قصة ... لاتنتهى

Samir Aser

New Member
قصة ... لاتنتهى

سار نحو البيت الكبير ذى الطوابق الأربعة ووقف قليلا يتأمل الحديقة المُتْربة ويملأ رئتيه برائحة التمر حنا ؛ ثم دفع الباب برفق ودخل . تجلس أمه كعادتها فى زاوية من زوايا الصالة الكبيرة ، تمسك بمسبحتها الطويلة ، بجوارها جهاز الراديو العتيق ، تنبعث منه آيات الذكر الحكيم مرتلة بصوت عال . قامت أخته الكبرى روحية تحتضنه بحنان ؛ وتحلّق حوله صبيان وبنات أخواته يرمقونه فى صمت . جلس إلى جوار أمه وربت على كتفها فى رفق ، فتنهدت بعمق .
- بس بس.... فيه ايه ؟
- أبوك .
- تاااااااانى ... تانى يا أمى .
- من يومين نايم ، لا بياكل ولا بيشرب ولا عايز يتكلم .
مد يده وأغلق الراديو ؛ فصاحت به أمه :
- سيب القرآن .
- طيب طيب... دلوقتى .
انفتحت أخته الكبرى :
- آهى كده على طول... عاملة البيت مأتم ؛ ومحرّجه ع العيال ينزلوا هنا ؛ وكل ما الراجل يتكلِّم كلمة ؛ تقول له اسمع القرآن أحسن ... انت إللى هتقوله هتعيده ، احنا حفظنا قصة حياتك صَمْ ... أهو سكت خالص ، علشان تستريحى...
أسكتها بإشارة من يده ؛ وقام بهدوء ليفتح باب غرفة أبيه عن آخره . ألقى نظرة اشفاق غامضة نحو أبيه الذى نام على جانبه مولياً وجهه نحو الحائط . تقدم بهدوء وجلس على المقعد بجوار الفراش وأخرج علبة سجائره ؛ وتناول منها سيجارة ؛ جعل يديرها بين أصابعه ويبتسم ؛ ثم أشعلها ونفث دخانها فى صمت .
تنحنح العجوز وسعل وتململ فى فراشه ثم استدار بصعوبة وبطء واعتدل قاعدا :
- مين ؟
- أنا يا با .
- انت جيت يا أحمد... حمدالله على السلامة يابنى .
- الله يسلمك... خد سيجارة ... مش هتاخد منى سيجارة ؟
؛ ومد يده نحو والده بسيجارة ؛ ومد العجوز يده المرتعشة مفرودة الأصابع تبحث عن السيجارة :
- أمك فين ؟
- ماتخافش ... خد اشرب .
يمسك العجوز بالسيجارة ويديرها بين أصابعه ؛ يشعل لأبيه السيجارة ؛ ليأخذ العجوز نفساً عميقاً نافثاً الدخان من منخريه ؛ يسعل ويدمدم :
- هيه دى سجاير دى... فين البلايرز والبَحّارى بتاع زمان ... يالله ؛ ربنا يقطع سَجَرِتها واللى عملها .
وتسلل الأطفال إلى داخل الحجرة ، وجلس كل واحد منهما كيفما اتفق .
- قل لى يابا... انت شربت السجاير وانت عندك كام سنه ؟
لمعت عينى العجوز :
- يااااااااااه ... من زمان قوى ... وأنا عندى تمانتاشر سنة ... كانت ببلاش بنستلمها فى الكامب.
قال أحد الأطفال :
- فى كامب الطِّيره .
فرد عليه الآخر :
- لأ.. فى كامب العزيزية .
ويتساءل آخر :
- هوه جدو كان بيشتغل عند الإنجليز ليه ؟
فيرد عليه آخر :
- هوه كان فيه شغل إلاّ عندهم ؛ وبعدين همه كانوا بيحاربوا هتلر ، وقالوا لجدو لو
مااشتغلتش معانا هناخدك أسير لغاية لمّا الحرب تخلص .
- قل لى يابا ... هيه المسافة بينّا وبين فلسطين كام بالظبط ؟
أشرق وجه العجوز :
