طببقا لأساليب المعرفة الحديثة.
وقد اهتم الغزالي بالمعالجة النفسية بشكل لم يضاهه فيه غيره، وأودع ذلك في أكثر من كتاب في هذا المجال، ومن أهمها في موضوعنا ، كتابه " ميزان العمل " وكتابه " معارج النفس " فضلا عما في كتابه " إحياء علوم الدين لا من أبواب تحت اسم: كتاب شرح عجائب القلب، وكتاب رياضة النفس ومعالجة أمراض القلب وكتب عن التوبة، والصبر والشكر، والخوف والرجاء. ومما قاله في ميزان العمل: " القسم الثاني- من أقسام العلوم النافعة- العلم العملي وهو ثلاثة علوم (1) علم النفس بصفاتها وأخلاقها، وهو الرياضة ومجاهدة الهوى (وهو أكبر مقصود هذا الكتاب) 0 (2) وعلمها بكيفية المعيشة مع الأهل والولد والخدم والعبيد، فإنهم خدمك أيضا كأطرافك وأبعاضك وقواك. وكما لا بد من سياسة قوى بدنك من الشهوة والغضب وغيرهما فلابد من سياسة هؤلاء. (3) وعلم سياسة أهل البلد والناحية وضبطهم... وأهم هذه الثلاثة تهذيب النفس وسياسة البدن ورعاية العدل (الاعتدال) من هذه الصفات، حتى إذا اعتدلت تعدت عدالتها إلى الرعية البعيدة من الأهل والولد ثم إلى أهل البلد، " فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" .
إلا أنه يبقى الفرق واضحا بين العلاج النفسي والعلاج الروحي، وربما يتعين لإبداء الفرق الإلمام بأحدهما على الأقل وهو العلاج النفسي للانتقال إلى تفصيل الآخر.
صور العلاج النفسي معروفة للمختصين، ولغيرهم إلمام كاف بها، وهي المتبادرة كلما ذكر المرض النفسي ، والطابع المميز لها أنها قابلة للتجريب وخاضعة لأصول ومعايير ذات مرونة. ونحن في غنى عن التوسع فيها، ولا سيما مع اشتمال المؤتمر، على قدر كبير من التعريف بها، فهناك العلاج التحليلي، والعلاج السلوكي، ولكل منهما طرائقه، ومن الوسائل التي تذكر، ولها سندها من عموميات المباديء الإسلامية المتداولة في تراث علماء النفس والتربية والأخلاق
أ - التوجيه، ويعتبر أول الطرق الوقائية، وقوامه تقديم المشورة الهادفة إلى جعل تأثيرات المجال الذي يعايشه الشخص متلائما مع الاستعدادات المختلفة لديه سواء كانت استعدادات عقلية كالذكاء، أو انفعالية كالميول ، ويتصف التوجيه بالاستمرارية ولو حصل التدرج إلى إجراءات أخرى .
ب- الإرشاد: وهو أيضا طريقة وقائية تسلط الأضواء على أحسن سبل التعامل مع البيئة لحل بعض المشكلات التي لم تتصف بالتعقيد وذلك بهدف التعايش مع المجال الخاص بالشخص دون الإخلال بالتوازن بين الجوانب النفسية السوية.
ج - العلاج: بتقويم الانحراف في أنماط السلوك لدى الشخص، ويكون عادة بعد فوات فرص الوقاية. ولعل هذه إحدى الفوارق عن العلاج الروحي فإنه ليست هناك فرص تفوت بحيث تتوقف الإجراءات الوقائية، فإن تلك الإجراءات معظمها محل خطاب تكليفي من الشرع بدرجات متفاوتة من الفرضية العينية أو الكفائية أو الندب.
وللعلاج النفسي خطواته من (الشكوى والتشخيص) وهي شكوى لتوصيف المرض، ثم (تفريغ الشحنة الانفعالية) للتعبير عن أسباب الاضطراب.. وهذا ما يتم عن طريق طلب النصيحة والحرص على استشارة المؤتمن.. والتعاون على البر والتقوى.
كما أن هناك (الاستبصار) المراد منه إدراك الدوافع التي كان الشخص غافلا عنها أو عاجزا عن إدراكها، وما أشبه هذا بتعريف الإنسان عيوبه في مناجاة الناصح غير المتتبع للعثرات، وفي ظل مبدأي (الحسبة) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنح) . ومن ثم يتم (تغيير السلوك) باكتساب الاتجاهات الجديدة والعادات الفضلى ولابد مع ذلك من (المتابعة) التي ستوثق بها من تمسك الشخص بمكتسباته .
هذا، وإن مثل هذه الإجراءات والوسائل للعلاج النفسي لا تعدو أن تكون عبارة عن قوالب لتنظيم المواقف الواجب اتباعها تجاه الحالات المرضية دون أن تتطلب- بالضرورة- الالتزام بمعطيات محددة في استحضار نوع خاص من (القيم) أو أنماط معينة من السلوك محكوم عليها من وجهة نظر خاصة بأنها سوية. فلابد لمنحها الثقة أو حجبها عنها من تحري ما تشتمل عليه هذه الوسائل وما تكون وعاء له من تصرفات ليست محل تحفظ شرعي. وإلا فما جدوى علاج يشفي عللا ثانوية ويحدث شرخا في أركان الشخصية الإسلامية.
فإذا روعيت هذه الضوابط فإن المعالج مطلق اليد في التصرف بحكمة والأخذ برصيد معرفة مسلمة لديه آثارها ومأمونة عواقبها ، وملحوظ فيها كل ما يحقق الحظوة للعليل، فإن المجال هنا مجال النفس في مشاعرها وأحاسيسها وليس الجسم في عضويته الآلية.. وللمعالج المسلم استراتيجيته في خطوات العلاج وما يسبقه من توجيه وإرشاد، وفي الإرشاد متسع ل سلوك أكثر من منحى يتناسب مع مقتضى حال المسلم الكامل، وبدون التعويل على (القيم السليمة) والسعي إلى ذيوعها واستحواذها على اهتمام الفرد والتأييد الطوعي التلقائي للمجتمع ستظل الحالة المرضية هي السائدة ، ذلك أن عدم تأصيل القيم السليمة لدى الأفراد والتناقض بين قيم الفرد وما يجده في المجتمع المحيط به هما عاملان في إيجاد أنماط الشخصية غير السوية في حين أن هدف الإرشاد النفسي هو الصحة النفسية لدى الأفراد كخطوة في سبيل صحة المجتمع .
