●¦[ الــفـــارس ]¦●
Well-Known Member
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طائر وحيد
...
قصة : أحمد رجب شلتوت
_ 1 _
خبطت على صدرها بكفها لما أتاها النبأ . اتهمت زوجها :
- أنت المسئول . فلينتقم الله منك يا بن بهانة .
صامتًا تابعها وهي تسب وتلعن . تملأ وعاء بالماء . تزفر بضيق وهي تتعجل الماء المتدفق من فوهة الطلمبة . تصب الماء على رأسها . يخرج عن صمته :
- لم تجف الحناء بعد .
تواصل غسل الحناء عن شعرها ، وتعيد اتهام الرجل :
- أنت المسئول . محمود بن الغلبانة سيموت بسبب طيارتك يا بوطيارة .
لا يحب رائحة الحناء . هي تحبها وتلجأ إليها كثيرًا . تتحدث دائمًا عن فائدة الحناء لعلاج أوجاع الرأس كما أنها سنة عن الرسول ( ص ) . يرغب في إغاظتها :
- ليسا الصداع والسنة يا وطفة .
- أفتنا أفادك الله .
- الشعر الأبيض يا وطفة تريدين إخفائه خلف لون الحناء .
يدرك أنه أفلح في إغاظتها فيواصل :
- عجينة الحناء فوق رأسك تذكرني بأمك حينما وضعت الطين فوق رأسها يوم استشهاد أخيك .
- عقبال ما أشيل الطين عليك يا سعيد يا بن بهانة .
تنطقها وهي تسدل الثوب الأسود . تغطى رأسها بشال أسود أيضًا . يسألها :
- إلى أين ؟
- إلى المستشفى لأكون بجوار هنية . ابنها الوحيد فوق ثلاث بنات سيموت بسببك . ليته ينجو وترحل أنت .
- وهل تحلو لك الحياة بدوني .
- لا تحلو إلا بدونك .
- تكذبين .
- أتعرف لن ألبس الأسود عليك إلا يومين فقط .
يضحك فيزداد غيظها :
- أتعرف يا سعيد ؟ . بماذا تذكرني ؟ أنت مثل الساقية التي لا تدور . أتذكر بتوع السيما حينما صوروا فيلمًا في أرضنا . لم يجدوا الساقية التي يريدونها فأرضنا الآن نرويها بالمكن . يومها صنعوا ساقية من الخشب والكرتون . ساقية كده وكده لا تدور ولا تجلب الماء . أنت يا سعيد تذكرني بهذه الساقية .
* * *
كالعادة تغلبه فيلزم الصمت .
ولما تنتهي تصفق الباب خلفها بشدة ويحبو سعيد صاعدًا إلى السطح ..
- 2 -
سعيد الكسيح لا عمل له .
في طفولته أصابه المرض فأتلف ساقيه . لم يذهب إلى المدرسة . إستعاض الأب بشيخ الكتاب .
يأتي الشيخ كل يوم قبل المغرب بساعة . يكن سعيد قد عاد من الحقل . ينزله الأب من فوق الكارو . يحبو داخلاً البيت . تغسل له الأم يديه ووجهه . تغير جلبابه ويجلس منتظرًا قدوم الشيخ .
* * *
حفظ سعيد سبعة أجزاء من القرآن في زمن قياسي لكن غلظة صوته قضت على حلمه بأن يصير مقرئًا للقرآن . فقد حماسه لما أدركه اليأس فلم يكمل حفظ الجزء الثامن ، فأضاع على البيت فرحة حفل ختم القرآن ، وأضاع على الشيخ الجبة الصوفية التي وعده الأب بها .
* * *
أقلع الشيخ عن عادته في الحضور لكن سعيدًا واصل الرجوع من الحقل قبل المغرب بساعة أو يزيد . لم يعد ينتظر الشيخ . يحبو صاعدًا الدرج الحجري . لا يدخل الحجرات إلا عند النوم . يقضي الوقت منذ الغروب وحتى إنتصاف الليل في ذلك المربع بين السور الخشبي للسلم والحجرات . مربع طول ضلعه أربعة أمتار . بيسمونه " الحصير " .. مساحته هي مساحة عالم سعيد .
يرقد سعيد فوق الحصير شاخصًا في الحقل فمن أين تأتي ؟ خاصة تلك التي تسميها أمه " وز عراقي " تظل في طيرانها صامتة حتى تصبح فوق البيت . ترى سعيدًا فتناديه . يمد ذراعيه كما لوكنا جناحين . يحاول تقليد الصوت لكن الوز العراقي يواصل رحلته ولا يأبه لرد سعيد .
