البرق الأبيض
New Member
بعد خمس سنوات على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول يستطيع المراقب أن يرصد تحولات الخطاب والمواقف بين القاعدة والولايات المتحدة، ومدى النجاح الذي حققه الطرفان في سياق طرحهما للمواجهة الدائرة بينهما.
جذور المواجهة
من الصعب اعتبار 11 سبتمبر/ أيلول 2001 هو تاريخ اندلاع المواجهة بين القاعدة والولايات المتحدة الأميركية، فقد كانت المواجهة قائمة بين الطرفين قبل ذلك بسنوات، تحديدا منذ إعلان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري عن تشكيل الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين في يناير/ كانون الثاني 1998.
بل إن مزيدا من التدقيق قد يفضي بنا إلى أن المواجهة قد بدأت منذ طرد أو إخراج أسامة بن لادن من السودان، ودفعه إلى العودة إلى أفغانستان عام 1996، ومن ثم مبايعته للملا محمد عمر والشروع في تفكير جديد يتمثل في اعتبار الولايات المتحدة أصل الشرور في المنطقة، وأنها هي لا غيرها العدو الألد للأمة الإسلامية، ليس فقط تبعاً لاستهدافها الإسلام والمسلمين، بل أيضا بسبب دعمها للأنظمة الفاسدة في العالم العربي التي تقوم بمهمة المواجهة مع الظاهرة الإسلامية.
من عمليات نيروبي ودار السلام أغسطس/ آب 1998 إلى عملية المدمرة كول في ميناء عدن عام 2000، أطلق أسامة بن لادن حربه ضد الولايات المتحدة.
"
حرب الولايات المتحدة على القاعدة تحت مسمى الحرب على الإرهاب كانت قائمة قبل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، لكنها أخذت شكلا آخر بعد ذلك التاريخ
"
وفي الإستراتيجية الكامنة تقول أدبيات القاعدة إن أسامة بن لادن قد سعى إلى استدراج الولايات المتحدة إلى ساحات قريبة يكون بوسعه استنزافها فيها استنادا إلى تجربة ضرب الإمبراطورية السوفياتية في أفغانستان، وفي استعادة تجربة هزيمة الولايات المتحدة في الصومال.
ومما ينقله بعض القريبين من دوائر حركة طالبان والقاعدة أن الملا محمد عمر كان على علم بهجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وأنه وافق عليها قناعة منه بأن الحرب على دولته وصولا إلى إسقاطها كانت واقعة لا محالة تبعا لرفضها التبعية للخيارات الأميركية.
خلاصة القول أن حرب الولايات المتحدة على القاعدة تحت مسمى الحرب على الإرهاب كانت قائمة قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول، لكنها أخذت شكلا آخر بعد ذلك التاريخ.
بل إن كثيرين يرون أنه ما كان لتلك الهجمات أن تغير شيئا في طبيعة التحولات التالية حتى لو لم تقع، لاسيما بعد فوز جورج بوش برئاسة الولايات المتحدة وسيطرة عصابة المحافظين الجدد على قرارها السياسي.
الحرب على الإرهاب بعد فوز بوش
من المؤكد أن هجمات سبتمبر/ أيلول قد وفرت لخطاب المحافظين الجدد، أو لنقل لبرنامجهم المعد مسبقا فرصة الانطلاق، لكن الأكيد أيضا هو ما أشرنا إليه سابقا، أعني أن عدم وقوع تلك الهجمات، أو لنقل وقوعها بشكل آخر أقل قوة ودموية لم يكن ليغير في البرنامج المذكور الذي كان قد تبلور كفكرة منذ العام 1997 في سياق ما عرف بمشروع قرن إمبراطوري أميركي جديد، وقبله رسالة المحافظين الجدد لرئيس الوزراء الإٍسرائيلي بنيامين نتنياهو في العام 1996.
خلاصة ذلك البرنامج الذي صاغه ليكوديو الصهاينة الأميركان بالتعاون مع أصدقائهم من المسيحيين المتصهينين وتجار السلاح والنفط هو ضرورة ضمان سيطرة الولايات المتحدة على العالم خلال القرن الجديد بسطوة القوة العسكرية، على أن يبدأ المشروع من العراق كمحطة لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط والسيطرة على منابع النفط، وصولا إلى التمدد نحو آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين.