وهناك- كما في بحث الدكتور محمد رفقي فتحي عيسى، عن علاقة الإرشاد بالقيم- منهجان: (أحدهما) يهتم (بتوضيح القيم) عند الأفراد بمساعدتهم على استجلاء ما لديهم منها عن طريق الأسلوب الحواري بمناقشات محايدة لا يتدخل فيها المرشد. و (الثاني) يهتم (بإخضاع القيم) إلى سلم ارتقائي معياره الالتزام بالواجب بمناقشات أخلاقية تهدف للمستوى الأعلى.. وهذه الدراسة ترى أن في كل منهما عيبا، يكمن في افتراض نسبية القيم وعدم الخلوص إلى حل الصراع النفس في المنهج الأول ، وفي غموض المعيار وعدم الثبات أو الشمول وعدم اتساق المراحل في المنهج الثاني.. ولذا لابد إبدال هذين المنهجين بمنهج آخر هو (تصحيح القيم) وهي عملية تحليل القيم بعد توضيح المعيار الأسمى المتمثل في البناء القيمي الديني المنبثق من الدين الجامع الخاتم (الإسلام) المتميز بالعصمة والثبات والصدق والشمولية. ولئن كانت العمليات متشابهة في كل من توضيح القيم وتصحيحها فإنها في التصحيح تتميز بتحديد القيمة السليمة فتوقظ أسمى قيمة وهي (الإيمان) ويطمئن القلب والوجدان لها كمعيار فضلا عن اتخاذ موقف من البدائل المزيفة وتكون الممارسة للقيمة باعتبارها معيارا يتم الرجوع إليه في الموقف المشكل.
و الحمد لله رب العالمين
دكتور/ مصطفى محمود
الفلسفة، المادية أنتجت إنسانا يستهدف اللذة الفورية والمقابل المادي العاجل ويجري وراء اللحظة ويتشبث بالآن … ولكن اللحظة منفلتة أو"الآن " هارب فهو يعيش في عالم الفوت والحسرة وهو متروك دائما وفي حلقه غصة كلما اشبع شهواته ازدادت جوعا، وهو يراهن كل يوم بلا ضمان وبلا رصيد، فهو محكوم عليه بالموت لا يعرف متى وكيف وأين، وهو يعيش في قلق وتوتر مشتت القلب توزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت.
أما الإنسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف وأخلاقية مختلفة ورؤية مختلفة فهو يرى أن اللذات الدنيوية زائلة وأنها مجرد امتحان إلى منازل ودرجات وراءها وان الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل.. وان الله هو الضمان الوحيد في رحلة الدنيا والآخرة وانه لا حاكم سواه.. لو اجتمع الناس على أن يضروه لما استطاعوا أن ينفعوه إلا بشيء كتبه الله عليه. ولهذا فهو لا يفرح لكسب ولا يأسى على خسران وإذا دهمه ما يكره قال في نفسه:
(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون) (2/216)
وهو يقاتل ثابت القدم أمام الموت وهو يتذكر قول المولى عز وجل:
(ايمنا تكونوا يدر ككم الموت ولوكنتم في بروج مشيدة) (4/78)
(قل أن الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم) (62/ 8)
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (3/ 145)
وهو لا يحسد أحداً ولا يغبط أحداً بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة- يقول له قلبه:
( إلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) (3/ 196)
( أنما نملي لهم ليزدادوا أثما " (3/ 178)
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. والله لا يحب كل مختال فخور)( 57/ 22-23)
(قل لن يصيبه إلا ما كتب الله لنا) (9/ 51).
و ثمرة هذه الآيات عند المؤمن بها هي السكينة والهدوء النفسي واطمئنان البال.
( إلا بذكر الله تطمئن القلوب) (13/28)
ومثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته وجد عوضا لها حلاوة في قلبه مما يلقى من التحرر الداخلي من إغلال نفسه ومما يجد من النور في بصيرته.
والتوحيد يجمع عناصر نفسه ويوحد اتجاه مشاعره نحو مصدر واحد للتلقي، فهو لا يخاف إلا واحدا ولا يطمع إلا في واحد، ولا يتقي إلا واحدا، ولا يتقرب إلا لواحد، فيؤدي هذا التوحيد إلى أثر تركيبي في بناء الشخصية فلا تتوزع مشاعره ولا تنقسم نفسه ولا تتشتت همته.
ذلك هو علم النفس القرآني وما يصنع في تربية النفوس.
فماذا قدم علم النفسي الفرويدي من جديد.
الإحساس بالذنب رآه فرويد مرضا والتوبة نكوصا وقمع الشهوات كبتا والندم تعقيدا والصبر على الأذى بروداً.
ونظر فرويد إلى العمل في نطاق الفعل والحافز دون بحث في النية والإخلاص. ولم ير من النفس الإنسانية إلا الجانب الحيواني الشهواني وتصور الأحلام كلها تدور برموزها في هذا الفلك الشهواني المحدود، فكل ما يبدو في الحلم مستديرا كالكهف أو الحفرة أو الثقب أو الحلقة فهو رمز للأنثى، أما القلم والسيف والبرج والعصا والثعبان فهي رموز للذكر، وجميع الحركات كالمشي والجري والتسلق والطيران والسباحة كلها رموز للفعل الجنسي.
وتصور النفس معزولة تماماً عن محيطها الغيبي ولم يعترف بالنفث الشيطاني، أو الخاطر الملائكي، أو الإلهام ا لربا ني.
وخلق من تعلق الطفل بأمه عقدة أوديب تهدف إلى كراهية الأب وقتله والتخلص منه في اللاشعور، يعوضها الطفل شعوريا بالتحبب إلى الأب ومحاولة تقليده، ويعوضها الكبار بعبادة الأب السماوي تكفيرا عن رغبتهم الباطنية في قتل الأب الأرضي.
ورأى فرويد أن الشخصية تأخذ شكلها النهائي في السنوات الخمس الأولى من الطفولة ثم تصبح قدر صاحبها، ولا يعود للطب النفسي دور سوى المهدئات والمسكنات ومحاولة التنفيس عن المكبوت في داخلها، ولم ير من النفس إلا منطقة واحدة هي النفس وإصلاح الأمارة الحيوانية.
وعلم النفس الفرويدي لا يؤمن بإمكانية تبديل النفس بينما يقول علم النفس القرآني بإمكانية تبديلها.. ويقول بشفاء النفس واصلاح البال ونزع الغل من الصدور.
ولم يقف وصف القرآن للنفس عند حدود النفس الأمارة الحيوانية بل قال بسبع مر اتب هي: النفس الأمارة، واللوامة،، والملهمة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، والكاملة.. وبإمكان الإنسان أن يرتقي في هذا المعراج من الكمال بالطاعة والعبادة، وحدد القرآن السلوكية المثلى بأنها سلوكية الاعتدال.
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) (25/ 67)
والسيرة تحفظ لنا صورا ونماذج من تبدل النفوس من الظلامية إلى النورانية في لحظة بالفضل والهدى الإلهي.. كما
كان من شأن عمر بن الخطاب الذي تحول من الغلظة والقسوة والشراب والضلال إلى نموذج رفيع للعدل الكامل في لحظة .
(ونزعنا ما في صدورهم من غل أخوانا على سرر متقابلين) (15/47) وذلك هو شفاء النفوس الفوري الذي نتعلمه من القرآن ولا نجد له مثيلاً في أي علم.
مفهوم الصحة النفسية فى القران الكريم والحديث الشريف
غير أن علماء النفس المحدثين قد أغفلوا في دراستهم للشخصية تأثير الجانب الروحي من الإنسان في شخصيته وسلوكه، مما أدى إلى قصور واضح في فهمهم للإنسان وفي معرفتهم للعوامل المحددة للشخصية السوية وغير السوية ، كما أدى إلى عدم اهتذائهم إلى مفهوم واضح دقيق للصحة النفسية. وأدى ذلك بالتالي إلى عدم اهتدائهم إلى الطريقة المثلى في العلاج النفسي لاضطرابات الشخصية.
