قصي حمدان
New Member
بسم الله الرحمن الرحيم
السر بين الطب و الاسلام
رأي الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي
وزير الصحة العامة ورئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية
سر المهنة
قد يظن البعض أن السر الجدير بالصيانة هو ما ينطوي على معلومات سيئة أو مهينة للمريض . وهو ظن خاطيء وإن شاع ، فحفظ المعلومات الخاصة بالمريض هو حفظ مطلق ومقصود لذاته . ولا يلزم إطلاقا أن يكون المريض قد طلب من الطيب صراحة ألا يدلي بهذه المعلومات بل هي سر بطبيعتها وبطبيعة المهنة ولو لم يطلب المطلوب ذلك .
و يجوز إفشاء السر قانونيا في الحالات الآتية :
أ – إذا كان الإفشاء لمصلحة الزوج أو الزوجة ويكون الإفشاء لهما شخصيا .
ب –لمنع حدوث جريمة ويكون الإفشاء مقصورا على الجهة الرسمية المختصة ويعتبر حقوقه قبل وقوع الجريمة وليس بعد وقوع الجريمة.
ج –للتبليغ عن مرض سار طبقا للقوانين الصادرة بهذا الخصوص ، ويكون الإفشاء في هذه الحالة مقصورا على الجهات التي تعينها وزارة الصحة العامة .
د – إذا وافق صاحب السر على إفشائه إلى أي جهة أخرى يحددها .
و من الأمور التي تشغل بال الأطباء و يريدون معرفة رأي القانون و الشرع فيها :
– مريض نفسي اعترف لطبيبه بارتكابه جرما يحاكم من جرائه متهم آخر . هل يبلغ عنه ؟
– امرأة حملت ويعلم الطبيب أن زوجها عقيم . هل يبلغ عنها ؟
– رجل وامرأة قصدا عيادة فحص الراغبين في الزواج . اتضح أن بأحدهما علة تمنع الحمل أو تعيبه . فهل يصارح الطبيب الطرف الآخر ؟
– مريض صارح طبيبه أنه يزني أو يلوط . هل يبلغ عنه ؟
– امرأة حملت سفاحا . رفض الطبيب إجهاضها لوازعه الديني . ولكن هل يبلغ عنها ؟
– مريض ضعيف النظر ويقود سيادة . هل يبلغ عنه طبيب العيون السلطات ؟
- ظهر هناك مرض جديد وهو مرض الإيدز يحتاج إلى دراسة خاصة وليس هناك فقط ضرورة إفشاء السر أو عدم إفشائه للزوجة أو الزوج إذا كان أحدهما مصابا بمرض ولا يعرف أنه مصاب ولكن أيضا بالنسبة للأطفال يذهبون إلى المدارس وهناك العديد في الواقع من الأمور التي يجب التذكير فيها بشكل جيد وقد بدأ التفكير وبدأ الخلاف الطبي والقانوني لاستعلام المواضيع هل هي جزء من إفشاء السر أو عدم إفشائه .
الدكتور / حسان حتحوت : نعم حدد القانون حالات بذاتها يجوز فيها الإفشاء . بالنسبة للكشف الطبي أو الإفضاء بالكشف الطبي لشركات التأمين إلى آخره فهذا يدخل تحت النص القانوني الذي يقول إذا أذن المريض بأن يفشي هذا السر لجهة أخرى ـ المريض الذي أمن على حياته فيوصل للكشف الطبي أو الذي يتقدم لوظيفة يوصل للكشف الطبي داخله في هذا طبيعة المريض يأذن بأن يفضي بنتيجة الكشف الطبي إلى الجهة التي أرسلته هل الطبيب ينشغل بعلاج المريض فقط أم لعلاج المريض ومتعلقاته الجزئية والاجتماعية والأخلاقية ..
الدكتور / محمد سيد طنطاوي : في الحقيقة الأسئلة التي تم طرحها برمتها يمكن أن تندرج تحت القاعدة الشرعية المشهورة التي قال بها الفقهاء وهي ارتكاب أخف الضررين والذي يستطيع أن يحكم على أن الضررين أخف هو الطبيب بطبيعة الحال بعد استشارته لأهل الذكر ولأهل العلم ولأهل القانون و في تصوري أن المسائل تختلف من حالة إلى حالة ومن ظروف إلى ظروف فقد يفشي الطبيب في حالة وقد تكون المصلحة في عدم الإفشاء في مصلحة أخرى وأن الطبيب عليه أن يستشير أهل العلم وأهل الذكر ثم بعد ذلك إذا اطمأن إلى أن الإفشاء أفضل أفشي وإذا اطمأن إلى أن الكتمان أفضل فعليه أن يكتم ولكن في الإطار الذي حددته الشريعة الإسلامية من قواعد وأيضا ما استقر عليه الأمر بين رجال القانون في تلك المسائل وشكرا .
الدكتور / عمر سليمان الأشقر : في المسألة الأولى في حالة اعتداء أب على ابنته أو أخته ثم كان ثمرة هذا الاعتداء جنينا لا شك أن الإسلام يحرم الزنى وزنى المحارم أشد حرمة في هذه المسألة الجزئية لا يأذن الشارع للطبيب أن يبلغ لأن التبليغ الشرعي في الزنى لا يتم إلا باعتراف أو بأربعة شهود فسيكون معرضا لو بلغ أو شهد ـ أنا أنظر من الزاوية الشرعية لا أنظر من الزاوية القانونية التي قد تخالف الجانب التشريعي إذا ما بلغ في دولة إسلامية الطبيب وهي أنكرت فإنه يعتبر قاذفا في حالة هي يبلغ قضية أخرى هذا جانب أنا أتكلم عموما في الزنى سواء من قريب أو من غيره . قتل الجنين هل يجوز أن يقتل الجنين ، الشريعة الإسلامية تنظر إلى هذا الفعل الذي تم من أب أو أخ في درجة أكبر جرما من الذي تم من رجل أجنبي لكنها لا تبيح قتل ثمرة هذا العمل بغض النظر من كونه من قريب أو من غير قريب .
للجنين من جناية كونه قد يكون مشوها قضية أخرى هذه القضية أخرى وإن كنت في ظني أنني لا أطيل إذا كان تشوه قبل أن يكون كبيرا فكم من مشوه يملك إمكانيات وقدرات بل قد يكون عبقريا التشوه ليس دائما يؤدي إلى أن الإنسان فاشل في حياته .
قضية ثانية : في حال عدم وجود حيوانات منوية عند من يختبر نفسه أنا في ظني أنه رجل جاء لكي يعرف الحقيقة فعندما أبلغه بالحقيقة بغض النظر عما يترتب عليه أنا أبلغه ما في عندك حيوانات منوية أنا لا أتهم زوجته لكن هكذا في المختبر ، حقيقة نقول هذا الرجل غير صالح للإنجاب ما يترتب على هذه الحقيقة ليس عملي وليس أمري هذا ما يتعلق به بعد ذلك موقفه من زوجته كما في الشريعة الإسلامية إن لم يرض بهذا بكلام الطبيب أو أراد أن يحقق في هذا لها أحكام في الشريعة الإسلامية من الملاعنة يلاعن زوجته حتى ينتفي ويتبرأ من الولد ـ في حالة رضا شخصين ـ شخصان تراضيا على أن يتم عليهما الفحص الطبي لمعرفة إمكانية الزواج هل يمكن أن يكون سعيدا موفقا أو لا مادام الاثنان جاءا برضاهما متراضيين وكل منهما أذن في أن يبلغ الأمر إلى الآخر ليس في ذلك أي إفشاء للأسرار لأنهم ابتداء قبل أن يعلم الطرف الآخر عن نتيجة من يراد الفحص عنه .
سؤال : – المريض طيار مدمن على المخدرات . هل يبلغ الطبيب السلطات ؟
إن حياة مئات البشر أهم من حياة إنسان ما يمكن لعاقل أن يقول نحفظ السر إنسان وفيه مصلحة إنسان واحد ثم بعد ذلك نعرض حياة المئات للخطر للذين سيركبون مع هذا الطيار ـ فالمثال هنا واضح وتطبيق القواعد هنا الضرر الخاص والضرر العام والضرر الأخف والضرر الأشد واضح في هذه المسألة هناك مفسدة هائلة جدا لو كانت المسألة ضرر خاص به لا يسوق السيارة ولا يقود الطائرة متعلق به نفسه قد نقف عند هذا ولا نبلغه لكن ما دام طيار سيركب معه في بعض الأحيان مائتان أو ثلاثمائة راكب ثم بعد ذلك أقول أنا أحفظ سره هذا في ظني من الأمور المتفق عليها في مثل هذا .
