●¦[ الــفـــارس ]¦●
Well-Known Member
جنون السالب والموجب
كانت ظهيرة حارقة تحت تلك الأشعة الصفراء. وكانت (المكيفات) تعمل بكل مجهودها لتخفف وطأة الحر الشديد على وجوه أولئك الأطفال الصغار. ذاك حينما دخل الأب على وجهه علامات التعب والغضب في آن واحد.
"تجلس إلى مكتبك يا أبا فلان؟ ألن تتناول غدائك وتستريح قبل ذلك؟" قالتها الأم راسمة استغرابا وتعجبا على حاجبيها. ففي كل تلك السنين الماضية، لم تستطع كل ظروف الحياة القاسية أن تجعل من هذا الرجل المجد في عمله أن يدخل آثار التعب أو مشاكل العمل إلى بيته. فلطالما ترك خارج الدار ما ينغص حياة هذه الأسرة المطمئنة.
"لا أشتهي الطعام يا أم فلان. كلي أنتِ مع الأطفال اليوم." أجابها الأب صارفا نظره عنها وكأنه يحاول أن يخفي ما بدا على وجهه جراء الكلام.
شهقت الأم شهقة وتابعت وكأن مس جن أصابها: "أي مكروه أصابنا؟ ماذا جرى؟". أمسك الأب يد زوجته وهزها، وعنفها وشدد في صوته قائلا: "لا تصرخي، ويلك، لم يجر ِ شيء وما من كروه، لا تخافي وتذعري فالأطفال يسمعون".
أحست الزوجة بصدق كلامه فارتاحت نفسها وهدأت، غير أنها لم تكتم استغرابها لوجومه وكتمانه أمرًا هزّه من داخله، وكأنه رأى فاجعا. فقالت: "لن أسألك، وليس من عادتك أن تخفي عني شيئا، ولكنك لست مستعدا للكلام الآن، وأظنك تريدني أن أتركك وشأنك الآن". فهز الأب رأسه وكأنه يستسلم لسيف سوف يقطع رقبته عما قريب، فلقد أحس بحاجته إلى الكلام بعد فوات الأوان.
"لماذا على كل شيء أن يعكر صفو مزاجي؟ لماذا لا أكون كغيري من الناس؟ لماذا علي أن أحس وحدي بثقل هذه الحياة وبشاعة أفاعيلها؟ هل خلقت من طينة لا تشبه طينة غيري من الناس؟" كان الأب غارقا في تفكيره وتساؤلاته حينما انتفض قائلا: "كلا، ليس الذنب ذنبي! ولست على خطأ من أمري، انا على صواب، أنا على صواب. هم الذين استمروا الخطأ واعتادوه وأصبح عندهم صوابا لا شك فيه! هم الذين لم يقدروا الصواب فوضعوه في موضع الخطأ. هم كرسوا طاقاتهم ليستمروا في الحياة حتى ولو كانت هذه الحياة باهتة لا معنى لها. تلك الحياة التي لا تستحق أن يحافظ عليها العاقل. تلك الحياة التي تشبه جهنم، غير أن جهنم محسوبة على العذاب وهذه الحياة محسوبة علينا، وهذا ما يقولونه دائما، إحمد الله، ما زلت حيا، إنك لم تمت بعد! تبا للحياة."
رفع سماعة الهاتف ضاربا عليها أرقاما في عجلة. "أين أبوك؟" سأل ابن صديق من أصدقائه. تلقى الصبي كلماته مندهشا، متسائلا .. "لماذا لم يلق التحية، هل هو منزعج مني يا ترى".. ثم نادى: "أبي، هنالك من يطلبك على الهاتف على عجل".
أحس الأب بجفافه مع الصبي. فبادر معتذرا للصبي: "لا تؤاخذني يا ابن أخي، إنني غاضب قليلا".
وعلى الطرف الآخر من الهاتف أجاب صوت: "منذ متى يا أبا فلان أكون ابن أخيك؟" وتابع كلامه بضحكة. "إضحك. لماذا لا تضحك؟ فهل في مقدورك أن تحس بالخطر؟ فلماذا لا تضحك. أنت مسؤول أكثر من غيرك عن هذا. أنتم السبب الرئيس. أنتم السبب الرئيس." أجابه الأب بصوت صارخ.
وفي هذه الأثناء، دب وجوم قاتل على الهاتف، وكأن الهاتف أصبح معرضا للصمت والسكوت. وأخذ يجول في خاطر كل منهما أفكار وأفكار. وطالت المدة حتى عاد من الصعب أن يستأنف أحدهما الحديث.
قال الصديق: "فلنتحدث مساء في بيتي، إنني في انتظارك بعد رجوعي من مسجدي بعد العشاء، فمع السلامة."
"مع السلامة".