- كان القطار بيطلع من القنطرة شرق العِشا ، يوصل اللّد الفجر ؛ وبعدين حيفا على الساعة عشرة الصبح .
قال أحد الأطفال للآخر :
- جدو اتولد فى حيفا .
فوكزه الآخر :
- بس احنا مصريين يا خويا .
ويسترسل العجوز بلهجة خاصة :
- أنا كنت فورمان على اليهود فى فلسطين ؛ كنت رَيِّس عليهم ؛ الكابتن الإنجليزى قال لى : ( يو فورمان )، كانت الحرب شغّاله وكُنّا بنعمل اتناشر ألف صفيحة بنزين فى اليوم علشان الطيارات والدبابات ؛ الصّاج يُخُش على السير أبو بَكَرات من هنا ، يطلع فى الآخر صفيحة مدهونة مليانه بنزين ؛ وكل واحد له شُغله ؛ وأنا واقف لهم زى الصقر ( بانشر شوب .... بانشر ) ؛ اليهود ولاد الكلب يقولولى : يامصرى فََوِّت الصفيحة المخرومة ؛ احنا بنشتغل بالألف .
يصمت العجوز قليلا ثم يسترسل بلهجه فلسطينيه :
- قرّب يازَلَمييييييى ... قرب يا زلميييييى ؛ عشرة بِقِرييييش.. خمستاااشر بقرييييش .. عشرييين بقِرِييييشْ .
- أيوه البرتقان كان بِبَلاش... قل لى يابا انت بتحلق دقنك ازّاى من غير مراية .
رفع العجوز يده :
- هات... هات الموس وأنا أوريك .
يضع أحمد طرف الملاءة على صدر العجوز ، ويمسك العجوز بالموسى ذى الشفرة الواحدة بأصابعه الطويلة النحيلة ؛ وبطريقة خاصة محترفة يتحسس ذقنه بأنامل يده الخالية وببراعة يقوم بإزالة لحيته النابتة رويداً رويداً ؛ وقد تعلقت به عيون الصغار تراقبه فى اهتمام .
- الله.... ايه الحلاوة دى ياعم الشباب... أيوه كده .
- كان الزَّمُور بتاع الغارة لما يضرب.. الكلاب تهوهو ، والقطط تنونو ، والعيال تعيط .. كنت بشوف الطيارين جوه الطيّارات ؛ وأنا على جبل الكَرْمِل ؛
ويقاطعه صغير :
- ماش دا ياجدو الجبل إللى ضربت فيه اليهود .
ويقهقه العجوز ضاحكا :
- أنا كنت صُغَّير ؛ وطلعت وادى العشاق فوق.... ياسلااااااااام ... تبقى قاعد وتزيح بإيدك فروع الشجر علشان تِكَلِّم إللى جنبك .
- ضربتهم ازّاى يا جدو.... ضربتهم ازّاى .
وينظر العجوز فى اتجاه أحمد :
- كنت جاهل وقعدت مع أصحابى نشرب.... الدنيا لفِّت بيه ياواد ياأحمد.. اليهود ولاد الكلب كل واحد ماسك واحده وواخد راحته ع الآخر ؛ دمّى فار ؛ قمت قايم شادد فرع شجرة لبلوب وطِحْت فيهم ضرب ؛ إللى ياخد خبطه يقوم يجرى زى الفُرِِّيرَه وهو بيصرخ : ايييمااااااا ؛ ايييمااااااا ....المصرى سِكِر... المصرى سِكِر .
وابتسم أحمد فى مكر :
- كان لك أصحاب فلسطينيين يابا .
- ياسلااااام ... يوسف ....دا كان ولد .... مره أنا ويوسف ومحمد الصعيدى وابن خالى سُهيل رحنا نتفرج على فيلم لص بغداد فى سينما أمفتياتر ...
- لأ ياجدو فى سينما آرمون...
- آى والله صحيح فى سينما آرمون ؛ ويومها اتخانقنا واحنا طالعين م السِيما مع اليهود... جُبَنه ولاد كلب ... كنا فى حَيِّهم ؛ والواد محمد الصعيدى قال لنا : واد انت وهوه كل واحد يحط ضهره فى ضهر أخوه ؛ إللى أشوفه جاى عليّه أتعزم وأقوله ( باكاشا أدون ) واديلو يالبُنيه فى وشه... ورقعناهم حتة علقة... وهربنا منهم .