المثال الرابع إذا كان المريض يمارس الزنى ـ يمارس اللواط هذا كما ذكرت في الشريعة الإسلامية لا تثبت بمجرد الإخبار والذي يخبر في هذا المجال يتعرض للجلد عقوبة القذف ثمانون جلدة فعليه أن يسكت في مثل هذه الأمور وإلا في القانون الإسلامي في الشريعة الإسلامية يعاقب .
الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق : عندي إضافة صغيرة على ما تفضل به الأخ الفاضل الدكتور عمر الأشقر لأنه حصر إثبات جريمة الزنى في الاعتراف والشهادة الحقيقة أيضا أن الحمل وسيلة لإثبات الزنى وبالتالي لو يعني كلام الأخ عمر في أنه لا يجوز للطبيب أن يبلغ عن الزنى وأن هذا يعرضه للمسألة الشرعية وهذا صحيح
الأستاذ الشيخ محمد المختار السلامي - مفتي الجمهورية التونسية : والتحديد الدقيق لكل حالة من الحالات أمر غير ممكن ، فلذا يكون من المتحتم ضبط هذه القاعدة الكلية التي هي عبارة عن موازنة دقيقة بين الحاجة العلمية لتشخيص الداء وبين المواطن أو الدوائر التي يطلع عليها أو الأسرار الذاتية ، وكل ما زاد على ذلك لا يجوز للطبيب أن يكشفه أو أن يجتلب من المعروض عليه خفاياه لنشرها أمامه فلو فرضنا أن فتاة وقعت في الخطيئة وطلبت من الطبيب أن يفحصها ليتبين هل حملت أو لا فإن كل تجاوز من الطبيب في الأسئلة لمعرفة عشيقها ومقدار حبها له وعدد المرات التي اتصل بها ومكان ذلك إلى آخر الأسئلة التي لا يتوقف عليها معرفة حصول الحمل هي من قبيل التجسس الذي نهى الله عنه كما جاء ذلك في سورة الحجرات : ( ولا تجسسوا) والتجسس المنهي عنه هو البحث عما يكتم عنك وهكذا الطبيب يحرم عليه أن يكشف الصدر الذي لا حاجة إلى كشفه والنهد والظهر بل الواجب عليه أن يطلب من المريضة المتحللة خلقيا أن تحترمه ولا تكشف عما لا يجوز أن ينظر إليه .
القضايا الجنسية : ولعل الأصل أن الطبيب لا يجوز له أن يطلع أحدا على ما تهيأت له معرفته بحكم المهنة .
1 – مشاكل العذرة : تكون الفتاة قد فقدت عذريتها أو خلقت بدون عذرة وطلبت هي وعائلتها من الطبيب أن يقوم برتق العذرة وإبرازها سليمة في إحساس من سيتزوج بها . فهل يقدم الطبيب على هذا العمل إنقاذا لشرف الفتاة وصونا لمستقبلها من الدمار وقطعا للقيل في العائلة ؟ أو هو يمتنع من ذلك حتى لا يشارك في غش من ستقترن به لأنه أقدم على خطبة عذراء للزواج منها واختيار العذراء اختيار محترم صاحبه في اختياره ولا يدلس عليه .
موقف الفقهاء : يعتبر الفقهاء أن الزوج إذا تزوج فتاة عذراء واكتشف أنه قد زالت عذريتها فإن هذا يعتبر عيبا موجبا لرد الزواج ورجوع المهر للزوج
الراجح والمشهور : أن الزوج إذا اشترط عذراء أو قام بالعادات التي تفعل مع العذارى فإن له رد النكاح واسترجاع المهر إذا وجدها غير عذراء سواء زالت عذريتها بزنى أو بعامل آخر لأنه حق تعلق به غرض صحيح وبذل فيه مالا .
وهنا يؤكد الفقهاء أن الزوج إذا لم يجدها عذراء ليس له أن يتهمها بالزنى واتهامه إياها بالزنى موجب للحد فلو قال وجدتها مفتضة أقيم عليه حد القذف كما أنهم أشاروا على ولي الفتاة إذا ذهبت عذريتها بغير جماع أن يقيموا وثيقة تنفي عنها وعنهم العار فيما يستقبل
حكم رتق الطبيب للعذرة : قد يترجح عندي أن الفتاة التي ذهبت عذريتها إن كان ذلك في سن مبكر يقطع فيه الطبيب أنها لم تكن بسبب جماع لأنها غير مطيقة . في هذه الحالة فقط يجوز له أن يرتق العذرة وفيما سوى ذلك لا يجوز له أن يتولى مثل هذه العملية إلا إذا كان الزوج حاضرا ورغب في ذلك لأنه صاحب الحق وعلى جميع الأحوال سواء قام بالرتق أو لم يقم فإنه يحرم عليه أن ينشر شيئا مما علمه بحكم مهنته
2 – العقم : إذا أجرى الطبيب اختباراته على الزوج فبان له يقينا أن الزوج عقيم عقما لا شفاء منه ولا أمل في إنجابه ، ولو ضئيل الأمل ثم جاءته الزوجة رفقة زوجها فاكتشف أنها حامل فهل يخبر زوجها بأنه من المؤكد أن الحمل ليس منه .
لقد تحدث الفقهاء عن هذه الصورة وأجمعوا على أن العقم لا ينهض سببا موجبا لنفي الجنين بل ذهب الحنفية إلى أبعد من هذا وقد اكتفوا بقيام الفراش بلا دخول كتزوج المغربي بمشرقية بينهما سنة فولدت لستة أشهر منذ تزوجها وبناء على هذا فإنه لا يجوز للطبيب أن يدخل ريبة في نفس الزوج ولا أن يسلط اتهامه على المرأة ولو كانت الحدود تقام لوجب على الحاكم أن يجلد الطبيب المشكك ثمانين جلدة ويفسق ولا تقبل شهادته تبرئة للمرأة وصونا للفراش . والأصل في هذا القاطع لكل خلاف هو الحديث الذي رواه أصحاب الصحيح واللفظ للبخاري .( قال النبي r الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فكلما ولد لزوج مع قيام الزوجية فإن الولد ينسب ولا ينفي نسبه إلا إذا قام والده باللعان حسب شروطه وقواعده أو إذا قام شهود على الزنى حسب الأصول التي تقبل فيها الشهادة
الكشف من أجل الخطبة : إذا توجه الخطيبان للطبيب ليكشف عن سلامتهما وتناسب تركيبهما تناسبا لا يترتب عليه تشوه ولا اختلال في النسل وأبان الكشف سلبية هذا الزواج فهل يخبر الطرف المتضرر أو أن سر المهنة يحتم عليه الاحتفاظ بنتائج فحصه وعدم الإعلان عنها .
لا شك أنه يجب على الطبيب أن يكشف عن الحقيقة السيئة التي تبينت له لأنهما قدما إليه على هذا الأساس ليستوثقا من سلامة بناء العائلة التي هي غرضهما الأساسي . قال القرطبي : وتجوز الغيبة إذا كان في ذكره بالسوء فائدة كقوله r لفاطمة بنت قيس لما جاءته تطلب مشورته في خاطبيها معاوية وأبي جهم من حذيفة قال : أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ( أحكام القرآن ج 16 ص 340 ) .
فرسول الله r وهو يعلم مكانة فاطمة بنت قيس قال أبو عمر بن عبد البر : كانت ذات جمال وعقل وكمال ومما يدلك على مكانتها الاجتماعية أن أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمعوا في بيتها ( الاستيعاب ج4 ص 383) لذلك عرفها بما في خاطبيها من نقائض ، وفي رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .
ولكن إذا رضي الزوج الكامل لقرينه الناقص وتأكد الطبيب أن احتمال تشوه النسل مثلا هو احتمال راجح فهل يجوز له والحالة تلك أن يرفع الأمر إلى الحاكم ؟ الذي اطمئن إليه أنه لا يجوز له ذلك إلا إذا كان التشريع القائم في البلد يوجب مثل هذا الرفع فإذا كان الأمر ما وصفته فإني أضع رأيا أعرضه على أنظار السادة الفقهاء أنه يجب عليه أن بعلم بذلك ولي الأمر لأن مثل هذا القانون لا يهدم مصلحة مقننة ولا يصدم نصا من النصوص اليقينية وفيه مصلحة عامة مرض الهيبز أو السيدا : هل يخبر الزوج إذا كانت الزوجة هي المريضة ، وهل يخبر الزوجة إذا كان الزوج مريضا ؟ هل يخبر السلطات المحلية .