في الأبعاد الكامنة كانت خلفية المشروع هي القناعة بأن هذا الوضع العربي القائم على هزاله وضعفه لا يمكن أن يمرر مشروع التسوية والهيمنة الصهيونية على الشرق الأوسط، وأن مشروع أوسلو لن يحقق المطلوب، ما يعني ضرورة إعادة تشكيل المنطقة وتفتيتها على نحو يجعلها أكثر قابلية لتمرير المشروع.
ونتذكر في هذا السياق ما عرف بدراسة هارفارد الشهيرة التي فضحت عمليا هذا المخطط وتوجيهه من قبل الصهاينة لحساب مصالح الدولة العبرية.
من هنا لم يتردد السيد جورج بوش بعد ساعات قليلة من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول في تحديد وجهته السياسية نحو أفغانستان ومن ثم العراق، حتى قبل أن يجزم أي أحد بهوية من يقف خلف الهجمات.
والنتيجة هي أن البرنامج كان معدا في الأصل، بل إن ذلك هو بالضبط ما يبرر الكثير من الشكوك التي ساورت البعض بشأن الهجمات عبر مقولة المستفيد منها، وعبر الحديث عن تواطؤ وربما تساهل في تعقب المشبوهين بتدبير الهجمات رغم توفر معلومات عن نيتهم تدبير عمليات داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي لا يمكن استبعاده على قاعدة أن الأجهزة الأميركية ربما اعتقدت بأن هناك عملية تلوح في الأفق يمكن استثمارها، من دون أن تتخيل أنها ستكون مدوية كتلك التي ضربت الولايات المتحدة صبيحة 11 سبتمبر/أيلول.
"
خلاصة مشروع الشرق الأوسط الكبير هي إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط على أسس جديدة من حيث المناهج والأفكار ومن حيث السياسة والاقتصاد والاجتماع، وصولا إلى شكل آخر يكون أكثر تقبلا للهيمنة الأميركية والصهيونية بالضرورة
"
خطاب الحرب وبرنامجها أميركيا
منذ اللحظة الأولى بدا برنامج الحرب أكثر من واضح بالنسبة للدوائر الأميركية الأساسية، وفي حين تعاطف العالم مع الشق الأول من ذلك البرنامج ممثلا في الحرب على دولة طالبان بسبب رفضها تسليم أسامة بن لادن، مترجما ذلك في تحالف دولي، فإن الشق الثاني من البرنامج دفع الكثير من القوى الكبرى إلى التصدي لواشنطن، لاسيما في العراق.
ونتذكر على هذا الصعيد كيف خرجت صحيفة لوموند الفرنسية صبيحة اليوم التالي لهجمات سبتمبر/ أيلول تقول "كلنا أميركيون"، بينما خرجت بعد عام وفي ذات التوقيت تقول "كلنا لا أميركيون" بعد اتضاح النوايا الأميركية في شن الحرب على العراق وحتى دون قرار من مجلس الأمن الدولي كما وقع بعد ذلك بشهور.
هكذا بدأت تتضح معالم البرنامج الذي رسم قبل ذلك بسنوات لما عرف بقرن إمبراطوري أميركي جديد، فيما بدا أكثر وضوحا بعد أيام من سقوط بغداد، حين بدأت التهديدات لسوريا وتحدث وزير الخارجية الأميركي كولن باول حينذاك عن إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط.
ثم بعد ذلك بعام خرج بمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي حمل عناوين الحرب على الإرهاب ونشر الديمقراطية في المنطقة، أو ما عرف بمسيرة الإصلاح، على اعتبار أن العالم العربي الذي ينتشر فيه الفقر والفساد والتشدد الديني هو المنتج الطبيعي للإرهاب.
خلاصة مشروع الشرق الأوسط الكبير هي إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط على أسس جديدة، من حيث المناهج والأفكار، ومن حيث السياسة والاقتصاد والاجتماع، وصولاً إلى شكل آخر يكون أكثر تقبلاً للهيمنة الأميركية، والصهيونية بالضرورة.
خطاب الحرب وبرنامجها قاعديا
كما أشير إليه من قبل، كان خطاب المواجهة من طرف القاعدة هو كف يد الولايات المتحدة عن التدخل في شؤون العالم الإسلامي، ليس بالاستهداف المباشر فقط كما هي الحال في فلسطين والسودان في ذلك الوقت، وإنما عن دعم الأنظمة الفاسدة ودفعها نحو الانسجام مع برنامج الولايات المتحدة في مطاردة الظاهرة الإسلامية، فضلا عن المضي في برنامج ابتزازها هي أيضا وسرقة ثرواتها وتكريس تبعيتها.