وقد لاحظ اريك فروم المحلل النفسي قصور علم النفس الحديث وعجزه عن فهم الإنسان فهما صحيحا بسبب إغفاله دراسة الجانب الروحي في الإنسان. ويبدو ذلك واضحا من قوله: "... إن التقليد الذي يعد السيكولوجيا دراسة لروح الإنسان دراسة تهم بفضائله وسعادته- هذا التقليد نبذ تماماً ، وأصبح علم النفس الأكاديمي في محاولته لمحاكاة العلوم الطبيعية والأساليب المعملية في الوزن والحساب- أصبح هذا العلم يعالج كل شيء ما عدا الروح، إذ حاو ل ، هذا العلم أن يفهم مظاهر الإنسان التي يمكن فحصها في المعمل، وزعم أن الشعور ـ وأحكام القيمة، ومعرفة لخير والشر، ما هي إلا تصورات ميتا فيزيقية تقع خارج مشكلات علم النفس. وكان اهتمامه ينصب في أغلب الأحيان على مشكلات تافهة تتمشى مع منهج علمي مزعوم، وذلك بدلأ من أن يضع مناهج جديدة لدراسة
مشكلات الإنسان الهامة. وهكذا أصبح علم النفس علما يفتقر إلى موضوعه الرئيسي وهو الروح، وكان معنياً بالميكانيزمات، وتكوينات ردود الأفعال والغرائز، دون أن يعنى بالظواهر الإنسانية المميزة أشد التمييز للإنسان: كالحب والعقل والشعور والقديم " (1).
وهذا القصور في فهم علماء النفس المحدثين للإنسان قد دفع أبرا هام ماسلو أيضا إلى اقتراح تصنيف جديد لدوافع الإنسان! يشمل الدوافع الروحية التي يغفلها عادة علماء النفس المحدثون قي دراستهم لدوافع الإنسان .
إننا لا نستطيع أن نفهم الإنسان فهما واضحاً دقيقاً ، كما لا نستطيع أن نكون مفهوماً دقيقاً وسليماً عن صحته النفسية دون أن نفهم جميع العوامل المحددة لشخصية الإنسان، سواء أكانت عوامل بيولوجية أم روحية أم اجتماعية أم ثقافية .
تكوين الإنسان:
يتكون الإنسان كما أخبرنا القرآن الكريم من جسم وروح، وروح الإنسان قبسة من روح الله سبحانه وتعالى ، تميز بها عن سائر الحيوان ، وهي التي خصته بالاستعداد لمعرفة الله والإيمان به وعبادته،،-تحصيل العلوم وتسخيرها فى عمارة الأرض، والتمسك بالقيم والمثل العليا، وبلوغ أعلى مراتب الكمال الإنساني، وهي التي تؤهله لخلافة الله سبحانه وتعالى في الأرض .
ولكل من الجسم والروح حاجات، ويشارك الإنسان الحيوان في حاجاته البدنية التي يتطلبها حفظ الذات وبقاء النوع، وما تثيره فيه من دوافع فسيولوجية مختلفة كالجوع والظمأ والدافع الجنسي إلى غير ذلك من الدوافع الفسيولرجية الأخرى، غير إن الإنسان أيضا حاجاته الروحية التي تشمل في تشوقه الروحي إلى معرفة الله سبحانه وتعالى والإيمان به وعبادته .
وهذه الحاجة فطرية في الإنسان، فالإنسان يشعر في أعماق نفسه بدافع يدفعه إلى البحث والتفكير في خالقه وخالق الكون، وإلى عبادته والالتجاء إليه، وطلب العون منه. ولير بعض آيات القرآن الكريم إلى أن دافع التدين فطري في الإنسان. قال تعالى:
فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم وكن أكثر الناس لا يعلمون "
ففي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى أن في فطرة الإنسان استعداد اً لمعرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده وعبادته .
وقال الله-تعالى أيضاً:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين "
وتبين هذه الآية أن الله جل شأنه أخرج من صلب آدم وبنيه ذريتهم نسلاً بعد نسل على هيئة ذر، وذلك قبل خلق الدنيا، وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته تعالى حتى لا يقولوا يوم القيامة إنهم كانوا عن هذا التوحيد غافلين .
وجاء في الحديث الشريف أيضاً ما يؤكد أن دافع التدين فطري في الإنسان. فقد جاء في صحيح مسلم عن عباس ابن عمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن ديتهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
وجاء في حديث رواه الإمام أحمد وأخرجه النسائي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إنها ليست نسمة تولد الا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليه حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها ".
الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان:
يتضمن الإنسان إذن في شخصيته صفات الحيوان التي تتمثل في حاجاته البدنية التي يتوقف على إشباعها حفظ ذاته وبقاء نوعه، كما يتضمن في شخصيته أيضاً صفات الملائكة التي تتمثل في تشوقه الروحي إلى معرفة الله تعالى والإيمان به وعبادته. وقد يحدث بين هذين الجانبين من شخصية الإنسان صراع، فتجذبه أحياناً،حاجاته البدنية ومطالب الحياة الدنيوية الأخرى، وتجذبه أحياناً حاجاته وأشواقه الروحية ومطالب الاستعداد للحياة الأخرى الباقية. ويثير القرآن الكريم إلى هذا اله مراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان، وذلك في قوله تعالى:
فأما من طغى واثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى .
ويثير القرآن، الكريم أيضا إلى الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان في وصفه لانفضاض بعض المسلمين من حول الرسول عليه الصلاة والسلام حينما سمعوا بأنباء وصول قافلة محملة بالمؤونة إلى المدينة.
" وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (8).
ويثير القرآن الكريم أيضا إلى الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان في، صفه تعالى لخروج قارون على قومه في زينته، مما جعل بعض كل الناس يتمنون أن يكون لهم مثل ما لقارون من ثروة، فيرد عليهم البعض الآخر من ذوي العلم والتقوى بأن ما عند الله خير وأبقى .
(فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون .
وتشير آيات أخرى كثيرة إلى هذا الصراع في الإنسان بين الجانبين المادي والروحي. ومن أمثلة ذلك:
9 يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون " (10).
" إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) (11).
إن الصراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان هو الصراع النفسي الأساسي الذي يعانيه الإنسان في هذه الحياة وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله:
" لقد خلقنا الإ نسان في كبد " (12)
إن إغفال المطالب الروحية للإنسان، يجعل حياة الإنسان خالية من المعاني السامية التي تجعل للحياة قيمة، وتفقده شعوره برسالته الكبرى في الحياة كخليفة لله تعالى في الأرض، فتضيع منه الرؤية الواضحة لأهدافه الكبرى في الحياة وهي عبادة الله . والتقرب إليه، ومجاهدة النفس في سبيل بلوغ الكمال الإنساني. ويتملك الإنسان في هذه الحالة الشعور بالضياع ويصبح فريسة للقلق. وقد صور القرآن الكريم حالة الصراع والقلق التي تنتاب الإنسان الذي يفقد إيمانه بالله سبحانه و تعالى بالحالة التي يشعر بها الإنسان الذي يخر من السماء فتتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق.
" ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق .
ويصور النبي عليه الصلاة والسلام الصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان تصويراً واقعياً بقوله عليه الصلاة والسلام:" مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل، يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، قال: فذلكم مثلي أو مثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقحمون فيها "، رواه مسلم.
ففي هذا الحديث الشريف تصوير بارع للصراع بين الشهوات الحسية ومغريات الحياة الدنيوية، وبين الوازع الديني الذي يمنع الناس من الانغماس في ملذاتهم وشهواتهم.
ولعل مشيئة الله تعالى قد اقتضت أن يكون أسلوب الإنسان في حل هذا الصراع بين الجانبين المادي والروحي في شخصيته هو الاختبار الحقيقي الأساسي الذي وضعه الله- جل شأنه- للإنسان في هذه الحياة. يقول تعالى:
" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (14).
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: "إن الدنيا خضرة حلوة وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ". رواه الترمذي وأحمد والحاكم.
فمن استطاع أن يوفق بين الجانبين المادي والروحي في شخصيته، وأن يحقق بينهما أكبر قدر مستطاع من التوازن، فقد نجح في هذا الاختبار، واستحق) ن يثاب على ذلك بالسعادة في الدنيا والآخرة.
من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون! (1).
وأما من انساق وراء شهواته البدنية وأغفل مطالبه الروحية، فقد فشل في هذا الاختبار، واستحق أن يجازى على ذلك بالشقاء في ا لدنيا والآخرة:
" ومن أعرض عن ذكري فإن معيشة ضنكأ ونحشره يوم القيامة أعمى " (16).
والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " (17).
وقد كان من رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان، ومن نعمه العظيمة عليه، أن أمده بجميع الإمكانات اللازمة لحل هذا الصراع، واجتياز هذا الاختبار الصعب، بأن وهبه العقل ليميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل. كما أمده سبحانه بحرية الإرادة والاختيار ليستطيع أن يبت في أمر هذا الصراع، وأن يختار- الطريق الذي يريده لحل هذا الصراع. وأن- حرية إرادة الإنسان في اختيار الطريق الذي يحل به هذا الصراع إنما يمثلان مسئوليته وحسابه، كما أنهما يضعان الأساس (سعادته وشقائه (18).
" وهديناه النجدين (19).
إنا هديناه السبيل إما شحرا وإما كفورا (20).
وقل الحق ، من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... " (21).
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (22).
حالات النفس الثلاث:
وحينما يتغلب الجانب المادي في حياة الإنسان، فينساق وراء أهوائه وشهواته، ويهمل مطالبه الروحية، فإنه يصبح في معيشته أشبه بالحيوان، بل أضل سبيلا لأنه لم يستخدم عقله الذي ميزه الله سبحانه وتعالى به على الحيوان. "
أر أريت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحاسب أن كثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام
بل هم أضل سبيلا " (23).
والإنسان الذي يعيش هذا النوع من المعيشة يكون غير ناضج الشخصية، ويكون أشبه بالطفل الذي لا يهمه إلا إشباع حاجاته ورغباته، ولم تقو إرادته بعد، ولم يتعلم كيف يتحكم في أهوائه وشهواته، ويصبح خاضعاً لترجيه "نفسه الأمارة بالسوء !
" وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي كفور رحيم
وحينما يبلغ الإنسان مرتبة أعلى من النضوج والكمال، يبدأ ضميره في الاستيقاظ، فيستنكر ضعف أرادته وانقياده .
لأهوائه وشهواته وملذات الحياة الدنيوية مما يوقعه في الخطيئة والمعصية، فيشعر بالذنب، ويلوم نفسه ويتجه إلى الله سبحانه وتعالى مستغفراً ، فإنه يصبح في هذه الحالة تحت تأثير" النفس اللوامه ".
" لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة، (35).
واذا أخلص الإنسان بعد ذلك في توبته، وأخلص في تقربه لله تعالى بالعبادات والأعمال الصالحة، والابتعاد عن كل ما يغضب الله، وتحكم تحكما كاملا في هوائه وشهواته وقام بتوجيهها إلى الإشباع بالطريقة التي حددها الشرع فحقق بذلك التوازن التام بين مطالبه البدنية ومطالبه الروحية، فإنه يصل إلى أعلى مرتبة من النضوج والكمال الإنسانية، وهي المرتبة التي تكون فيها النفس الإنسانية في حالة اطمئنان وسكينة، وينطبق عليها وصف " النفس المطمئنة".
" يأيتها النفس، المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي "
ويمكن أن نتصور هذه المفاهيم الثلاثة للنفس، وهي النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة على أنها حالات تتصف بها شخصية الإنسان في مستويات مختلفة من النضج التي تمر بها أثناء صراعها الداخلي بين الجانبين المادي والروحي من ، طبيعة تكوينها. فحينما تكون شخصية الإنسان في ادنى مستوياتها الإنسانية بحيث تسيطر عليها الأهواء والشهوات الملذات البدنية والدنيوية، فإنها تكون في حالة ينطبق عليها وصف النفس الأمارة بالسوء. وحينما تبلغ الشخصية أعد، مستويات النضج والكمال الإنساني حيث يحدث التوازن التام بين المطالب البدنية والروحية فإنها تصبح في الحالة التي، ينطبق عليها وصف النفس المطمئنة. وبين هذين المستويين مستوى آخر متوسط بينهما يحاسب فيه الإنسان نفسه على ما يرتكب من أخطاء، ويسعى جاهداً للامتناع عن ارتكاب ما يغضب الله ويسبب به تأنيب الضمير، ولكنه لا ينجح دائمـاً في مسعاه، فقد يضعف أحياناً ويقع ني الخطيئة. ويطلق إلى الشخصية في هذا المستوى النفس اللوامة (27).
الشخصية السوية:
إن الحل الأمثل للصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان هو التوفيق بينهما، بحيث يقوم الإنسان بإشباع حاجاته البدنية في الحدود التي أباحها الشرع، ولقوم في الوقت نفسه بإشباع حاجاته الروحية. ومثل هذا التوفيق بين حاجات البدن وحاجات الروح يصبح أمراً ممكناً إذا التزم الإنسان في حياته بالتوسط و- الاعتدال ، وتجنب الإسراف والتطرف سواء في إشباع دوافعه البدنية أو الروحية. فليس في الإسلام رهبانية تقاوم إشباع الدوافع البدنية وتعمل على كبتها (38). كما ليس في الإسلام إباحة مطلقة تعمل على الإشباع التام للدوافع البدنية دون ضبط وتحكم، وإنما ينادي الإسلام بالتوفيق بين دوافع كل من البدن والروح، واتباع طريق وسط يحقق التوازن رين الجانبين المادي والروحي في الإنسان. وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم:
" وابتغ في آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " (29).
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى أيضا:
(إن الرهبانية لم تكتب علينا " رواه أحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنب وما تأخر، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصاب الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولى أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل
النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله r فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله انى لأخشاكم لته وأتقاكم اله لكني أصوم وأفطر وأصاب وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه الشيخان والنسائي.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال لي النبي rr أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قلت: إني أفعل ذلك قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك حقا فصم وأفطرا وقم ونم (30) رواه الشيخان.