ثالثا : أعتقد أنه من حق الطبيب بل من واجبه أن يخبر المصاب حتى يعلم خطر إقدامه على التبرع بدمه أو اتصاله جنسيا بسليم أو سليمة . وأيضا أن يعلم القرين بحالة قرينه . أما إعلام السلطات فإنه نوعين : الإعلام بالحالة دون تسمية الشخص وهذا أعتقد أنه واجب لتضبط الدولة مخططاتها على أساس المعطيات المقدمة من الأطباء ومراكز العلاج والتحليل .
أما إعلام السلطان في حالة غياب التشريع باسم الشخص المصاب وضبط حالته المدنية فلا أرى وجها يسمح للطبيب بكشف السر والإبلاغ . وعلى كل حال فإنه لا يجوز بحال من الأحوال اتهام المصاب بالزنى أو الشذوذ الجنسي لإمكانية تحول الفيروس عن طريقة الحقن الدموية . أو الإبر الملوثة أو طريق آخر لم يكشف عنه الطب إلى اليوم .
مرض السرطان : إعلام المريض حقيقة الأمر تختلف من مريض إلى آخر فإذا كان له من حسن التوكل والثقة في الله وعدم التشبث بالحياة فإنه لا مانع من تعريفه بواقعه ليواجه المستقبل واحتمالاته وإن كان ضعيفا رعديدا يخشى عليه من الانهيار العصبي إذا واجهته الحقيقة فإنه يصبح من المؤكد ألا يعلم بذلك .
إفشاء السر :الدكتور : محمد سليمان الأشقر ( خبير بالموسوعة الفقهية ) : الأولى بمن حمل السر لغيره أن يمحوه من قلبه ، وأن يوحي إلى نفسه أنه قد أمات ذلك السر حتى كأنه لم يسمع به ، أو سمع به ونسيه ، فذلك أدعى إلى أن يخفيه من أن يرى أنه سيبثه في فرصة آتية . ثم إن سئل عن السر فليتجاهل أنه يعرفه ، فإن عزم عليه فرأى أنه إن قال إنها أمانة ولن أخبر بها اكتفى منه ، فليقل ذلك ، وإن رأى أن ذلك يزيد السائل ضراوة ، ويحفزه على متابعة الكشف ، فليترك ذلك القول وليلتمس أن يستعمل المعاريض : روى أن النبي r قال : " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " وروى قول ذلك عن بعض السلف والتعريض التورية .
ثم إن لم يتيسر التعريض واضطر إلى الجواب قسرا فقد قال بعض العلماء : إن له أن ينكر ، وإن كان حمل السر أمانة أو يخاف على صاحب السر الضرر في نفسه أو أهله أو ماله بغير حق فله أن يكذب وإن استحلف فله أن يحلف على الكذب ، والإثم على من اضطره إلى ذلك بغير حق .
قال ابن حجر الهيتمي : الكذب قد يباح ، وقد يجب ، والضابط كما في الإحياء أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح وإن كان واجبا وجب ، كما لو رأى معصوما اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه ، فالكذب هنا واجب ، أو سأل الظالم عن وديعة يريد أخذها ، فيجب الإنكار وإن كذب ، بل لو استحلفه لزمه الحلف ، ويوري ، وإلا حنث ولزمته الكفارة . ولو سأله سلطان عن فاحشة وقعت منه سرا ، كزنى أو شرب خمر ، فله أن يكذب ويقول : ما فعلت . وله أيضا أن ينكر سر أخيه . ثم قال : ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق ، فإن كانت مفسدة الصدقة أشد ، فله الكذب ، وإن كان العكس . أو شك ، حرم الكذب .
ثم استشهد لصحة ذلك بحديث الترخيص بالكذب في الحرب ، وفي الصلح بين الناس ، وفي حديث الرجل زوجته ليرضيها .
ولنا فيما قاله الغزالي وأقره ابن حجر الهيثمي توقف ، فليست كل مفسدة تترتب على الصدق يستباح بها الكذب ، وليس كل مصلحة محمودة تتوقف على الكذب تبيحه ، فإنه ما من كاذب إلا ويرى أن في الكذب مصلحة له أو درء مفسدة عنه أو عن غيره . والنبي r أخرج كلامه مخرج الحصر عندما قال " إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث .. الحديث "
من يستحق الستر عليه ومن لا يستحق :
قال الحليمي " الستر هو في الفواحش التي لا تخرج من الملة ، فأما إذا سمع مسلما يتكلم الكفر ، فعرف به أنه من المنافقين ، فلا ينبغي أن يستر عليه .. ليعلم المسلمون أنه خارج من ملتهم ، ولئلا يغتروا بما يظهره لهم فينكحوه ، أو يأكلوا ذبيحة ، أو يصلوا خلفه ، أو يوصي أحد منهم إليه بولاية أطفاله . ولأن من أظهر الكفر زالت حرمته ، فإن الحرمة فيما أوجبنا ستره ، إنما كان لدين المتعاطي له ، فإذا لم يكن دين فقد زالت العلة . والله أعلم " .
وواضح أن هذا إنما هو فيما كان من الأسرار من قبيل ستر العورات ، أما إن كان من قبيل حمل الأمانة فإن الخيانة لا تجوز ، ولو كان من حملك الأمانة زنديقا ، إن التزمت له بحفظها .
والأضرار التي قد يسببها إفشاء الأسرار مختلفة ، فمنها :
أ – الأضرار النفسية والمعنوية .
ب – الأضرار البدنية : فقد يلزمه بكشف سره حد أو عقوبة .
ج – الأضرار المهنية : فإن المتعاملين مع أصحاب الصنائع كالطبيب والمحامي ، إذا شعروا بأن أسرارهم في خطر ، يحجمون عن التعامل معهم ، أولا يطلعونهم بالقدر الكافي على ما يريدون الاطلاع عليه لينجحوا في مهماتهم ، وبذلك يفقدون وتفقد المهنة ككل نسبة كبيرة من فرص النجاح . و هكذا المهن الأخرى حتى السائق والخادم إذا كان حافظا للأسرار التي يطلع عليها تزيد الثقة به . فإن كان على عكس ذلك فقد نسبة كبيرة من فرص العمل ، وخسر غالبا ما بيده منها .
د . الأضرار المالية : فربما أفقده إفشاء السر فرصة كسب ينتظرها ، أو مصلحة خطط لتحصيلها . وربما أدى كشف أسرار الناس المالية إلى تسلط اللصوص وأشباه اللصوص حتى يعود الغني فقيرا ، وتؤول الثروات التي جمعت بالكدح الدؤوب ، والعمل الشريف، إلى الأيدي الظالمة ، تعبث بها يمينا وشمالا .
ثانيا : لأنه قد يكون في إفشاء السر خيانه للأمانة وذلك في أحوال :
أ – أن يكون بين المرء وزوجته .
ب – أن يكون أخوك قد طلب منك كتمان سره قبل أن يفضي إليك به فالتزمت له بذلك .
ج – أن يكون أخوك قد فاتحك في أمر خاص مما شأنه أن يكتم عن الناس ولو لم يستكتمك ، وخاصة إن كان يستشيرك في أمر مما ينويه أو أمر يعزم عليه فذلك أمانة ، لقول النبي r "المستشار مؤتمن " ويكون كشف خبايا ذلك الحديث خيانة لتلك الأمانة .
د – أن يكون السر كلاما صدر في مجلس خاص يثق الحاضرون فيه بعضهم ببعض .
هـ – أن تقضي الضرورة أو الحاجة الإنسان أن يكشف عما يسوؤه أو يضره إظهاره ، وما كان ليظهره لولا حاجته إلى المعونة ، كمن يذهب إلى المفتي ليسأله عن حكم الشرع في أمر قد فعله . فإن لم يشرح الواقعة بالقدر الذي يتبين به الحكم فيها لم يتمكن المفتي من إجابته والبيان له . فيكون الحديث الذي وصف به فعله إن كان مما يسوء إظهاره ، أمانة عند المفتي ، فإن كشفه كان خائنا للأمانة . فلو شهد المفتي بعد ذلك أمام القضاء بما سمعه من الإقرار لم تقبل شهادته ولا عبرة بها ، لأن الخائن للأمانة فاسق غير عدل . وهذا عند المالكية هو المعتمد من قولين لهم مرويين عن مالك . وعليه العمل .
ومثل ذلك الطبيب إذا أفضى إليه المريض بسبب مرضه ، وقـد يكـون فعلا شائنا ، أو كشف للطبيب من بدنه ما يحتاج إلى كشفه للعلاج ،ويكون فيه تشويه أو مرض منفر .
وربما أفضى إلى الطبيب النفساني بأوضاع خاصة به في حياته السابقة ، أو أوضاع أسرته ، ليتمكن من تشخيص المرض ومعرفة أسبابه وعلاجه . فيكون ذلك كله أمانة لدى الطبيب ، ومن الخيانة أن يفشيها .