يفكر أن يقلل المسافة بينه والطيور . فليصعد إلى السطح . يحبو باتجاه السلم الخشبي . يمسك بأولى الدرجات محاولاً الاستناد عليها ليقوم ، لكنه لا يستطيع . لا يصل أبدًا للدرجة التالية مهما حاول . يرمق السطح بأسى . ينادي الطيور التي لم تعد في سمائه . يحبو مبتعدًا عن السلم . يعود لرقاده فوق الحصير شاخصًا نحو السماء .
* * *
يسأله الأب ساخرًا عن عدد النجوم فيرد بتقليد صياح الوز العراقي . تندب الأم حظها فالابن الذي رجته من الدنيا فقد عقله بعد ساقيه . تبخره وترقيه فلايكف . تهمس في أذنها جارة باسم جارة أخرى لم يفلح ابنها في حفظ أية من القرآن . تأتي الأم بقطعة كبيرة من شيء تدعوه " شبة " وتأتي بورقة ومقص . تقص الورقة على شكل عروسة . من صدر جلبابها تنزع إبرة وتثقب الورقة ثقوبًا بعدد الجارات اللائي رأين سعيدًا ولم يصلين على النبي . تمتليء الورقة بالثقوب . فتوقد الأم النار . تحرق الشبة . يتسلى سعيد بمتابعة الشبة المحترقة في تحولاتها . تتخذ أشكالاً عدة ، وترى الأم في كل شكل صورة لحاسدة محتملة . تكمل الأم علاجها ، فتحرق العروس الملأى بالثقوب ثم تمسك برمادها تعجنه مع بقايا الشبة المحترقة ، وترسم بها على جبهة سعيد صلبانًا بينما شفتاها تتمتمان بـ " قل أعوذ برب الفلق .. "
-
– 3
اقترح الأب أن يزوج سعيدًا ، فاختارت الأم " وطفة " . إعترض الأب :
- ألم تجدي إلا بنت الكلاف .
- ما لها ؟
- أصلها مثل وشها .
ردت بحسرة :
- الجميلة بنت الأصول لن تقبل بسعيد زوجًا.
* * *
رفض سعيد الزواج . بكى ورفض العودة من الحقل . سألته الأم عن السبب فطلب بيتًا في الخلاء . رضخ الأب بنى حجرة واحدة بجوار الحقل .
الدرج الحجري يقود سعيدًا مباشرة إلى السطح ، فلا يغادر إلا حينما تلهبه شمش الظهيرة بينما وطفة تعمل في الحقل أو ترعى دجاجاتها في البيت .
لا عمل لسعيد إلا مراقبة الطيور ومناداتها . حتى تلك الطيور الورقية يناديها . أحبها وصاحب صناعها . علموه فصنع لنفسه واحدة . أعجبته فصنع غيرها . أتقن صنع طائرات الورق فأشتهر بها . أشارت عليه وطفة :
- ما دمت قد أفلحت في شيء فلماذا لا تكسب منه ؟
- 4 –
يتعجب سعيد لأمرها . شجعته على صنع الطائرات بغرض بيعها وهاهي تلومه الآن . ما ذنبه لو مات محمود بن هنية .
يحبو سعيد صاعدًا الدرج . لم يزل الجو ساخنًا لكنه لا يهتم . في الركن أدوات صناعته . يشرع على التو في صنع طائرة كبيرة ، بطول البوصة كلها .
يتخيل الشكل فيفرح . ستكون طائرة ليس كمثلها طائرة . سيفاجيء بها وطفة . سيمد الطائرة بكل مالديه من خيط ويطيرها حتى مستشفى البندر لتراها وطفة وهنية ومحمود .
الهواء يحمل الطائرة وسعيد يرخي لها الخيط . تعلو الطائرة وتبتعد . ينتشي سعيد ويصيح كالوز العراقي .
تبعد الطائرة وتصغر . تبعد وتشد الخيط بقوة . يرقب سعيد طائره ويتمنى لو كان هو الطائر .
آه لو ينظر – ولو لمرة واحدة – إلى البيوت والحقول من فوق . يرى السطح صغيرًا ووطفة لا تبين .
يصيح مقلدًا كل الطيور . بينما طائره يبتعد ويشده ، يناديه .. يحرك ذراعيه كما لوكانا جناحين . يحبو باتجاه حافة السطح . طائره يشده .. يناديه . يناديه .. ولا يملك سعيد إلا أن يلبي النداء ...