- تعرفوا ياولاد جَدّكم كان بطل وكان فتوه ؛ مره اتراهن انه يمشى على ايديه على بلاج حيفا ؛ وجابه من أوله لآخره .
لمعت عينى العجوز وتألقت حدقتاه وقام مترنحاً ؛ ووقف أمام الصغار يفرد ساعديه جانبا ويضغط بهما للخلف ؛ ثم يركع يلمس بهما الأرض ويعود يرفعهما لأعلى ؛ واختل توازنه لبرهه ؛ فبادر أحمد ومد يده ليعاونه فدفع يده :
- عيب... عيب ياأحمد... أبوك لسه شديد .
؛ ثم رفع صوته وهو يتوجه خارج غرفته :
- ياوليّه.... يا أم أحمد... مافيش لُقمه حلوه كِده .
فردت بلهجة متبرمة :
- لمّا تِستَحمّى الأول ؛ وتغير هدومك .
فالتفت ناحية ابنه :
- شايف... شايف ؟ ! .
ثم بلهجة طفولية آمره :
- طب هاتيلى غيار نضيف وجلابيه .
ومضى من فوره نحو الحمّام . وشرعت روحية فى تغيير ملاءات السرير :
- ربنا يخليك لينا ياخويا ومايحرمناش من طَلّتك علينا ...بينى وبينك هُمّه الاتنين أصعب من بعض.... ماانت عارف .
- أمك غلبانه ياروحية... كبرت هيه الأخرى... ماعادش عندها مرارة .
وخرج من الغرفة يتبعه الصغار ؛ يتأمل أمّه وهى تعد الطعام للعجوز :
- ازيك يا أم أحمد .
- الحمد لله يابنى .... أبوك صعب قوى ... مابيبطلش طلبات ؛ شاى ، قهوة ، سجاير ؛ وأنا مابطقش ريحتها .
- معلش استحمليه .
وينتهى العجوز ؛ ويخرج فرحاً مستبشراً :
- مين يعادينا نفنيه ؛ فى أراضينا هاأو ... أو ... أو .
وتزوم الأم :
- بلاش هيصه ؛ الأكل أَهُه .
- يابااااااى عليكى .
ويتحلق الصغار حول العجوز ؛
- الكابتن الانجليزى قاللى : يو فورمان.......
ويمضى العجوز مسترسلا فى قصة دائرية لا نهاية لها ؛ ولاتنتهى أسئلة الصغار وتعليقاتهم وضحكاتهم ، وقهقهات العجوز المُرْهَقَة ؛ وبينما ظهرت الراحة على وجه أحمد وروحية ؛ يبدو التبرم والملل على وجه الأم زامة شفتيها تُنحِيها جانبا من آن لآخر فى استياء واضح .
- طيب ... أنا هاتِّكل على الله .
- ماهو بدرى يابنى .
- معلش عندى شغل كتير مستنينى .
ويقبّل رأس العجوز ؛ وينحنى ليُقبّل يد أمه هامساً :
- اتوصّى بأبويا .... استحملى شويه .
- أنا صابرة طول عمرى .
تحتضنه أخته مُقبّلة وجنتيه بقبلات رنّانة .
- سلامو عليكو .
ويمضى نحو الباب ؛ وقبل أن يخطو خطوات قليله مبتعداً ؛ يترامى إلى أذنيه صوت أمه الصارم :
- يالله يا واد انت وهُوَّه كل واحد يروّح ؛ قوموا ذاكروا بقه ؛ مانتوا عارفين الحكايات دى ؛ ولاّ هِيَّه تسالى ؛ يالله ياروحية ؛ خُدى عيالك واطلعى فوق زمان جوزك جاى .
ويرتفع عاليا صوت الشيخ / محمد رفعت الملائكى مرتلا أيات الذكر الحكيم
يبتسم ؛ ويتناول سيجارة ؛ يديرها بين أصابعه ؛ ويشعلها ؛ ثم يمضى فى طريقه .

سميرعصر

 
عودة
أعلى