غير أن هذا لا يمنع استخدام وقائع الفتوى أو الوقائع الطبية أو نحو ذلك في الأبحاث العلمية ، والاستشهاد بها في تأييد النظريات أو تزييفها ، غير أنها إن كانت من قبيل الأسرار فلا يذكر أسماء أصحابها ، ولا ما يكشف شخصياتهم ، بل تستخدم الألفاظ المبهمة .
ثالثا : لأن البوح بالأسرار فيه غالبا اتباع لهوى النفس ممن يفعله : وقد قال الله تعالى : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) فإن الذي يدعوا الناس إلى فضح أسرار غيرهم أو كشف معايبهم أكثرها راجع إلى الهوى . فمن ذلك :
أ – أن النفوس تنزع إلى كشف الخبايا والتبسط بغيبة الناس وذكر معايبهم : فإن الصاحب إذا حل من خليله محل الفؤاد ، فاطمأن كل منهما إلى الآخر وركن إليه فائتمنه على أدق أسراره ، وبث إليه أشياء مما في نفسه وأخبارا عن أشياء فعلها ، وربما أفضى إليه برأي له في فلان من الناس أو فلانة ، فحق حامل الأمانة أن يكون كفئا لها فلا يفضي بشيء من ذلك إلى أحد . ولو أن حبل الوداد انفصم بين هذين الصاحبين ما كان لأحد منهما أن يخون ما ائتمن عليه ، ولا أن يفشي سر صاحبه القديم . فإن فعل دل ذلك على لؤم طبعه وخبث باطنه وليس للآخر أن يقول : فضحني فأفضحه ، وأذلني فأذله ، فإن النبي r يقول " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " .
متى يجوز إفشاء الأسرار : لا يجوز البوح بالسر الذي يشرع كتمانه ـ على الوجه الذي قدم ـ إلا في أحوال معينة منها :
1 – انقضاء حالة كتمان السر : إذا انتهت حالة السر من غير جهة الكاتم لها ، فلا بأس أن يتكلم بذلك ، ويكون انقضاء حالة السر بأمور :
أ – أن يبوح بالسر صاحبه نفسه ، لأنه لا يعود سرا فيكتم ، ولذا فيرتفع الحرج بذلك ومع هذا فقد تبقى بعض التفاصيل التي لم يبح بها سرا إن كان يكره التصريح بها ، أو يكون في إعلانها ضرر عليه .
ب – انقضاء الأضرار والمفاسد التي يستضر بها المكتوم عنه أو غيره من جميع نواحيها : بدنيا ونفسيا ومعنويا وماليا . وهذا إن كان سبب مشروعية الكتمان الضرر ، فأما إن كان السبب حمل الأمانة فلا تقتضي بذلك ، ما لم يأذن المكتوم عنه بإعلانها أو يعلنها هو بذاته.
ج – أن يأذن صاحب السر في إفشائه ، فإن أذن فلحامل السر أن يحدث به ، فإذا حدث به أحدا أداه على أحسن وجه ، واختار أجود ما سمع .
د – أن يكون الالتزام بكتمان السر إلى أجل ، فيأتي ذلك الأجل .
هـ – أن ينتقل حال المكتوم عنه ممن يشرع كتمان سره إلى من يشرع كشف ستره وفضح أمره ، كأن ينتقل من حال الإيمان إلى النفاق والكفر والعياذ بالله ، أو من حال التستر بالفواحش إلى الإعلان بها .
2 – موت صاحب السر : وذلك لأن ضرر البوح بالسر ينتفي بالموت غالبا . ولكن في المسألة تفصيلا فقد نقل ابن حجر : إذا مات لا يلزم من الكتمان ما كان يلزم في حياته ، إلا أن يكون عليه غضاضة . ثم قال ابن حجر : والذي يظهر انقسام ذلك إلى أقسام : فيكون مباحا ، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر ، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك ، ويكون مكروها ، وقد يحرم ، كالذي على الميت فيه غضاضة ، وقد يجب ، كأن يكون فيه ما يحب ذكره كحق عليه . أ هـ .
قلت وقد يكون الحق في الأصل للميت ، كوديعة أودعها عند غيره سرا واستكتم المودع ، فوجب عليه ردها على الورثة .
3 – أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء
4 – دفع الخطر : قال الزبيدي : يستثنى ما لو تعين (الإفشاء ) طريقا لإنقاذ مسلم من هلاكه أو نحوه ، كأن يخبر ثقة بأن فلانا قد خلا برجل ليقتله ، أو امرأة ليزني بها ، فيشرع التجسس كما نقله النووي من الأحكام السلطانية واستجاده . وفي حديث جابر قال النبي r : " المجالس بالأمانة ، فلا يشيع حديث جليسه إلا فيما يحرم ستره من الإضرار بالمسلمين " إلا أنه حديث ضعيف . وفي رواية عند أبي داود "المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس : مجلس يسفك فيه دم حرام ، أو يستحل فيه فرج حرام ، أو مجلس يستحل فيه مال من غير حله "
وعلى ضوء ما تقدم يمكن أن يتبين حكم بعض الوقائع :
1 – تأكد الطبيب من أن الزوج عقيم ، ولا يمكن أن ينجب ، وحملت الزوجة بطريقة أو بأخرى ، وهم الطبيب بإفشاء هذا السر بإخبار الزوج أو إخبار الجهات المسؤولة . فهل له أن يفعل ذلك ؟ .
والذي نجزم به في هذا أنه ليس للطبيب أن يقول إن هذه الزوجة قد حملت من الزنى ، لأنه إن قال ذلك كان قاذفا ، ويستحق حد القذف وهو ثمانون جلدة إن طالبت بذلك المرأة ولم يأت الطبيب بأربعة يشهدون على ذلك . لكن لو قال للزوج " تبين من الفحص أنك عقيم لا تنجب " واقتصر هذا القول فهذا قول ، وليس بسر ولا بأمانة حتى يلزم ستره وكتمانه . لكن من باب المحافظة على سلامة الأسرة إن علم أن ذلك وقع من المرأة على سبيل الزلة فقد يكون عدم الإخبار بذلك أفضل ، إذ لا فائدة فيه بالنسبة إلى نسب الحمل ، لأنه سيلحق بالزوج ، إذ الولد للفراش ولو انتفى الزوج من الولد ، ما لم يجر اللعان لنفيه .
2 – إذا قام الطبيب بعمل يخل بآداب مهنة الطب ، واكتشف ذلك زميل له ، هل يقوم بالإبلاغ وإفشاء السر ؟
يختلف ذلك في نظري من حال إلى حال ، فإن كان ذلك الطبيب قد اعتدى على الطرف الآخر أو استغل صغره أو جنونه أو نحو ذلك ، فهنا ليس الستر على المعتدي أولى من تمكين المعتدي عليه من الوصول إلى حقه .
وإذا كان بموافقة الطرف الآخر ، وهو تام التكليف ، فإن كانت زلة وحصلت التوبة منها فينبغي الكتمان ، وخاصة إذا كان الذي واقع الجرم قد استعان بالزميل الذي اكتشف أمره ليتم تلافي ما حصل . أما إن كان مستمرا في غوايته واستغلال مركزه فيجب إيقافه عند حده .
3 – إذا تبين للطبيب أن رب الأسـرة قد أصيب بمرض جنسي ، فهل يبلغ الأسرة ؟
الجواب عندي أنه إن كان المرض معديا ويخشى أن ينتقل إلى زوجته أو سائر أفراد أسرته فإن الضرر المتوقع بإصابته الأبرياء أعظم من الضرر الذي ينال المريض نفسه ببيان حاله . وحينئذ فينبغي للطبيب البيان إن سئل عن ذلك أو اقتضته الحال .
4 – مريض أجريت له عملية في العين ، أو أصيب فضعف إبصاره لدرجة يكون في قيادته للسيارة خطر عليه هو نفسه وعلى الناس ، هل يجوز الإفضاء بأمره للمسؤولين ؟
الجواب : عندي أنه لا مانع من أن يفضي بذلك ليحصل منعه من القيادة مؤقتا ، إن كان ضعف الإبصار مؤقتا ، أو لسحب الرخصة منه إن كان الضعف دائما ، وذلك لأجل الخطر في القيادة
5 – بذل طبيب العيون جهده ، ولكن لن يفلح في إزالة الداء ، وتلفت العين فهل هو مسؤول شرعا ، وهل يجب عليه إفشاء السر؟
الجواب أنه إن كان متأهلا ، وقد بذل من الجهد ما يبذله أهل الخبرة ، ولم يكن سبب التلف عمله هو ، فلا ضمان عليه ، وليس هناك سر فيحاول إخفاءه .
