جثـة على الطـريق

nanci taha

New Member
http://www.m33m33.com/vb/showthread.php?p=27618
وقف أمام المرآة يعدل من ملابسه كعادته كل يوم.. متأهباً للخروج إلي عمله.. وبينما يديه تعدل من هيئة رابطة عنقه توقف عن الحركة متأملاً
أطال النظر للمرآة وكأنه يرى نفسه للمرة الأولى
إنه في الحقيقة لم يكن ينظر إلى ملامح وجهه ولكنه كان ينظر إلى ذاته.. تلك الذات التي ترفض التغيير.. نقل عينيه من داخل أعماقه إلى هيئته الخارجية
إنها نفس رابطة العنق التي تعتصر عنقه أكثر من أن تهذب من هيئته.. انه ذات المعطف وذات القميص وذات الساعة وذات العطر
تَعَجَّبَ قائلاً في صمت: لِمَ هذا الروتين؟ لابد من التغيير.. كل شيء ينادي بضرورة التجديد والتغيير
وتساءل: لِمَ يكون التغيير بين يدي وأرفضه؟
توجه نحو خزينة ملابسه.. أطلق يديه ليخرج ملابس كان قد اشتراها منذ فتره ثم قنينة عطر لطالما قال ان عطرها صاخب وقد أخطأ يوم أن اشتراها.. وأيضاً ساعة اليد تلك التي كثيراً ما قال أنها أكثر ما أُهدي إليه شباباً وجنوناً لا يناسب شخصيته الهادئة
ألقى رابطة عنقه بعيداً ثم بدأ يخلع عنه الملابس التي ألِفها جسده بحركة سريعة.. ثم راح يرتدي ملابس أخرى جديدة عليه قديمة في الشراء.. وبسمة عريضة لم تفارق وجهه وربما كانت بسمة السخرية من أفعاله التي كان يراها غير مبرره.. لكنه كان يشعر بشيء من السعادة جعله يكمل ما عزم على فعله
أخيراً خرج صوته محدثاً ذاته: وليكُن يوم التغيير
ثم أطرق صامتاً يرسم ملامح هذا التغيير
لن أقرأ الجريدة.. لن أعبث في التلفاز.. لن ألقي بتحية الصباح على جاري الذي ألقي التحية عليه قبل أن أراه ويردها هو قبل أن يسمعها
أغلق الباب خلفه بقدمه كما لم يفعل من قبل.. وجد جاره في وجهه نظر إليه ثم ابتسم وحول نظره إلي الدرج ورغم أنه لم ينطق تحية الصباح جاء رد تلك التحية من جاره كما توقع
طوى درجات السلم في قفزات معدودة وما أن نزل إلي الشارع نظر أمامه ثم قال في نفسه: كما سأغير هذا الطريق الذي اعتادني واعتدته ذهاباً إلى العمل وإياباً منه.. قد يكون الطريق الآخر بعيداً بعض الشيء ولكن لم لا نراه؟
وبالفعل مضت خطواته المسرعة قدماً نحو ذلك الطريق, تلك الخطوات التي دوماً ما كانت اهدأ الخطوات
لا يعرف لماذا جاء صوت دقات قلبه عالية, حاول أن يخفي صوتها بأن يردد إحدى الأغنيات التي لطالما يغنيها ولكن لسانه هو الآخر طلب التغيير فراح يغني أغنية لم يكن يعرف انه يحفظها ويتقنها بهذا الشكل فهو لم يرددها يوماً
ما أجمل هذا الشارع بما فيه من سيارات وحركة من البشر
قالها ليسمع أذنيه بها وكأنه يريد أن يقول لنفسه أنه على حق في التغيير
*********
وبينما هو سائر إذا بصوت دافئ يناديه: سيدي.. عفواً.. سيدي
التفت باحثاً عن مصدر الصوت.. نظر فإذا بها فتاة في العشرينات من عمرها.. ملامحها الجميلة وروحها المرحة تسبق خطواتها فتأتي إلى الدنيا بنور غير نور الشمس وعبير أروع من عبير الزهر
توقف صامتاً حتى تقترب منه ويتبين ماذا تريد
ألقت التحية بصوت رقيق فردها بصوت مكتوم
مدت يدها بورقة تحمل عنوان وطلبت منه أن يرشدها إليه.. وكم تعجّب.. انه عنوان الشركة التي يعمل بها, أخبرها الطريق بكلمات مشوهه فقد كان عبير عطرها بمثابة مخدر أفقده القدرة على خروج ألفاظه واضحة
وحتى دون هذا العطر كان بداخله يعرف سر تعطل قدرته علي الحديث بطلاقه فعالم المرأة أغرب العوالم وأبعدها عنه.. فهو رغم أنه في الثلاثين من عمره لم تدخل حياته إمرأة بعد رحيل أمه سوى خادمته العجوز التي تحتاج إلى من يقوم بخدمتها والتي تأتيه مرة كل أسبوع لترعى شئون منزله في عُجالة وكثيراً ما تمرض ويتحول سريره سريراً لها ويتحول هو خادمها إلى أن تسترد عافيتها.. وكثيراً ما كان يقول أنه وهذه الخادمة جزعين من شجرة واحدة اسمها الوحدة
أخبرها الطريق ولم يعرض عليها أن يصحبها.. شكرته وسارت أمامه ولا يعرف لِمَ أصبحت خطواته أبطأ وأبطأ وكأن خطواته تريد أن تبعد المسافة بينهما ولكنه فجأة صرخ في وجه ذاته: ولم لا.. ؟
