فلتمت البراءة ... فلتمت حتى الفناء !!





ما برح القمر ليلة أمس أن استقر مكانه، و ما لبثت نجوم السماء أن توهجت شعاعا جعلها عيونا زرقاء ساحرة ترقب الأرض من عليائها، حتى استفز سكونها أحمق يقود سيارته مسرعا لا يلوي على شيء، و فتاة صغيرة - طبع الله فيها رقة و جمالا، و أودعها حسنا و براءة تسبي القلوب - تريد قطع الشارع، و بين الجنون و البراءة كان اللقاء. و ماذا يفعل الجنون إن التقى بالبراءة غير أن يلطخ ثيابه القذرة بالدم الطاهر، و يضيف إلى سجل عاره عارا آخر؟!. ما زال يتردد في خاطري، و يجول أمام ناظري ذلك المشهد المؤلم، حين وضع ذلك الملاك الطاهر قدمه يريد أن يعبر الطريق، فأتى الشيطان الرجيم مسرعا بمركبته التي ما أظنها إلا تلعنه صباحا و مساء مما أجرم، و لما تكمل الفتاة وضع قدمها الثانية حتى كانت الفاجعة التي جعلت أباها و إخوانها يهرعون إليها مذعورين، و يحملونها جثة هامدة على أيديهم. أحقا هذه هي أختنا التي كانت تملأ البيت فرحة و بهجة؟! أحقا هذه هي؟! قد غذت الآن جسدا بلا روح؟! قد استحالت ألما بعد أن كانت أملا؟! أحقا ما تراه أعيننا؟! أحقا... ؟! و يصلون إلى المستشفى و يخرج والدها الذي قد خط الشيب في رأسه مسرعا يحملها بين يديه، لقد نسي هذا الأب كل آلام ظهره، و أمراض مفاصله التي كانت تسومه سوء العذاب إن حملها ما لا تطيق، لله الأب.. لله الأب.. يدخل الطبيب قسم الطوارئ مسرعا هو الآخر... يقف للحظات مشدوها!! لقد أخذت بمجامع قلبه البراءة التي كانت بادية على قسمات وجهها حتى في آخر لحظات حياتها، تماسك صاحب المعطف الأبيض من أن يجهش بالبكاء. حاول أن يسمع لقلبها نبضا، لكن لا نبض و لا حياة، أخذ مصباحا و وجهه إلى عينيها علها أن تتحرك فتزرع أملا في بقائها، و لكن لا حراك. أيقن الطبيب أنها قد ماتت؛ فأسدل جفنيها الرقيقين على عينيها الصغيرتين، ثم طبع قبلة حانية على جبينها، و لفها بغطاء أبيض كقلبها، و خرج دامع العينين ينظر إلى أبويها و إخوانها الذي ما إن رأوه حتى علموا أن حبيبتهم قد فارقت الحياة، و دخل الجميع في نوبة بكاء. كأني بهم يتذكرون ضحكاتها التي تملأ البيت، و قفزاتها الرشيقة أمامهم و هي تلهو و تلعب. كأني بأخيها الأصغر يذكر لعبهما سويا، و يذكر عهدهما بألا يتخاصما إن لعبا، و يذكر نقضهما الدائم لهذا العهد... الآن لا أحد يلعب معه، و لا أحد يعقد معه عهدا. كأني بأمها تذكر ارتماءها في أحضانها خوفا من أخيها الأكبر الذي قد عبثت بأغراضه، كأني بها تذكر حكايتها قبل النوم، و قبلتها الصغيرة على خدها و جبينها، و كلمتها الجميلة التي تنساب كالنسيم من فمها الصغير: ماما، تصبحي على خير... و الآن لا حكاية و لا قبلة و لا عناق. كأني بأبيها يتذكر وعده إياها أن يشتري لها الحلوى يوم غد، و ذلك الفستان الذي طالما أعجبها و أرادته، لقد كان ينوي أن يهديها إياه يوم نجاحها... كل ذلك تبدد في لحظات. على صعيد المقبرة، كفن أبيض صغير لحفت به فتاة صغيرة، يحملها أهلها ليوسدوها الثرى.. و في بقعة أخرى من العالم، طائش يقود سيارته بسرعة جنونية يبحث عن طفولة أخرى ليسحقها!!. فلتمت البراءة.... فلتمت حتى الفناء... و ما يعنينا أن تبقى البراءة؟! إننا وحوش... نعم، وحوش في أجساد بشرية، نعشق الدم، و نهوى أن نراه يتفجر من الشرايين يروي هذه الأرض التي أثقلها أن ترى أمثالنا يطأ ترابها، و يطرب آذاننا سماع صوت شلاله يتدفق، و تستقر نفوسنا إن زكمت أنوفنا رائحته... صدقوني، نحن كذلك! نحن كذلك، و إن أنكرنا... سحقا لتلك الكائنات التي تدعي الإنسانية، و هي المتجردة من جميع معانيها. سحقا لتلك الكائنات التي تنادي بالحب، و هي التي ما عرفته يوما. سحقا لتلك الكائنات التي تزعم التطور و التقدم، و هي التي ما فتئت أرواحها في تقهقر و تأخر... سحقا لها... سحقا لها.. بل سحقا لنا جميعا إن رضينا عنها و قبلنا بها. ماذا أقول؟!! ماذا أكتب؟!! ماذا؟!!! آااااااه.... يا ألم....
 


تسلم ياغالي على الطرح الراقي

خالص شكري وتقديري
:3:


 


يعطيك العافية

وأسأل الله أن يوفقك في حياتك العلمية والعملية

\ \ \
 
عودة
أعلى