6 – أخطأ طبيب العيون فأتلف العين بآلة استعملها ، أدخلها في جزء من العين لم يكن له إدخالها فيه ، وتلفت من حيث يريد إصلاحها ، والمريض لم يعلم أن سبب التلف خطأ الطبيب . فهل على الطبيب أن يفشي على نفسه ، وهل عليه أن يدفع الدية ؟
والجواب أنه ما دام الإتلاف سببه جناية يد الطبيب خطأ فعليه الضمان بدية العين ، لأن الإتلاف لا يختلف عمده وخطؤه ، بخلاف ما لو فعل ما له فعله ، ثم سرى من حيث لا يريد ، ولم يكن منعه فلا يضمن . ثم إذا لزم الضمان فعليه أن يخبره لأنه حق آدمي لا يسقط إلا بالإبراء منه أو الأداء .
7 – إذا حضر رجل وامرأة مقبلان على الزواج ، وطلبا فحص ما قبل الزواج ، وتم اكتشاف مرض معين في أحدهما قد يؤدي إلى احتمال إنجاب طفل مشوه ، فهل يقوم الطبيب بإخبار الطرف السليم . وهل يستتبع ذلك شرعا مساءلة ما ، وهل يتم إخبار الطرف المريض نفسه ؟
الجواب : يبدو لي أن قدوم الطرفين جميعا للفحص يقتضي إخبارهما بالنتيجة ، وإلا فإن الطبيب يكون قد خدعهما ولم يؤد واجبه في إطلاعهما على حقيقة وضعهما .
8 – إذا عرف الطبيب من مريضه الذي يعمل في موقع حساس (طيار مثلا ) أنه مدمن مخدرات ، وأن بعض زملائه مدمنون أيضا ، فهل يقوم الطبيب باطلاع المسؤولين على ذلك السر ؟ أم يقوم الطبيب بإخطار السلطات لاتخاذ اللازم ؟
الجواب عندي أنه يجب على الطبيب شرعا أن يبلغ الجهات المسؤولة ، ويبلغ السلطات أيضا إن لم يكن في الأمر مانع من جهة إدارية ، وذلك ليمكن تقادي الأخطار الفظيعة التي قد تترتب علي قيادة الطائرة من قبل شخص واقع تحت تأثير المخدر .
9 – إذا عرف الطبيب عن مريضته أنها قامت بترك وليدها غير الشرعي في الطريق العام ، أو أي مكان آخر تفاديا للفضيحة ، فهل يقوم الطبيب بإبلاغ السلطات ، أم يلتزم كتمان السر ؟
الجواب : عندي أنه هنا يلتزم بكتمان السر ، وخاصة إذا كانت قد استكتمته السر ، والتزم لها بذلك . وحتى لو لم يلتزم فلا يفشي السر ، لشدة الخطورة على حياتها في غالب الأحوال ، ولما في إفشاء السر من أضرار معنوية شديدة على المرأة نفسها وعلى أسرتها وعلى سائر أولادها .
10 – مريض فقد بصر عينه ، ولكن أمكن إصلاحها حتى تبدو سليمة تماما بحيث لا يعرف الناظر إليه بأنه لا يبصر إلا بعين واحدة ، طلب المريض إلى الطبيب أن لا يخبر زوجته بذلك لأنها ستطلب الطلاق إذا علمت بذلك ، أو أن خطيبته سترفض الاقتران به ؟
الجواب : عندي أن هذا السر ليس للطبيب أن يخبر به لما فيه من الضرر على المريض .
– وكذلك ينتفي نسب الطفل دون لعان إذا قام مانع عادي على نفي نسبه منه . وذلك إذا كان الزوج في حالة بحيث لا يمكن أن يكون قد التقى بزوجته لقاء جنسيا (وطئها) وقد مثلوا له بما إذا كان الزوجان أحدهما في المشرق ، والآخر في المغرب ، وعقد وليهما عقد الزواج ولم يمكن التقاؤهما بعد عقد الزواج ، ثم حدث الإنجاب ، فإنه في هذه الحالة يظهر أمامنا في الفقه الإسلامي اتجاهان :
الاتجاه الأول : وهو رأي جمهور الفقهاء يرون أنه ينتفي نسب هذا الولد من الزوج دون لعان ـ وهو رأي (المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، ومن سلك سبيلهم ) ، ولا يلحق الزوج نسب هذا الطفل لقيام المانع العادي ـ كما قال المالكية ـ أو لاستحالة كونه منه ـ كما قال الشافعية ـ أو للعلم حسا ونظرا أنه ليس منه ـ كما قال الحنابلة ـ وحينئذ لا يلحق الزوج نسب هذا الطفل ، ولا يحتاج إلى نفي نسبه منه .
الاتجاه الثاني : وهو رأي الحنفية ـ ووافقهم الحنابلة إذا مات الزوج بعد ولادة هذا الطفل ـ أنهم يرون أن الولد يثبت نسبه من الزوج ـ لأن الولد للفراش ، وفي إمكان الزوج إذا كان لم يطأ زوجته أن يلاعنها ، فإذا لاعنها انفصلا ، وألحق نسب الولد بأمه لا بالزوج .
وهذا الرأي يتجه إلى إلحاق نسب الطفل بالزوج إذا لم يلاعن لحفظ نسبه احتياطا ، فكأنه يقول إن صاحب الحق في ذلك هو ـ الزوج ـ فإذا سكت ولم يلاعن كان الأصل هو إلحاق نسب الطفل بالزوج ، وما دام قد ولد في ظل عقد الزواج ، وفي المدة التي يولد مثله فيها في ظل هذا العقد .
وقد أثار فقهاء الشافعية نقطة هامة ، وهي هل يجب على الزوج أن ينفي نسب الطفل إذا علم أنه ليس منه ؟
وقد أجابوا عليها " بأنه يجب عليه ذلك " ، وأقول يجب طالما كان هذا العلم بأنه ليس منه يقينيا ، فالشك والظن والوهم لا يبنى عليه نفي النسب ، الذي يحتاط دائما في إثباته ، نظرا لأن الأضرار التي تنصب على هذا الطفل طول حياته لا تقارن بالأضرار التي تلحق بالزوج والزوجة .
نتائج هذه الدراسة : ومن هذه النصوص الفقهية يتضح لنا جليا ما يأتي :
أ – أن القاذف ـ إن لم يستطع إثبات واقعة الزنى ـ يجب حده حد القذف " وهو ثمانون جلدة " إذا توافرت الشروط اللازمة للحد ، فإن لم تتوافر وجب تعزيره وتأديبه .
ب – أن نسب الولد يلحق بالزوج ، ما لم يلاعن ، أو ينفي نسبه ـ كما سبق أن قررنا .
ج – أن الإقدام على نفي النسب لا يقوم على الحدس والتهمة والشك والظن ، وإنما يجب أن يقوم على اليقين .
د – أن رؤية الزوج زوجه وهي حامل ، أو علمه بولادتها ، كاف في إلحاق نسبه منه ،ولا ينفي نسبه إلا بواسطته عن طريق اللعان ، أو نفي نسبه كما قلنا ، ما لم يقم مانع شرعي أو عقلي أو عادي يحول دون نسبته إليه كما سبق أن قررنا.
ه – أن الستر على الأعراض أمر مرغوب فيه ومطلوب شرعا ما أمكن ذلك .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : " من ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة " رواه ابن ماجة .
و- وأخيرا تبقى نقطة هامة يجب أن نتعرض لها ، وهي أنه إذا وجدت المرأة حاملا ،ولم يكن لها زوج ، أو كان لها زوج لا يولد لمثله كالصبي .. فهل يقام عليها حد الزنى ، اعتمادا على أن هذا الحمل قرينة على جريمة الزنى التي ارتكبتها هذه المرأة ؟
وللإجابة على ذلك نقول : " إن الفقهاء قد اختلفوا في حد هذه المرأة ، التي لم تعترف بالزنى ، ولا يوجد الشهود الأربعة الذين يشهدون عليها به ، ولم تذكر هذه المرأة شبهة تدرأ الحد .
فيرى بعض الفقهاء حد هذه المرأة حد الزنى .
وهذا الرأي مروي عن عمر رضي الله عنه ـ ، والمالكية ، ورواية عن أحمد ، فقد اعتبروا الحبل قرينة لإقامة الحد عليها مثل البينة (الشهود) والاعتراف .
وقد استدلوا على ذلك بما رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " كان فيما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ،ووعيناها ، ورجم رسول الله ـ ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس الزمان ، أن يقول قائل ، والله ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف رواه الجماعة إلا النسائي .