وحينما يتحقق التوازن بين البدن والروح تتحقق ذاتية الإنسان في صورتها الكاملة السوية، والتي تمثلت في شخصية النبي صلوات الله عليه وسلامه- التي توازنت فيها القوة الروحية الشفافة، والحيوية الجسمية الفياضة، فكان يعبد ربه حق عبادته في صفاء وخشوع تامين، كما كان يعيش حياته البشرية مشبعا لدوافعه البدنية في الحدود التي رسمها الشرع. ولذلك فهو يمثل الإنسان الكامل، والشخصية السوية النموذجية الكاملة التي توازنت فيها جميع القوى الإنسانية البدنية منها والروحية. وفي الحديث الشريف: "حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"، روإه النسائي وأحمد والحاكم.
إن الشخصية السوية في الإسلام إذن، هي الشخصية التي يتوازن فيها البدن والروح ، وتشبع فيها حاجات كل منهما. إن الشخصية السوية هي التي تعني بالبدن وصحته وقوته، وتشبع حاجاته في الحدود التي رسمها الشرع، والتي تتمسك في نفس الوقت بالإيمان بالله، وتؤدي العبادات، وتقوم بكل ما يرضي الله تعالى، وتتجنب كل ما يغضبه. فالشخص الذي ينساق وراء أهوائه وشهواته شخص غير سوي. وكذلك فإن الشخص الذي يكبت حاجاته البدنية،
ويقهر جسمه ويضعفه بالرهبانية المفرطة والتقشف الشديد، وينزع إلى إشباع حاجاته وأشواقه الروحية فقط، هو أيضا شخص غير سوي وذلك لأن كلا من هذين الاتجاهين المتطرفين يخالف الطبيعة الإنسانية، ويعارض فطرتها. وحينما يتحقق التوازن بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان تتحقق ذاتية الإنسان في صورنها الكاملة السوية، والتي ينعم فيها الإنسان بكل من الصحة البدنية والنفسية، ويشعر فيها الإنسان بالأمن النفسي والطمأنينة والسعادة.
والتوازن وشخصية الإنسان بين البدن والروح ليس إلا مثالا للتوازن الموجود في الكون بأكمله. فقد خلق الله
سبحانه وتعالى كبر شيء بمقدار وميزان.
والأرض، مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون " (31!.
وكل شيء عنده بمقدار " (33).
" إئا كل شيء. خلقناه بقدر " (33).
" وخلق كل شئ فقدره تقديرا " (34).
منهج الإسلام في تحقيق الصحة النفسية:
يتبع الإسلام في تربيته للإنسان منهجا تربويا هادفاً يحقق التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في شخصية الإنسان، مما يؤدي ، الى تكوين الشخصية السرية التي تتمتع بالصحة النفسية. ولما كان معظم الناس يميلون إلى الانشغال بتحصيل السعادة العاجلة في هذه الحياة الدنيا، ويغفلون العمال لتحصيل السعادة الآجلة في الحياة الآخرة، كان الإنسان في حاجة إلى منهج تربوي خاص يتضمن أسلوبين من التربية:-
الأسلوب الأول هو تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتقواه، وأداء العبادات المختلفة .
والأسلوب الثاني هو السيطرة على الجانب البدني في الإنسان كما يتمثل ذلك في توجيهات الإسلام الخاصة بالسيطرة على الدوافع والانفعالات والتحكم في أهواء النفس.
اولا- أسلوب تقوية الجانب الروحي في الإنسان:
ا- الإيمان بالله :
يدعو الإسلام إلى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته. ويؤدي الإيمان بالله إلى تحرر الإنسان من الخوف من الأشياء التي يخاف منها معظم الناس. فالمؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من الفقر أو المرض أو مصائب الدهر أو الموت أو الناس. فهو يعلم أن رزقه بيد الله تعالى وانه لن يصيبه الأ ما هو مقدر له.
وفي السماء، رزقكم وما توعدون " " (3)
" كل نفس ذائقة الموت... " (36).
(ما أصاب من مصيبة ني الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها إن في ذلك على الله يسير " (37).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنت خلف النبي r فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو أجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي.
2- التقوى:
وتصاحب الإيمان الصادق بالله تقوى الله. والتقوى هي أن يقي الإنسان نفسه من غضب الله وعذابه بالابتعاد عن
ارتكاب المعاصي والالتزام بمنهج الله تعالى، فيفعل ما أمره الله تعالى به، ويبتعد عما نهاه عنه.
ويتضمن مفهوم التقوى أن يتوخى الإنسان دائما في أفعاله الحق والعدل والأمانة والصدق، وأن يعامل الناس بالحسنى، ويتجنب العدوان والظلم. ويتضمن مفهوم التقوى كذلك،) ن يؤدي الإنسان كل ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه، لأنه دائم التوجه إلى الله تعالى في كل ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه. وهذا يدفع الإنسان دائما إلى تحسين ذاته، وتنمية قدراته ومعلوماته ليؤدي عمله دائما على أحسن وجه. إن التقوى بهذا المعنى تصبح طاقة موجهة للإنسان نحو السلوك الأفضل والأحسن ونحو نمو الذات ورقيها، وتجنب السلوك السيئ والمنحرف والشاذ . فالتقوى إذن من العوامل الرئيسية في نضوج الشخصية وتكاملها واتزانها، وفي بلوغ الكمال الإنساني، وتحقيق السعادة والصحة النفسية .
3- العبادات:
إن القيام بالعبادات المختلفة من صلاة وصيام وزكاة وحج إنما يعمل على تربية شخصية الإنسان وتزكية نفسه، وتحليه بكثير من الخصال المفيدة التي تعينه على تحمل أعباء الحياة، والتي تساعد على تكوين الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية. فالقيام بهذه العبادات المختلفة تعلم الإنسان الصبر وتحمل المشاق، ومجاهدة النفس والتحكم في أهوائها، وقوة الارادة وصلابة العزيمة، وحب الناس والإحسان إليهم، وتنمي فيه روح التعاون والتكافل ا لاجتماعي.
ثانيأ- أسلوب ا (سيطرة على الجانب البدني في الإنسان:
ا- السيطرة على الدوافع:
يدعو الإسلام إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها. ولا يدعو الإسلام إلى كبت الدوافع الفطرية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل ة، و إنما يدعو إلى تنظيم إشباعها والتحكم فيها، وتوجيهها توجيهاً سليما تراعى فيه مصلحة الفرد والجماعة. ويدعو القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى نوعين من التنظيم في إشباع الدوافع الفطرية.
التنظيم الأول هو إشباعها عن الطريق الحلال المسموح به شرعاً ومن أمثلة هذأ التنظيم إباحة إشباع الدافع الجنسي عن طريق الزواج فقط، وتحريم الزنا.
"و ليستعف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضلها (38).
وفي الحديث الشريف: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعله " بالصوم فإنه له وجاء " رواه الشيخان.
والتنظيم الثاني هو عدم الإسراف في إشباعها لما في ذلك من إضرار بالصحة البدنية والنفسية. قال تعالى:
" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " (39).
وفي الحديث الشريف: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة! ". رواه البخاري.