ولما كانت المواجهة مع إمبراطورية بهذا الحجم غير ممكنة بالطرق التقليدية، فقد كانت العمليات العسكرية التي تغطى بتنظير سياسي لاحق هي أداة المواجهة الأولية، كما هو حال عمليات نيروبي ودار السلام والمدمرة كول.
أما الخطة الأكثر أهمية فهي استدراج الولايات المتحدة نحو ساحات تسهل فيها المواجهة معها، وصولا إلى استنزافها كما وقع للاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
وحسب الخطة كان لا بد أن تتجنب طالبان المواجهة الشاملة مع القوات الأميركية وقوات التحالف لعدم جدواها من الناحية العسكرية، ومن ثم تنسحب وتبدأ في ترميم صفوفها تمهيدا لمعركة استنزاف قادمة مع الأميركان وحكومتهم العميلة، الأمر الذي ينسحب على العراق بعد احتلاله من قبل الأميركان.
ربما كان من الصعب الجزم بأن البرنامج كان بهذا المستوى من الوضوح الذي تؤكده دوائر القاعدة عبر أدبياتها المعلنة بما فيها خطابات أسامة بن لادن والظواهري، وحتى الزرقاوي، لكن فرصة التعامل معه بصرف النظر عن مدى دقته تبقى متوفرة.
وفي العموم فإن في خطاب طرفي الحرب ما هو معلن وما هو غير معلن، وما هو حقيقي وما هو غير ذلك، ويبقى أن الكذب الصريح يبدو أكثر توفرا في خطاب الدوائر الأميركية التي تراقب تحولات المزاج الشعبي وتعالجه بأساليب الكذب والتدليس.
"
حرب الإرهاب كشعار أولي معلن لم تؤد إلى نتائج طيبة، لا على صعيد العنف الذي يطال المدنيين في العالم الذي ازداد ضحاياه على نحو كبير، ولا على صعيد اتساع دوائر الفعل الإرهابي، حسب التعبير الأميركي، أو المقاومة المشروعة، حسب التعبير الشعبي في بلادنا
"
مفردات الخطابين في امتحان التقييم
بعد خمس سنوات على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وبعد مدى أطول من تبلور خطاب القاعدة، ومن بعده خطاب المحافظين الجدد، يستطيع المراقب أن يقرأ تحولات المواقف والإنجازات لكلا الطرفين، تاركا للزمن تحديد ماهية النجاح والفشل، مع أن المسار العام ربما وفر للمراقب فرصة الجزم بأي الخطابين أو البرنامجين سينتصر في نهاية المطاف.
ونقول الخطابين أو البرنامجين وليس الطرفين، لأن الحرب ليست بين بلدين أو جيشين بل بين إمبراطورية مدججة بمختلف أدوات القوة وبرنامج آخر يسعى إلى دفعها نحو التراجع من خلال التهديد بحرمانها من الأمن (يشار هنا إلى مقولة بن لادن للأميركيين: لن تعرفوا الأمن حتى يعرفه أهلنا واقعا في فلسطين ..).
وحين يذهب بعيدا في التفاؤل فإنه يسعى إلى ضرب قوتها، وربما تفكيكها، بعد استدراجها إلى مواقع مضللة للمواجهة، قياسا إلى ما جرى للاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
بالنسبة للولايات المتحدة، ليس من العسير القول إن أيا من شعارات الحرب المعلنة أو غير المعلنة قد تحقق أو حتى سار قدما في طريق التحقق، بصرف النظر عن سبب ذلك، أكان بقرار ذاتي أم بقوة دفع الطرف الآخر أم بسبب المدافعة الدولية والإقليمية.
حرب الإرهاب كشعار أولي معلن للحرب لم تؤد إلى نتائج طيبة، لا على صعيد العنف الذي يطال المدنيين في العالم، ذلك الذي ازداد ضحاياه على نحو كبير باعتراف الدوائر الأميركية، ولا على صعيد اتساع دوائر الفعل الإرهابي، حسب التعبير الأميركي، أو المقاومة المشروعة، حسب التعبير الشعبي في بلادنا.