وفي انتظار المساء، أخذ كل منهما وقتا طويلا في التفكير فيما سيتحدث عنه كل منهما في ذلك اللقاء المتشنج الثقيل. وكان في أثناء ذلك تحقيق طويل بنظرات الأم الكثيرة التي تتسائل فيما بينها وبين نفسها عما دها ذلك الأب الحنون. "لقد كان يخفي كل ذلك فيما مضى. كان إذا أحس بألم عض شفته لئلا أسمعه يتوجع ويتأوه رحمة بي وإشفاقا علي. لقد أكبرته على ذلك. كيف ذهب ذلك؟ هل سمع عني مكروها جعله يبغضني؟ هل أصبح عقابه لي بأن يشعرني بآلامه؟ أم أنني مصدر الألم الذي أصابه؟ أواه!"
وتمضي الساعات وفي مضيها زيادة انشغال بال وشدة ترقب وتوتر. وبعد غياب الشفق تماما أقبل على إمام المسجد رجل يلف نفسه بعباءة سوداء ملثما بوشاح فضي يسير بين الناس إلى الإمام وكأنه سهم يعرف طريقه إلى هدفه تماما. حياه تحية فاترة وقال: "سأقول لك ما حدث باختصار، أرجو أن تكونوا عونا للناس لا ثقلا عليهم، تابعوا أمورهم الخاصة. علموهم ولا تجعلوا خطبكم دروسا في الفقه فقط. كنت فالمدرسة اليوم. جلست مع بعض زملائي المعلمين وتجاذبنا أطراف الحديث. كانوا يتحدثون عن بديع صنع الله في النفط، وكيف أنه ثروة لا تقدر بثمن، وكيف استخرج منه الإنسان مشتقات تفيده في حياته كثيرا. وكان أحد الزملاء منطلقا في الحديث حتى قال: "حتى حليب البودرة، تصوروا، حليب البودرة الذي نخلطه بالماء ونسقيه لأطفالنا." وعندما رأى دهشتي وحملقة عيني فيه قال لي مستغربا بإنكار شديد: "هو انته مابتعرفش ان حليب البوضرة من مشتئات البترول؟"
فما رأيك في هذا المعلم؟ وما رأيك في هؤلاء الأطفال؟ إنهم يتعلمون الجهل. وحينما يكبرون على هذه الحال يصبح الموت حلما. فالحياة بين هكذا أفراد يجب أن تنتهي!
*"هو انته مابتعرفش ان حليب البوضرة من مشتئات البترول؟" أكثر ما لا يمكن توقعه من مدرس للغة الإنجليزية في إحدى مدارس الكويت، ويا للأسف. حفظ الله أطفالنا مما يتعلمونه من هؤلاء الجهال ذوي الثقافة المزيفة.
"تجلس إلى مكتبك يا أبا فلان؟ ألن تتناول غدائك وتستريح قبل ذلك؟" قالتها الأم راسمة استغرابا وتعجبا على حاجبيها. ففي كل تلك السنين الماضية، لم تستطع كل ظروف الحياة القاسية أن تجعل من هذا الرجل المجد في عمله أن يدخل آثار التعب أو مشاكل العمل إلى بيته. فلطالما ترك خارج الدار ما ينغص حياة هذه الأسرة المطمئنة.
"لا أشتهي الطعام يا أم فلان. كلي أنتِ مع الأطفال اليوم." أجابها الأب صارفا نظره عنها وكأنه يحاول أن يخفي ما بدا على وجهه جراء الكلام.
شهقت الأم شهقة وتابعت وكأن مس جن أصابها: "أي مكروه أصابنا؟ ماذا جرى؟". أمسك الأب يد زوجته وهزها، وعنفها وشدد في صوته قائلا: "لا تصرخي، ويلك، لم يجر ِ شيء وما من كروه، لا تخافي وتذعري فالأطفال يسمعون".
أحست الزوجة بصدق كلامه فارتاحت نفسها وهدأت، غير أنها لم تكتم استغرابها لوجومه وكتمانه أمرًا هزّه من داخله، وكأنه رأى فاجعا. فقالت: "لن أسألك، وليس من عادتك أن تخفي عني شيئا، ولكنك لست مستعدا للكلام الآن، وأظنك تريدني أن أتركك وشأنك الآن". فهز الأب رأسه وكأنه يستسلم لسيف سوف يقطع رقبته عما قريب، فلقد أحس بحاجته إلى الكلام بعد فوات الأوان.