ولا يعنى القرآن الكريم بتوجيه الإنسان إلى السيطرة علي دوافعه الفسيولوجية فقط، وانما يعنى القرآن الكريم كذلك بتوجيهه إلى السيطرة على دوافعه النفسية أيضا. ففي كثير من المواضع يحث القرآن الكريم على السيطرة على دافع العدوان ودافع التملك ، وأهواء النفس وشهواتها المختلفة سواء كانت بدنية أو نفسية. وقام الرسول عليه الصلاة والسلام أيضآ بتوجيه الناس إلى التحكم في دوافعهم وشهواتهم. قال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما- جئت به رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: " حبط الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". ر وان مسلم.
2- السيطرة على الانفعالات:
ويدعو القرآن الكريم الناس إلى السيطرة على انفعالاتهم والتحكم فيها. وقد سبق القرآن الكريم لا ذلك العلوم الطبية والنفسية الحديثة التي بينت أن اضطراب الحياة الانفعالية للإنسان من الأسباب الهامة في نشوء كثير من أعراض الأمراض البدنية. ومن أمثلة ما جاء في القرآن الكريم من دعوة إلى السيطرة على الانفعالات نذكر الآيات التالية التي تدعو إلى السيطرة على انفعال الغضب.
" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"
فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا ولا عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين بجتبنون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " .
" ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
" فاصفح الصفح الجميل "
وقد دعا الرسول r الناس أيضا إلى التغلب علي انفعال الغضب قال عليه الصلاة والسلام:، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب "، رواه الشيخان. وقال rأيضأ: (الأ إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه. فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فالأرض الأرض... ألا إن خير الرجال من كان بطيء ا الغضب سريع الرضى، وفر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضى " رواه الترمذي والبخاري وأحمد. وجاء رجل إلى رسول الله r "يارسول الله : أوصني قال : لا تغضب فكرر السؤال ثلاث مرات
وكرر الرسول الجواب نفسه " رواه البخاري.
ويدعو ا القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى السيطرة على جميع الانفعالات الأخرى والتحكم فيها. ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى السيطرة على انفعالات الحزن والفرح والحب والكراهية وتنهى عن الزهو ، والكبرياء والتعالي على الناس. كما نجد أيضا في الحديث الشريف دعوة إلى السيطرة على كثير من هذه الانفعالات.
توازن الشخصية والصحة النفسية
بهذين الأسلوبين ، أسلوب تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، وأسلوب السيطرة على الجانب البدني في الإنسان عن طر يق التحكم في الدوافع والأهواء والشهوات والانفعالات، يستطيع الإنسان أن يحقق التوازن بين الجانبين الروحي والبدني في شخصيته، مما يؤدي إلى شعوره بالأمن والطمأنينة، ويحقق له الصحة النفسية والسعادة في الدنيا والآخرة.
" ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
" فاصفح الصفح الجميل "
وقد دعا الرسول r الناس أيضا إلى التغلب علي انفعال الغضب قال عليه الصلاة والسلام:، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب "، رواه الشيخان. وقال rأيضأ: (الأ إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه. فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فالأرض الأرض... ألا إن خير الرجال من كان بطيء ا الغضب سريع الرضى، وفر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضى " رواه الترمذي والبخاري وأحمد. وجاء رجل إلى رسول الله r "يارسول الله : أوصني قال : لا تغضب فكرر السؤال ثلاث مرات
وكرر الرسول الجواب نفسه " رواه البخاري.
ويدعو ا القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى السيطرة على جميع الانفعالات الأخرى والتحكم فيها. ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى السيطرة على انفعالات الحزن والفرح والحب والكراهية وتنهى عن الزهو ، والكبرياء والتعالي على الناس. كما نجد أيضا في الحديث الشريف دعوة إلى السيطرة على كثير من هذه الانفعالات.
توازن الشخصية والصحة النفسية
بهذين الأسلوبين ، أسلوب تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، وأسلوب السيطرة على الجانب البدني في الإنسان عن طر يق التحكم في الدوافع والأهواء والشهوات والانفعالات، يستطيع الإنسان أن يحقق التوازن بين الجانبين الروحي والبدني في شخصيته، مما يؤدي إلى شعوره بالأمن والطمأنينة، ويحقق له الصحة النفسية والسعادة في الدنيا والآخرة.
الأمراض النفسية وعلاجها الروحي في الإسلام
إن ما يطلق عليه (الأمراض النفسية) ليس هو الوحيد في ميدان الأحوال الطارئة على فطرة الإنسان ووضعه السوي، فهناك زمر أخرى مشابهة في الدور من حيث إحداث الاختلال وإعدام التوافق أو التكيف.. ومن هنا يؤثر أكثر الكاتبين في دراساتهم أن يتطرقوا إلى (الأمراض العقلية) جنبا إلى جنب مع الأمراض النفسية، بل يضيفون إليهما ما يشكل (نقصا أو تخلفا عقليا) أو ما هو من قبيل الأمراض (السيكوسوماتية أي النفسجسمية) وهي أمراض ذات أعراض تنتج عزل حالات نفسية في حين تأخذ أشكالا بدنية، والاهتمام بها لتلافي تنازع الاختصاص بها لازدواج طبيعتها، وهذا فضلا عن زمرة أخرى لم يتناولها الطب النفسي وحده، بل كانت الغلبة في معالجتها للأخلاق والقانون أحيانا من مثل (انحرافات سمات الشخصية) كالجبن والغضب والخجل، أو (اضطرابات السلوك) كالكذب والسرقة، أو (اضطرابات العادات) لدى الناشئة، وهذا التوسع له ما يسوغه في ظل ما يلحظ من غموض وحيرة في حصر هذه الشرائح ، توزيعها. كما أن بينها قاسما مشتركا يجمعها هو أن موضوعها هو النفس (التي سبق تعريفها بما يميزها عن كل من الروح والجسم) ، كما أنها كلها تجانب الفطرة والحالة السوية الغالبة في الإنسان.
على أن الأجدر بالحديث عنه كمرض يراد علاجه ويؤمل شفاؤه عن قرب، وفقا للأصول ذات الطبيعة النفسية هو ما يطلق عليه (العصاب) وهو كل خلل وظيفي في السلوك لا يكون- بالرغم من إزعاجه- سببا كافيا لإدخال المصاب به إلى مستشفى الأمراض العقلية، وذلك كالقلق والاكتئاب والوسواس والهستيريا.
وقد أنصف عدد من الكاتبين في مشكلات الصحة النفسية حين تحاشوا رسم إطار عام لها أو مبادىء عامة مطلقة تصلح للتطبيق في النواحي الإيجابية للصحة النفسية. وأقاموا عذرهم في ذلك على أن المعلومات عن كثير من تلك المشكلات لا تزال غير كافية ، وهو ما جعلهم يقنعون بالتوجيهات المبدئية إلى أن يحظى هذا العلم الحديث بطابع الحصر والتحديد.. كما أشاروا- للتأكيد على موانع الإقدام على تلك المحاولة- إلى التعقيد الذي تتسم به مشكلات الصحة النفسية (إذا أريد تتبعها في الميادين التطبيقية المختلفة) بل إن قاموس أكسفورد لعام 1970 يقول إن مفهوم الأمراض النفسية والعقلية قد اتسع في العقود الأخيرة ليشمل أكثر من حالات التعاسة العادية التي تصاحب حياة الإنسان. كما ذكر أن هناك اتجاها في بعض المجتمعات (التي تحاول التخلص من السمات الأولية للفقر) إلى إلحاق بعض مشاكل الحياة بمصطلح الأمراض النفسية.