وآية الرجم هي : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " فنسخت تلاوتها في القرآن وبقي حكمها .
وبما روى أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أتى بامرأة ولدت لستة أشهر من حين زواجها ، فأمر برجمها ، فقال له على ـ رضي الله عنه ـ ليس لك عليها سبيل ، قال الله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) الأحقاف / 15 ،وقال : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) البقرة / 223 أخرجه مالك في الموطأ .
وروى عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : " يا أيها الناس إن الزنى زناءان ؟ زنا سر ، وزنا علانية ، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكونوا أول من يرمى ، وزنا العلانية أن يظهر الحبل، أو الاعتراف ، فيكون الإمام أول من يرمى" .
وفي الحالة التي معنا أي المسئول عنها : المرأة حامل في ظل الزوجية ، وقرر الطبيب أن الزوج لا يمكن أن ينجب ، فهل تقاس على حالة من تزوجت صبيا دون التاسعة أو العاشرة ـ حسبما تقدم ـ وحينئذ يأتي في حكمها الخلاف المذكور ونرجح ما رجحناه فيه .
ولكن هل يقف الطبيب مكتوف الأيدي أمام مثل هذه الحالة ؟
أرى أنه يجب على الطبيب أن يصارح الزوج الذي تم فحصه وأيقن الطبيب أنه لن ينجب أبدا ، بحالته ، حتى يكون على بصيرة من أمره ، وحتى يعالج قضيته بما يراه …
وطريقة إخبار الزوج بذلك تترك لحكمة الطبيب كيفيتها ووقتها وأسلوبها ، ولكن يجب أن يخرج المريض بنتيجة واضحة .
وفي إخبار الطبيب له بذلك يكون :
أولا : قد أدى أمانته ، لأنه ما ذهب إليه المريض إلا ليعالجه من مرضه ، ويعرفه داءه ودواءه فعلى الطبيب أن يقوم بواجبه ويؤدي أمانته ، وبخاصة أنه أصبح أمينا عليه ، وعلى مستقبله فيما يمس حالته الصحية .
ثانيا : قد أدى واجب النصح المقرر على كل مسلم لأخيه المسلم
ثالثا : أن إخباره بحالته قد يمنع ويحول دون وقوع منكر ، فإن كان هذا المريض غير متزوج فكر ألف مرة قبل الزواج ، وإن كان متزوجا وضع أموره نصب عينيه وراقب نفسه وأهله ، واتخذ ما يلائمه من قرارات نحو زوجته ونحو حملها إن كان حمل ، فإن تطورت الأمور وطلب الطبيب للشهادة وجب أن يؤديها كاملة ، ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) الآية 283 سورة البقرة .
وبهذا المسلك لا يكون الطبيب قد أفشى سرا ، ولا قدح في عرض ولا تعرض لأذى غيره أو نفسه . والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
الاستفسار الثاني : "وإذا قام الطبيب بعمل مخل بآداب المهنة ، واكتشف ذلك زميل له ، هل يقوم بالإبلاغ وإفشاء السر ؟ "
الواضح من السؤال أن العمل الذي يقوم به هذا الطبيب هو عمل غير مشروع ، إما لأن الشرع قد حرمه ، أو لأن الحاكم قد حظره ، وللحاكم أن يقيد بعض المباحات إذا أدت إلى ضرر .
وبناء على هذا فإن الإجابة على هذا السؤال تستدعي بيان حكم الشرع فيمن رأي منكرا ، فهل يجب عليه دفعه أو لا يجب ؟ كما تستدعي بيان منهج الشرع في دفع هذا المنكر ، وطريقته في معالجة مثل هذه الأمور التي تعكر مسيرة الخير في المجتمع ..
ونعالج هذين الموضوعين فيما يلي :
بيان حكم الشرع فيمن رأى منكرا :
أولا : لقد وردت آيات كثيرة في كتاب الله تعالى ، وأحاديث عن رسول الله r ، كما ورد عن الصحابة والتابعين آثار في ظل هذين المصدرين الكريمين حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنهما من صفات أمة محمد r ، ومنها : قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمه يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) الآية 104 من سورة آل عمران . وقوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..) الآية 110 من سورة آل عمران .
وفي تقرير أن هذه الصفة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي صفة المؤمنين قال جل شأنه : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) الآية 71 من سورة التوبة .
وفي أن ضدها هي صفة المنافقين قال عز وجل : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ) الآية 67 من سورة التوبة .
كما وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن منها : ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله r يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات المؤمنين بنصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله r .
ثانيا : حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لقد ثبتت فرضيته على كل مسلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله r .
يقول القرطبي : "ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه ، والتعزير إلى رأيه ،والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا ، قويا ، عالما ، أمينا ،ويأمره بذلك ، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة . قال الله تعالى : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) الآية 41 من سورة الحج .
ومن هنا يتبين لنا ضرورة أن نأخذ على يد هذا الطبيب الذي يقوم بأعمال تخل بآداب مهنة الطب ،وآدابها كما نعلم جميعا كلها تهدف إلى حماية صحة الإنسان والبعد به عن كل ما يعرضه للأمراض والمخاطر والعمل على إزالة آلام الناس جميعا بروح العطف والمودة والأمانة والشرف ، فإذا خالف ذلك كان مرتكبا لأمر غير مشروع ، ومن هنا وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . كما أمرنا به المشرع الحكيم ، وأقترح أن يكون ذلك على النهج التالي : منهج الشرع في إزالة المنكر وهذا هو منهج الدعوة ، ومنهج مخاطبة الناس ، ومنهج النصح …
فالطبيب الذي خالف آداب مهنته وعلم بأمره زميل له وتأكد من مخالفته وتثبت منها ، أرى أن نتبع في شأنه ما يلي :
أولا : أن نتخذ معه جانب النصح في المرتبة الأولى ،فقد قال رسول ـ r ـ " إن الدين النصيحة "
قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " رواه مسلم والنسائي وعنده بلفظ : " إنما الدين النصيحة " وأبو داود وعنده قال : " إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة " الحديث ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة بالتكرار أيضا وحسنه .
أ – فإن كان صديقا له كان نصحه مباشرا ، وإن لم يكن ويعلم صديقا له من الأطباء ، كلف هذا الصديق برسالته .
ب – فإذا لم يستجب للنصح في المرة الأولى ، كرر له النصح مشيرا ـ أو معرضا ـ بأن مثل هذه الأمور لا يحسن السكوت عليها ، أو إخفاؤها ، لما تؤدي إليه من ضرر عام ، بجانب الأضرار الخاصة ، وحديث رسول الله ـ r ـ يقول : " لا ضرر ولا ضرار " فكل ضرر يجب أن يزال شرعا وعقلا ..
ج – وفي المرتبة الثالثة يجب رفع الأمر إلى الجهات المسؤولة لتتخذ إزاءه ما يمنعه وأمثاله من مثل هذه الأعمال المخلة .
وهذا التبليغ هو حق وواجب على من علم بذلك ، بعد استنفاد مرحلة النصح ومرحلة التعريض برفع الأمر إلى الجهات المسؤولة ـ والتصريح ـ درءا للمفاسد من المجتمع ، وتنقية له من الأدران ، وقد ذكرنا آنفا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكرنا ما حذر منه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فهم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قائلا : " يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها " ، وإنا سمعنا رسول الله r يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب " .
وهذا المنهج وما أدى إليه من تبليغ للجهات المسؤولة أرى أنه لا يدخل فيما نهى الطبيب عن إفشائه من الأسرار ، فإن السكوت على الضرر ضرر مثله ، والسكوت على المعصية معصية مثلها ، وولي الأمر أو الحاكم في هذا الموطن مثله مثل الأب ، فإن لم نبلغه بأحول أبنائه جنح الأبناء واستعصى تأديبهم ، وانتشر شرهم ، وضيعوا الأب بضياعهم …
الاستفسار الثالث : إذا تبين للطبيب أن رب الأسرة أصيب بمرض جنسي ، ما هو موقفه ، هل يبلغ الأسرة أم لا ؟
وللإجابة على هذا الموضوع لزمنا أن نبين :
أ – موقف الشريعة الإسلامية من الأمراض المعدية .
ب – موقف الطبيب الذي يعلم إصابة إنسان بمرض جنسي من تبليغ أسرته ، حتى لا تصاب بهذا المرض .
الأمراض المعدية وموقف الشريعة من انتشارها : وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد " وفي رواية قال أعرابي يا رسول الله ، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيدخل بينها البعير الأجرب فيجربها ، قال : " فمن أعدى الأول " رواه البخاري ومسلم . وعن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثه أن رسول الله r قال : " لا يورد ممرض على مصح " .