صحيح أن عمليات جديدة لم تقع في الولايات المتحدة، لكن الأكيد في المقابل أن ثمن هذا الإنجاز لا يزال كبيرا من حيث الكلفة الاقتصادية والسياسية، ومن حيث ما خسرته الولايات المتحدة من رصيدها المهم من الحريات وحقوق الإنسان.
من أفغانستان إلى العراق يتعزز نزيف المال والأرواح، في حين يزدهر سوق "الإرهاب" حسب التعريف الأميركي، وتتوفر له مواقع فعل ولا أحلى، كما هو الحال في العراق الذي تحول من بلد آمن إلى مستودع للدماء والموت المجاني.
نشر الديمقراطية وتغيير الشرق الأوسط كان شعارا من شعارات الحرب الأساسية، وها هم معدوه ومروجوه يتخلون عنه بعد ثلاث سنوات من طرحه، وبالطبع إثر نتائج الانتخابات في العراق وفلسطين ومصر، وحتى السعودية والكويت، حيث أدركوا أن أية عملية انتخابية حرة ستأتي بالألد عداء للولايات المتحدة، من دون أن يعني ذلك التوقف عن استخدام الشعار في سياق الابتزاز حين تتوفر الفرصة.
ثمة شعار من شعارات الحرب ما زال مرفوعا، ويتمثل في تغيير المناهج والأفكار، وهذا الشعار لن يتغير ما دامت واشنطن قادرة على الضغط على العالم العربي والإسلامي.
وما من شك في أن نجاحا ما قد تحقق على هذا الصعيد حيث بادرت بعض الدول العربية والإسلامية إلى إعادة النظر في مناهجها وقوانينها لتنسجم مع الوقائع الجديدة.
"
برنامج القاعدة القائم على رفض الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم ورفض التدخل في شؤون المسلمين وسواهم قد غدا أكثر انتشارا، بدليل ما يحدث في أميركا اللاتينية، وبدليل الوعي الشعبي الواسع بهذه المعادلة في شتى أنحاء العالم
"
ثمة في الخطاب المعلن أميركيا ما يثير السخرية على صعيد الإنجاز، لاسيما في العراق وأفغانستان، إذ تحول النموذج الديمقراطي العراقي إلى نموذج للتفتيت والقتل على الهوية، بينما آل النموذج الأفغاني إلى نتائج بائسة على مختلف الأصعدة.
أما الخطاب غير المعلن، فقد فشل هو الآخر، فالشعب الفلسطيني لم يهزم ولم يستسلم، والدولة العبرية تلقت هزيمة كبيرة في لبنان، وها هي إيران تقترب حثيثاً من الميدان النووي.
صحيح أن الواقع العربي الرسمي يبدو أكثر تراجعا أمام واشنطن وتل أبيب، إلا أن حيوية الوضع الشعبي ما زالت تعوض ذلك بشكل معقول.
فيما يتعلق ببرنامج القاعدة المقابل يمكن القول إن الأمور تسير على نحو يستحق الاحتفاء من قادتها، من الفشل في الوصول إلى قادتها، إلى ما يجري في العراق وأفغانستان من استنزاف للولايات المتحدة، إلى التخبط الأميركي الإٍسرائيلي على مختلف الأصعدة.
وكل ذلك مما يرضي قادة القاعدة الذين يبدون سعداء بتحولات المشهد، ويطلون بين الحين والآخر صوتا أو صورة يناكفون قادة واشنطن ويعرون خطابهم.
من المؤكد أن برنامج القاعدة القائم على رفض الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم، ورفض التدخل في شؤون المسلمين وسواهم قد غدا أكثر انتشارا، بدليل ما يحدث في أميركا اللاتينية، وبدليل الوعي الشعبي الواسع بهذه المعادلة في شتى أنحاء العالم.
بل إنه بالإمكان القول إن الكراهية التي تعاني منها الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي لم تتوفر في أي وقت من الأوقات، ما يعني أن مشاريعها ستمضي من فشل إلى آخر، في مقابل تقدم الخطاب الآخر.
والأهم أن خطاب المقاومة المشروعة لأمة تتعرض لهجمة بشعة يبدو مؤهلا لحصد الكثير من الإنجازات مع الوقت، ليس فيما يتعلق بمواجهة الاستبداد الداخلي، بل فيما يتعلق بمواجهة الهجمة الأميركية الصهيونية أيضا.