فهتف بسرعة منادياً إياها: سيدتي.. سيدتي
ثم اقترب قائلاً: إنني أعمل في ذات الشركة ما رأيك لو اصطحبتك إلى هناك؟
جاءت الكلمات منه أكثر وضوحاً من سابقتها عندما كان يصف الطريق
وأجابته بقبول العرض بكل طلاقة وثبات وفي الطريق تجاذبا أطراف الحديث وعرف أنها ستكون موظفة الاستقبال في تلك الشركة.. كما عرف أنها انتقلت للعيش هنا منذ أيام قلائل بصحبة والدتها وأن هذا الطريق سيكون طريقها كل يوم ولم ينتهي الحديث وتم الاتفاق على العودة سوياً
وها هو يجلس سارحاً في عمله متعجباً من ذاته التي استجابت للتغير بشكل أسرع مما كان يتخيل.. وراح يتذكر كل كلمة قالتها
مرت الساعات وتقابلا عائدين واستكملا حديثهما الذي طوى الطريق ولم ينتهي بعد وتواعدا على اللقاء في الغد.. وهكذا كل يوم يطوي حديثهما الطريق ذهاباً وإياباً دون أن ينتهي
*********
وتمر الأيام ودرجة التغيير تزداد حدة.. خاصةً بعد موافقتها بأن يتقابلا بعد العمل في إحدى الحدائق القريبة.. وكان كلما وجد في عينيها سعادة لتصرفاته المرحة تمادى في طيشه لدرجة الجنون
وتحول لسانه المعقود إلى مطرباً.. وجسده الهادئ ممثلاً.. وروحه فراشةً لا تتوقف عن التحليق.. تناسى ساعته القديمة ورابطة عنقه وذاك الطريق الآخر الذي ربما كان الأقرب والأكثر هدوءا ولكنه راح يمقته يوماً بعد يوم
كانت دوماً تحدثه عن إعجابها بجنونه وطيشه فكان يطرق في صمت وينظر داخله: هل أنا حقا كذلك.. ؟
وكانت كلمات الإعجاب تلك تدفعه أكثر وأكثر للجنون
كانت في عينيه ساحة للهو والمرح يعيش فيها ما لم يعرفه من قبل من الحرية.. وكان في عينيها الصديق والأنيس في بلد لا تعرف فيه أحد سواه
مرت شهور على هذا الحال وحبها يتسرب داخله دون أن يشعر.. وعندما تمكن منه هذا الحب عزم على مصارحتها.. لم يقترب النوم من عينيه في تلك الليلة
وجاء الصباح متأخراً على غير عادته.. تقابلا فإذا بلسانه قد عادت عقدته من جديد ومضى الطريق سريعاً كعادته بصحبتها ولكن هذه المرة وهو صامت تماما.. ومضى وقت العمل وهو يفكر فيها ولا بشيء غيرها.. وفي طريق العودة استجمع قواه بعد طول عناء وبدأ يتحدث عن حبه إياها وطلبه لتكون شريكته في حياته
وجاء ردها على مهل
وراحت تطيل في مقدمات لا طائل منها تعبر له عن مدى سعادتها بقربه وإعجابها بشخصيته المرحة في بعض الأحيان المجنونة في أغلب الأحيان
كان قلبه يرتجف من تلك المقدمة التي رسمت الجواب رفضاً قبل أن يأتي.. فطلب منها الجواب سريعاً وأنه لا داعي لتلك المقدمات
وجاء ردها بقليل الكلمات يفيد أنه قد يكون الأنسب لعلاقتهما أن تظل في إطار الأخوة والصداقة فإن صفاته المرحة المليئة بالجنون والعبث لا تتفق مع صفات رجل أحلامها الذي تمنت فيه من الهدوء والاتزان ما لم تجده في شخصه.. وطلبت منه ألا يتضايق وأكدت له أنه سيبقى أعز صديق
تثاقلت خطواته بينما تسارعت خطواتها فافترقا قبل أن ينتهي الطريق... وسار وحيداً إلى منزله يتذكر حديثها ساخراً من نفسه صامتاً باكياً واجماً
صعد إلى شقته يقتله درج السلم.. ألقى بالتحية إلى جاره فلم يردها
أدار المفتاح في الباب فكأنما كان يديره في رأسه.. دخل إلى غرفته.. ألقى ملابسه عنه ثم خبّأ جسده بين طيات غطاءه وراح يبكي
*********
ومضى اليوم وجاء الصباح
وها هو يعدل من رابطة عنقه أمام المرآة ويمد يديه ليأتي بالمعطف وقنينة العطر الهادئة ثم يخرج في بطء ليقابل جاره.. يلقي بالتحية فيردها
نزل متجها بخطواته الهادئة إلى طريقه القديم فإذا بأحد المارة يوقفه ويخبره أنه ربما كان من الأجدر له الذهاب إلى عمله من الطريق الأخر إذ أن هناك حادثاً وأسفر عن جثة ملقاة ببشاعة على الطريق
فأجابه: إنك لمخطيء يا سيدي بل إن الجثة ملقاة منذ أمس على الطريق الذي تنصحني بالذهاب منه
 


يعطيك العافية

وأسأل الله أن يوفقك في حياتك العلمية والعملية

\ \ \
 
عودة
أعلى