ولا حاجة للتنويه في ضوء ما سبق إلى الدور الذي يقوم به العلاج الروحي قاطعا جهيزة هذا الغموض والتردد ، والذي لا يزداد مع الأيام إلا شدة وإمعانا في الاختلاف.
وفيما يلي تسليط بعض الأضواء على أشهر الأمراض النفسية:-
1 - القلق (ANXIETY)
ويسمى في لغة التراث النفسي ويعرف بأنه هو الشعور بالخوف الزائد من شر متوقع، والإحساس بالعجز عن مواجهته. وهذه الحالة النفسية المرضية تتميز بعدم الرضا وعدم التأكد وبالاضطراب، وتنجم عن الخوف لكنه خوف مما يمكن أن يقع غالبا، أو مما كان قد وقع، أكثر منه خوفا من أوضاع مخيفة واضحة.
والتسمية بالحصار تذكر بالحالة النفسية التي تتصف بها بعض الفئات الضعيفة التي تلوذ بالحياد بدلا من الانتماء واختيار جبهة معينة فتعيش في قلق بسبب هذا الموقف المضطرب. قال الله تعالى في شأن من لم تتح لهم ظروفهم أن يهاجروا ليعيشوا حياة دار الإسلام (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ) (5) ويسمى هذا النوع (الحزن) بفتح الزاي ، إذا كان خوفا لشر متوقع وله حقيقة. أي يخشى وقوعه، فإن كان الشر قد وقع في السابق فإن أثره يسمى (الهم) ولذا جاءت الاستعاذة النبوية تجمع بينهما في جملة واحدة (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)..أي من قلق ينشأ عن أمور ماضية لا يزال المرء يجش في ظل مخاوفها كالمصائب، أو ما ينشأ من أمور مستقبلية كالوعيد والتهديد أو الخطر المتوهم.
ولعل مما يوجه الأبصار صوب العلاج الروحي ما لهذا المرض النفسي من جوانب متباينة بعضها منشؤه شعوري كالخوف أو الإحساس بالذنب أو مشاعر التهديد وبعضها لا شعوري ينشأ عن عمليات معقدة تعمل دون وعي، فلا سبيل إلى إدراك العوامل الباعثة، وإذا كان بعضه موضوعيا يمكن وضع اليد عليه لأنه منوط بخطر خارجي أو أذى متوقع فإن البعض الآخر عام غامض لا يرتبط بأي موضوع محدد، ولهذا يعبر عنه المختصون بأنه حالة من التوتر الشامل الذي ينشأ خلال صراعات الدوافع ومحاولات الفرد للتكيف، وهو مظهر للعمليات الانفعالية المتداخلة التي تحدث خلال الصراع أو الإحباط.
2- الاكتئاب (DEPRESSION):-
وهي حالة انفعالية تكون فيها الفاعلية النفسية الجسدية منخفضة وغير سارة، وقد تكون سوية أو مرضية وتشير المرضية منها إلى اليأس والشعور الساحق بالتفاهة. وبعبارة أخرى هو: فقد الاهتمام بالأشياء والعجز عن التركيز وإن بعض الحالات، المبالغ فيها قد تتميز بالشعور بالعجز والميل إلى التخلص من الحياة.. والاكتئاب إذا زاد تحول إلى اضطراب عقاب والاكتئاب كثيرا ما يصاحب القلق.
هذا وإن الاكتئاب في الدراسات التراثية لا يخرج عما يطلق عليه الهم والغم والكرب والحزن، لأنها هي الأعراض التي يطلق عليها في الطب النفسي الحديث " الاكتئاب النفسي".
3- الخور، وهو يدعى الآن: )النوراستينيا (NEURASTHENIA
ويقصد به تقليد شكوى الغير، أو كما يقول الشاعر المهجري أبو ماضي:-
أيها الشاكي وما بك داء كيف تبدو إذا غدوت عليلا
وهو خلل وظيفي في السلوك يتصف صاحبه بالتعب غير السوي، والشكايات الجسدية غير المستندة لواقع، وهو نوع من العصاب، ووجه ما في التراث من تسميته بالخور أنه عبارة عن الجبن إزاء أمور لا يجبن عنها الآخرون الأسوياء، فهو ينبع من شعور ذاتي فردي يستروح إليه صاحبه دون أن يكون له حقيقة أو مسوغ .
ولا يخفى أن علاج هذا المرض يكمن في التسلي عن المصائب والتذرع بالصبر، وإدراك النعم الأخرى السابغة على الإنسان مهما ألحقت به من آلام، وسيأتي مزيد بيان لهذا الإجمال.
4- الوسواس القهري (OPSESSION):-
وهر وجود فكرة أو انفعال أو إلحاح مستحوذ بصورة مرضية على فرد ما. وبعبارة أخرى: الانشغال بفكرة تافهة ظاهرا لكنها مسئولية على صاحبها بحيث يعجز عن مقاومتها أو إبعادها، وهي تقتحم تفكيره حتى تعطل اهتمامه بغيرها. وعليه يشعر الفرد) أنه ملزم بأداء عمل معين بدون قناعة، لكنه يقع تحت سيطرة هذا الشعور إلى حد العجز عن فالواقع أن الدين السماوي هو نظام إلهي متكامل واجب التطبيق باعتباره معيارا للحق الثابت، وهو هدف أساسي يتبعه كل ما عداه لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).
ثم إن هذا لا ينطبق إلا على الدين الحق ، أي الدين السماوي قبل النسخ أو التحريف، فإن الأديان المحرفة، أو الأديان المخترعة من البشر ما هي إلا مجلبة لأضرار لأحد لها على الصحة النفسية للإنسان، بعد ضررها على الدين والعقل.
إن هناك كلمة وفيرة من المفاهيم الأساسية في التربية وعلم النفس في مجال العلاج، والقدر الأكبر منها مشترك في التعويل عليه، وتتميز إسلامية علاج ما بالربط الوثيق بين جوهره وبين التطبيقات الأصيلة في القرآن والحديث والتراث الإسلامي الذي نشأ في ظلهما. وكثيرا ما تتبين الريادة والسبق الإسلامي في أساليب نحسبها عصرية وذلك كلما تم الكشف عن مزيد من الثروة العلمية والعملية مما لا يفتقر إلا لبعض الروابط ليفهم بموازين العصر و طببقا لأساليب المعرفة الحديثة.
وقد اهتم الغزالي بالمعالجة النفسية بشكل لم يضاهه فيه غيره، وأودع ذلك في أكثر من كتاب في هذا المجال، ومن أهمها في موضوعنا ، كتابه " ميزان العمل " وكتابه " معارج النفس " فضلا عما في كتابه " إحياء علوم الدين لا من أبواب تحت اسم: كتاب شرح عجائب القلب، وكتاب رياضة النفس ومعالجة أمراض القلب وكتب عن التوبة، والصبر والشكر، والخوف والرجاء. ومما قاله في ميزان العمل: " القسم الثاني- من أقسام العلوم النافعة- العلم العملي وهو ثلاثة علوم (1) علم النفس بصفاتها وأخلاقها، وهو الرياضة ومجاهدة الهوى (وهو أكبر مقصود هذا الكتاب) 0 (2) وعلمها بكيفية المعيشة مع الأهل والولد والخدم والعبيد، فإنهم خدمك أيضا كأطرافك وأبعاضك وقواك. وكما لا بد من سياسة قوى بدنك من الشهوة والغضب وغيرهما فلابد من سياسة هؤلاء. (3) وعلم سياسة أهل البلد والناحية وضبطهم... وأهم هذه الثلاثة تهذيب النفس وسياسة البدن ورعاية العدل (الاعتدال) من هذه الصفات، حتى إذا اعتدلت تعدت عدالتها إلى الرعية البعيدة من الأهل والولد ثم إلى أهل البلد، " فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" .