كيفية فهم الحديث : ومن هذا يتبين لنا ما يلي :
أ – قوله r : " لا يورد ممرض على مصح " هو حديث صحيح وأنه لا ينافي ما جاء من قوله r : " لا عدوى .." في بعض الروايات التي جمعت بينهما (لا عدوى .. لايورد " .. أو يبين لنا معنى حديث " لا عدوى .." على الرواية التي لم يرد فيها " لا يورد ممرض على مصح " وهذا المعنى هو :
ب – إن المراد بنفي العدوى نفي أن شيئا من الأمراض يعدي بطبعه ردا على ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله تعالى .. وقد يكون ما ورد ـ إذا صح ـ من أكله عليه السلام مع المجذوم هو بيان لهم أن الله تعالى هو الذي يمرض ،وهو الذي يشفي ( وإذا مرضت فهو يشفين ) في الحقيقة .
ج – إن الإنسان مطالب بالأخذ بالأسباب الظاهرة ، دون الباطنة ، فما خفى علينا لا ننيط به الأحكام ،وإنما ننيطها ونربطها بما ظهر لنا وانكشف ولانضبط .. ومن هنا كان نهيه r عن الدنو من المجذوم ، ونهيهم أن يورد ممرض على مصح ، ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها ، ففي نهيه r إثبات الأسباب ، وفي فعله r إشارة إلى أن هذه الأسباب لا تستقل باستتباعها المسببات ، بل الله تعالى هو الذي إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئا ، وإن شاء أبقاها ، فأثرت .
د – إن قوله r : " وفر من المجذوم كما تفر من الأسد " تعبير رائع ، وبيان في أوج قمة البلاغة ، فقد احتوى على أمور نقتبس من هديها بعضا مما هدانا الله إليه:
1 – أن الجذام مرض معد ، وهذا المرض يجب علينا أن نبتعد عمن أصابه خشية العدوى ،
2 – أن الجذام هو أحد صور الأمراض المعدية ، يقاس عليها كل مرض معد ، وقد قال الفقهاء إنه يقاس عليه السل ، والدق ،والنقبة . ونقيس عليه أيضا كل مرض يقدر الأطباء أنه من الأمراض المعدية ، ففي هذه الحالة " لا يورد ممرض على مصح " .
3 – أن المريض بمرض معد ، عليه أن يتجنب الأصحاء ، حتى لا يعذبهم ، وكذلك أيضا على الأصحاء أن يتجنبوا مخالطة المرضى بمرض معد حتى لا يصيبهم ، ولا يترتب على ذلك انتشار المرض .
4 – إن كل ما يؤدي إلى انتشار الأمراض ، أو إصابة الأصحاء بأمراض ، هو أمر ممنوع ومحظور شرعا ، لأنه يعرض النفس للهلاك ، وتعريض النفس للهلاك منهي عنه شرعا لقوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) البقرة / 195 وقوله جل شأنه : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) النساء / 29 وللأحاديث التي أوردناها آنفا .
5 – إنه من أجل توقي انتشار الأمراض المعدية وحصر ضررها وحسر مدها وانتشارها يجب على الأطباء أن يعلموا المرضى بنوع مرضهم ـ تصريحا أو تلويحا وتعريضا حسبما تقرره حكمة الطبيب ودرايته بحالة مريضه النفسية والصحية والاجتماعية ـ وأنه يجب عليهم اتباع تعليمات محددة ، وميسرة واضحة .
6 – كما أنه يجب أن يعلموا الأجهزة المسئولة في الدولة عن الأمراض المعدية ، ويقصد بها ما يكون انتقالها إلى الغير سريعا ، ويعم خطرها ..
7 – أن بعض الأمراض المعدية والتي تتصل بالجهاز التناسلي ، والتي لها أبعاد كثيرة ، سواء من ناحية العلاقة بين الزوجين ، أو من ناحية انتقال المرض إلى الزوجة أو إلى حملها ..
في هذه الحالة أرى أن تخبر الزوج بما عنده ( تصريحا أو تعريضا حسبما تقتضيه حكمة الطبيب كما سبق بيانه ) ثم نخبر الزوجة أيضا ( تصريحا أو تعريضا ـ أيضا ـ ) .
وفي هذه الحالة يكون الطبيب قد أدى حق الله عليه ، لأنه بجانب أمانته على أسرار مرضاه هو أمين أيضا على صحة من يعلم أنهم يضارون بهذا المرض ، ولا بد من أن يكون علمه هنا يرقى إلى درجة اليقين أو يقاربها .
فمهمة الطبيب ومهنته رائدها سلامة المريض من مرضه ، ورائدها العمل على أن يكون الناس جميعا في صحة وارفة ، وعافية محققة ، وفي سبيل هذا الهدف يقف الطبيب أمام أي مرض معد حاجزا منيعا يحول بين هذا المرض ، وبين من يخاف عليهم من الإصابة به سواء كان زوجا وزوجه أو أبا أو أبناء أو أسرة أو أسرا ، إلى أن يعم الدولة جميعها .
وإن الذي يؤيد ذلك في الفقه الإسلامي أن الفقهاء ، كما أوجبوا على الإنسان الدفاع عن نفسه وعن ماله وعن عرضه .. وأباحوا له في سبيل ذلك النيل من الصائل ، أي الذي يبغي شيئا من ذلك دون وجه مشروع ، حتى ولو أدى ذلك إلى قتله إذا خيف هتك حرمات الله تعالى .
أوجبوا أيضا على من رأى شيئا من ذلك أن يدافعه ، ويبعده عن النيل من نفس الغير أو عرضه أو ماله …
فهل يقف الطبيب أمام خطر يهدد صحة إنسان بريء دون أن يحول بينه وبين هذا الخطر ، وقد يكون هو الشخص الوحيد العالم بذلك .. ومن ثم كان واجبا عليه أن يدفع هذا الشر إنقاذا لنفس من مرض معد أو نفوس .
وأيضا من ناحية أخرى وأخيرة ، فإننا إذا قارنا بين سكوت الطبيب عن الإبلاغ عن هذا المرض على الوجه الذي بيناه ، وبين تبليغه الزوجة أو من ماثلها على النحو الذي بيناه ـ وجدنا أن ما فعله الطبيب هو الواجب شرعا وعقلا ، وما سكت عنه ممنوع شرعا وعقلا ، حتى لا يقع الناس في المهلكة ، وبمقدورنا أن ننقذهم وننجيهم من هذا الشر .
والقاعدة الفقهية تقول : " اتباع خير الخيرين مطلوب ، واجتناب شر الشرين فيه مرغوب " .
أنواع الأسرار للدكتور توفيق الواعي : هناك :
أسرار عادية : الأسرار ليست في درجة واحدة فهناك من الأسرار ما تعد من العاديات التي لا يحدث إفشاؤها ضررا في الكرامة أو إهدارا لمصلحة أو تفويتا لمنفعة ولكنه مع ذلك يجمل ألا تفشى إلا بإذن صاحبها .
أسرار غير عادية : هناك نهي مغلظ عن أشياء معينة تدور كلها حول كشف سر المسلم وهتك ستره . من تلك الأشياء : تتبع عورة المسلم ، التجسس عليه ، رميه بالسوء ، الغيبة والنميمة ، عدم ستره فيما يفضحه وينزل به الكرب والمهانة .
فأما عن ستر المسلم وحفظ سره فيما يفضحه وينزل به الكرب . سواء عرف الإنسان هذا السر من أخيه عن طريق معين أو من صاحب السر نفسه فقد وردت في ذلك آثار تحتم كتمه وتؤكد عليه وترغب فيه . منها قول الرسول r : " من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " .
وقد تكلم العلماء المسلون على الستر ، وعلى علاقة الساتر بالمستور من حيث أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فقالوا إن الستر لا ينفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة بل يجب على الساتر أن ينصح المستور عليه وأن يبصره بعيبه ويطلب منه الامتناع عن المنكر إن كان في الأمر منكر
شروط المستور عليه : هذا وقد اشترط الإمام النووي أن يكون المستور عليه ممن ليس معروفا بالأذى والفساد فأما المعروف بالأذى والفساد فيستحب ألا يستر عليه ، لأن الستر عليه يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله وإنما يرفع أمره إلى ولي الأمر إن لم يخف من مفسدة يؤدي إليها هذا الإعلان .
شروط المستور : هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت ، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك ، ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر ، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة ، وهذا يعد من النصيحة الواجبة وليس من الغيبة .