"لماذا على كل شيء أن يعكر صفو مزاجي؟ لماذا لا أكون كغيري من الناس؟ لماذا علي أن أحس وحدي بثقل هذه الحياة وبشاعة أفاعيلها؟ هل خلقت من طينة لا تشبه طينة غيري من الناس؟" كان الأب غارقا في تفكيره وتساؤلاته حينما انتفض قائلا: "كلا، ليس الذنب ذنبي! ولست على خطأ من أمري، انا على صواب، أنا على صواب. هم الذين استمروا الخطأ واعتادوه وأصبح عندهم صوابا لا شك فيه! هم الذين لم يقدروا الصواب فوضعوه في موضع الخطأ. هم كرسوا طاقاتهم ليستمروا في الحياة حتى ولو كانت هذه الحياة باهتة لا معنى لها. تلك الحياة التي لا تستحق أن يحافظ عليها العاقل. تلك الحياة التي تشبه جهنم، غير أن جهنم محسوبة على العذاب وهذه الحياة محسوبة علينا، وهذا ما يقولونه دائما، إحمد الله، ما زلت حيا، إنك لم تمت بعد! تبا للحياة."
رفع سماعة الهاتف ضاربا عليها أرقاما في عجلة. "أين أبوك؟" سأل ابن صديق من أصدقائه. تلقى الصبي كلماته مندهشا، متسائلا .. "لماذا لم يلق التحية، هل هو منزعج مني يا ترى".. ثم نادى: "أبي، هنالك من يطلبك على الهاتف على عجل".
أحس الأب بجفافه مع الصبي. فبادر معتذرا للصبي: "لا تؤاخذني يا ابن أخي، إنني غاضب قليلا".
وعلى الطرف الآخر من الهاتف أجاب صوت: "منذ متى يا أبا فلان أكون ابن أخيك؟" وتابع كلامه بضحكة. "إضحك. لماذا لا تضحك؟ فهل في مقدورك أن تحس بالخطر؟ فلماذا لا تضحك. أنت مسؤول أكثر من غيرك عن هذا. أنتم السبب الرئيس. أنتم السبب الرئيس." أجابه الأب بصوت صارخ.
وفي هذه الأثناء، دب وجوم قاتل على الهاتف، وكأن الهاتف أصبح معرضا للصمت والسكوت. وأخذ يجول في خاطر كل منهما أفكار وأفكار. وطالت المدة حتى عاد من الصعب أن يستأنف أحدهما الحديث.
قال الصديق: "فلنتحدث مساء في بيتي، إنني في انتظارك بعد رجوعي من مسجدي بعد العشاء، فمع السلامة."
"مع السلامة".
وفي انتظار المساء، أخذ كل منهما وقتا طويلا في التفكير فيما سيتحدث عنه كل منهما في ذلك اللقاء المتشنج الثقيل. وكان في أثناء ذلك تحقيق طويل بنظرات الأم الكثيرة التي تتسائل فيما بينها وبين نفسها عما دها ذلك الأب الحنون. "لقد كان يخفي كل ذلك فيما مضى. كان إذا أحس بألم عض شفته لئلا أسمعه يتوجع ويتأوه رحمة بي وإشفاقا علي. لقد أكبرته على ذلك. كيف ذهب ذلك؟ هل سمع عني مكروها جعله يبغضني؟ هل أصبح عقابه لي بأن يشعرني بآلامه؟ أم أنني مصدر الألم الذي أصابه؟ أواه!"
وتمضي الساعات وفي مضيها زيادة انشغال بال وشدة ترقب وتوتر. وبعد غياب الشفق تماما أقبل على إمام المسجد رجل يلف نفسه بعباءة سوداء ملثما بوشاح فضي يسير بين الناس إلى الإمام وكأنه سهم يعرف طريقه إلى هدفه تماما. حياه تحية فاترة وقال: "سأقول لك ما حدث باختصار، أرجو أن تكونوا عونا للناس لا ثقلا عليهم، تابعوا أمورهم الخاصة. علموهم ولا تجعلوا خطبكم دروسا في الفقه فقط. كنت فالمدرسة اليوم. جلست مع بعض زملائي المعلمين وتجاذبنا أطراف الحديث. كانوا يتحدثون عن بديع صنع الله في النفط، وكيف أنه ثروة لا تقدر بثمن، وكيف استخرج منه الإنسان مشتقات تفيده في حياته كثيرا. وكان أحد الزملاء منطلقا في الحديث حتى قال: "حتى حليب البودرة، تصوروا، حليب البودرة الذي نخلطه بالماء ونسقيه لأطفالنا." وعندما رأى دهشتي وحملقة عيني فيه قال لي مستغربا بإنكار شديد: "هو انته مابتعرفش ان حليب البوضرة من مشتئات البترول؟"
فما رأيك في هذا المعلم؟ وما رأيك في هؤلاء الأطفال؟ إنهم يتعلمون الجهل. وحينما يكبرون على هذه الحال يصبح الموت حلما. فالحياة بين هكذا أفراد يجب أن تنتهي!
*"هو انته مابتعرفش ان حليب البوضرة من مشتئات البترول؟" أكثر ما لا يمكن توقعه من مدرس للغة الإنجليزية في إحدى مدارس الكويت، ويا للأسف. حفظ الله أطفالنا مما يتعلمونه من هؤلاء الجهال ذوي الثقافة المزيفة.