إلا أنه يبقى الفرق واضحا بين العلاج النفسي والعلاج الروحي، وربما يتعين لإبداء الفرق الإلمام بأحدهما على الأقل وهو العلاج النفسي للانتقال إلى تفصيل الآخر.
صور العلاج النفسي معروفة للمختصين، ولغيرهم إلمام كاف بها، وهي المتبادرة كلما ذكر المرض النفسي ، والطابع المميز لها أنها قابلة للتجريب وخاضعة لأصول ومعايير ذات مرونة. ونحن في غنى عن التوسع فيها، ولا سيما مع اشتمال المؤتمر، على قدر كبير من التعريف بها، فهناك العلاج التحليلي، والعلاج السلوكي، ولكل منهما طرائقه، ومن الوسائل التي تذكر، ولها سندها من عموميات المباديء الإسلامية المتداولة في تراث علماء النفس والتربية والأخلاق
أ - التوجيه، ويعتبر أول الطرق الوقائية، وقوامه تقديم المشورة الهادفة إلى جعل تأثيرات المجال الذي يعايشه الشخص متلائما مع الاستعدادات المختلفة لديه سواء كانت استعدادات عقلية كالذكاء، أو انفعالية كالميول ، ويتصف التوجيه بالاستمرارية ولو حصل التدرج إلى إجراءات أخرى .
ب- الإرشاد: وهو أيضا طريقة وقائية تسلط الأضواء على أحسن سبل التعامل مع البيئة لحل بعض المشكلات التي لم تتصف بالتعقيد وذلك بهدف التعايش مع المجال الخاص بالشخص دون الإخلال بالتوازن بين الجوانب النفسية السوية.
ج - العلاج: بتقويم الانحراف في أنماط السلوك لدى الشخص، ويكون عادة بعد فوات فرص الوقاية. ولعل هذه إحدى الفوارق عن العلاج الروحي فإنه ليست هناك فرص تفوت بحيث تتوقف الإجراءات الوقائية، فإن تلك الإجراءات معظمها محل خطاب تكليفي من الشرع بدرجات متفاوتة من الفرضية العينية أو الكفائية أو الندب.
وللعلاج النفسي خطواته من (الشكوى والتشخيص) وهي شكوى لتوصيف المرض، ثم (تفريغ الشحنة الانفعالية) للتعبير عن أسباب الاضطراب.. وهذا ما يتم عن طريق طلب النصيحة والحرص على استشارة المؤتمن.. والتعاون على البر والتقوى.
كما أن هناك (الاستبصار) المراد منه إدراك الدوافع التي كان الشخص غافلا عنها أو عاجزا عن إدراكها، وما أشبه هذا بتعريف الإنسان عيوبه في مناجاة الناصح غير المتتبع للعثرات، وفي ظل مبدأي (الحسبة) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنح) . ومن ثم يتم (تغيير السلوك) باكتساب الاتجاهات الجديدة والعادات الفضلى ولابد مع ذلك من (المتابعة) التي ستوثق بها من تمسك الشخص بمكتسباته .
هذا، وإن مثل هذه الإجراءات والوسائل للعلاج النفسي لا تعدو أن تكون عبارة عن قوالب لتنظيم المواقف الواجب اتباعها تجاه الحالات المرضية دون أن تتطلب- بالضرورة- الالتزام بمعطيات محددة في استحضار نوع خاص من (القيم) أو أنماط معينة من السلوك محكوم عليها من وجهة نظر خاصة بأنها سوية. فلابد لمنحها الثقة أو حجبها عنها من تحري ما تشتمل عليه هذه الوسائل وما تكون وعاء له من تصرفات ليست محل تحفظ شرعي. وإلا فما جدوى علاج يشفي عللا ثانوية ويحدث شرخا في أركان الشخصية الإسلامية.
فإذا روعيت هذه الضوابط فإن المعالج مطلق اليد في التصرف بحكمة والأخذ برصيد معرفة مسلمة لديه آثارها ومأمونة عواقبها ، وملحوظ فيها كل ما يحقق الحظوة للعليل، فإن المجال هنا مجال النفس في مشاعرها وأحاسيسها وليس الجسم في عضويته الآلية.. وللمعالج المسلم استراتيجيته في خطوات العلاج وما يسبقه من توجيه وإرشاد، وفي الإرشاد متسع ل سلوك أكثر من منحى يتناسب مع مقتضى حال المسلم الكامل، وبدون التعويل على (القيم السليمة) والسعي إلى ذيوعها واستحواذها على اهتمام الفرد والتأييد الطوعي التلقائي للمجتمع ستظل الحالة المرضية هي السائدة ، ذلك أن عدم تأصيل القيم السليمة لدى الأفراد والتناقض بين قيم الفرد وما يجده في المجتمع المحيط به هما عاملان في إيجاد أنماط الشخصية غير السوية في حين أن هدف الإرشاد النفسي هو الصحة النفسية لدى الأفراد كخطوة في سبيل صحة المجتمع .
وهناك- كما في بحث الدكتور محمد رفقي فتحي عيسى، عن علاقة الإرشاد بالقيم- منهجان: (أحدهما) يهتم (بتوضيح القيم) عند الأفراد بمساعدتهم على استجلاء ما لديهم منها عن طريق الأسلوب الحواري بمناقشات محايدة لا يتدخل فيها المرشد. و (الثاني) يهتم (بإخضاع القيم) إلى سلم ارتقائي معياره الالتزام بالواجب بمناقشات أخلاقية تهدف للمستوى الأعلى.. وهذه الدراسة ترى أن في كل منهما عيبا، يكمن في افتراض نسبية القيم وعدم الخلوص إلى حل الصراع النفس في المنهج الأول ، وفي غموض المعيار وعدم الثبات أو الشمول وعدم اتساق المراحل في المنهج الثاني.. ولذا لابد إبدال هذين المنهجين بمنهج آخر هو (تصحيح القيم) وهي عملية تحليل القيم بعد توضيح المعيار الأسمى المتمثل في البناء القيمي الديني المنبثق من الدين الجامع الخاتم (الإسلام) المتميز بالعصمة والثبات والصدق والشمولية. ولئن كانت العمليات متشابهة في كل من توضيح القيم وتصحيحها فإنها في التصحيح تتميز بتحديد القيمة السليمة فتوقظ أسمى قيمة وهي (الإيمان) ويطمئن القلب والوجدان لها كمعيار فضلا عن اتخاذ موقف من البدائل المزيفة وتكون الممارسة للقيمة باعتبارها معيارا يتم الرجوع إليه في الموقف المشكل.
و الحمد لله رب العالمين