الأمر الثاني ـ إذا جاهر بالمعصية : و ربما افتخر بالذنب فيجب كون الشهادة به أولى من تركها ، لأن مطلوب الشرع إخلاء الأرض من المعاصي والفواحش بالخطايات المقيدة لذلك وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين والزجر لهم ، فإذا ظهر حال الشره في الزنى مثلا والشرب وعدم المبالاة به وإشاعته ، فإخلاء الأرض المطلوب حينئذ بالتوبة احتمال يقابله ظهور عدمها ممن اتصف بها فيجب تحقيق السبب الآخر للإخلاء وهو الحدود بخلاف من زنى مرة أو مرارا مستترا متخوفا متندما عليه فإنه محل استحباب ستر المشاهد . حتى أن بعض العلماء أباح الكذب للستر على المسلم .
هذا وقد يكون إفشاء السر من الزوجين أو من أحدهما محرم : قال r " إن من أشد الناس عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها " .
حالات الأسرار وحكمها :
بعد هذا العرض الذي قدمناه ينبغي لنا أن نقدم حالات لأسرار معينة ثم نستعرض حكمها على ضوء النصوص الإسلامية .
الحالة الأولى : طلب المريض إفشاء السر: قد يطلب المريض من الطبيب أن يخبره بنوع المرض أو بنتيجة الكشف أو الأشعة أو بما يصير إليه أمره .
وفي هذه الحالة ينبغي أن يستجيب الطبيب لذلك ، ما دام المريض يعرف مصلحته ، وفي قواه العقلية ،وغير ناقص الأهلية . فهو صاحب المصلحة في ذلك ولا يكون هذا إفشاء بالنسبة إليه .
ولكن ما هو الحال . لو كان إفشاء السر للمريض سيزيده ألما أو سيقضي عليه أو يسبب له كارثة معينة أو يؤخر شفاءه .
وفي هذه الحالة ينبغي على الطبيب أن يكتم عنه هذا ، ويخبر أحد أقاربه ويوصيه بعدم إخبار المريض أو إذاعة السر إلا بما فيه مصلحة . ويتحمل قريبه هذا مسؤولية حفظ السر عن الطبيب .
الحالة الثانية : إفشاء السر لولي المريض أو لأحد الزوجين :
لا بأس بإفشاء السر لولي المريض لأن ولي المريض هو الذي يرعى أمره ، ولا بأس من ذلك . وكذلك لأحد الزوجين إذا كان ذلك في الأمور المشتركة التي تخصهما معا كالعقم أو العنة ، وليس له أن يبيح بأشياء المريض الخاصة إلا بإذنه كالأمراض الجنسية ، أو الحمل في حال عدم قدرة الزوج على الإنجاب .
الحالة الثالثة : إفشاء السر لمنع وقوع الجريمة : قد أوجب الفقهاء إفشاء السر منعا لوقوع جريمة ستقع كما لو جاءه رجل يطلب منه إسقاط حمل ، أو القضاء على مريض في عملية جراحية أو استشارته في أي الحقن تقضي على حياة مريض يريد أن يتخلص منه إلى غير ذلك . ففي هذه الحالة لا بد من إفشاء السر إلى الجهات المختصة بعد النصح والإرشاد . قال r :" من رأى منكم منكرا فليغيره " الحديث .
الحالة الرابعة : الحالات التي يكون الطبيب فيها حكما : ومن هذه الحالات ما إذا طلبت مثلا مصلحة حكومية أو شركة من طبيب أن يكشف على المراد تعيينهم وأن يذكر ما عندهم من أمراض تعيقهم عن العمل المراد . ففي هذه الحالة يكون الطبيب مؤتمنا وحكما فلابد أن يذكر الحقيقة ولا يأثم في ذلك والذاهب إلى الطبيب في هذه الحالة ، في حالة علم تام بذلك ويرتضيه وحتى إذا لم يرتض ذلك . فواجب الطبيب أن يظهر الحقيقة ولو كانت ضد رغبة المريض .
الحالة الخامسة : ما فيه حفظ للأمة ووقاية لها : هناك حالات معينة تعتبرها الأمة خطرا على الشعب كالأمراض المعدية التي تختلف من عصر إلى عصر ، ومن أمة إلى أمة .
فهذه الحالات يجب أن يبلغ الطبيب عنها حفاظا على الأمة وحفاظا على صحةالمريض ما أمكن : وقد وردت الآثار الإسلامية تبين الكثير من ذلك " فر من المجذوم فرارك من الأسد " . " إذا ظهر الطاعون في بلدة وأنتم فيها فلا تخرجوا منها وإذا كنتم في غيرها فلا تدخلوها " .
الحالة السادسة : الكشف عن جريمة وقعت :
هذه الحالة فيها بعض التفصيل فهي إما أن يكون الطبيب فيها حكما كما إذا استدعى من قبل الدولة للكشف عن الجريمة في رجل مقتول ، أو ميت يشك في أمره وهل في الأمر جناية أم لا . ففي هذه الحالة يكون حكمها مثل الحالة الرابعة . أما إذا كان الاستدعاء من المريض أو من أهل القتيل ،وتبين له أن في الأمر جريمة هل يبلغ الجهات المختصة أم يصمت ويصون السر ؟
في هذه الحالة : ليس الطبيب مكلفا بإبلاغ المسؤولين عن هذه الجريمة ، التي وقعت بل هو مطالب بالستر ، وقد طلب النبي r من هزال الذي جاء بماعز حين زنى : هلا سترته بثوبك . وهي جريمة عقابها الرجم والموت ، وقد وافق بعض القانونيين على هذا التوجه .
فقال رؤوف عبيد : " القاعدة العامة تفضي بتقديم النص الخاص ، لأنه استثناء من النص العام ، وبذلك يتقدم واجب كتمان السر على واجب التبليغ عن جرم واقع ، وينبني هذا الواجب على سببين : الأول أن الطبيب حينما يدعى إلى معالجة مريض فليس له من مهمة إلا بذل عنايته . والسبب الثاني أن الالتزام بكتم السر هو التزام مطلق وعام ولا يمكن أن يتحلل منه الطبيب أو يجبر على إفشائه إلا بنص قانون خاص ، والقانون قد استثنى من الالتزام بكتم السر ، إفشاء المعلومات إذا كان المقصود بها ارتكاب جناية أو جنحة لم تكن قد وقعت ، وجعل ذلك جوازيا ، رغبة منه في ترك إفشاء السر لتقدير الطبيب المؤتمن عليه . ولما كان ما استثناه القانون لا يجوز التوسع فيه ، لذلك لا يجوز للطبيب ، الذي علم بوقوع جريمة أو شاهدها على مريضه أن يبلغ عنها أو يشهد عليها ، مادام لا يوجد نص قانوني يجيزه أو يجبره على ذلك .
إفشاء سر المريض : وعلى هذا فإفشاء سر المريض غير جائز إذا كره المريض ذلك ولم يأذن بإفشائه .ويصنف إفشاء السر في هذه الحالة على أنه من النميمة أو الغيبة هذا إذا كان السر غير الفاحشة .. أما إذا كان فاحشة فلا يبوح به إلا بأربعة شهود على أن يكونوا رجالا كلهم عدولا أحرارا مسلمين يصفون الزنى ويعينون الزاني والزانية والمكان الذي تم فيه الزنى وأن يجيء الشهود كلهم في مجلس واحد ، وإلا حدوا حد القذف إن كانوا ثلاثة أو اختل أحد هذه الشروط .
وأما المسألة التي عندنا وهي : في حالة التأكد من أن الزوج عقيم ولا يمكن أن ينجب وحملت الزوجة بطريقة أو بأخرى . فلا يجوز للطبيب أن يقوم بإفشاء سر المريضة وإخبار الزوج أو الجهات المسؤولة ، لأنها متزوجة وربما وقع في علم الله ما لم يقع عليه الطب بعد وقد نهينا عن سوء الظن : " إياكم وسوء الظن ، فإن الظن أكذب الحديث " متفق عليه . ولأنه مكلف بالستر عليها في أمر مضى كما أخبر بذلك العلماء ، وأمر فيه شبهة ، وليس مع إثبات كما قدمنا في الكلام على الزنى .
ولأن حمل المرأة غير المتزوجة لا يصلح دليلا لإقامة الحد عليها إن وصل علم ذلك إلى الحاكم ولم يستر عليها ، قال ابن قدامة في المغني : إذا حبلت المرأة التي لا زوج لها ولا سيد ، لم يلزمها الحد بذلك وتسأل فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنى لم تحـد وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ، ثم قال وقد تحمل المرأة من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها ، ولهذا تصور حمل البكر ، فقد وجد ذلك ، وروى عن علي وابن عباس أنهما قالا : إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل : ولقوله عليه الصلاة والسلام : " ادرؤوا الحدود بالشبهات " .