اللغة العربية ..الموقع الاستراتيجي في التدافع الحضاري :

mohamadamin

حكيم المنتدى
اللغة العربية ..الموقع الاستراتيجي في التدافع الحضاري :
ان اللغة العربية باعتبارها وعاء للثقافة العربية و للحضارة الإسلامية فإنها تواجه أخطارا تتفاقم باطراد تأتي من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة العالم الجديد وفق خصوصيات الشعوب وثقافاتها وأعرافها وتقاليدها ، بل وفق نمطية واحدة يسعى " الغالب الوقتي " لفرضها بقوة الفعل السياسي والاقتصادي والتقني المسيطر على شعوب الأطراف .
ولكن حمل العولمة لمشروع هيمنة عالمية لا يبرر رفضها ولا البقاء خارجها ، و لايشكل سببا كافيا للقدح فيها ، فهذه ليست أول مرة يعرف فيها العالم عصر الهيمنة الدولية ، ونحن لا نأتي إلى هذا العصر من موقع الحرية والاستقلالية و السيادة الحضارية ، ولا نضحي في سبيل ولوجه بنظام دولي قائم على الاستقلال الناجز و الفعلي وغياب مبدأ الهيمنة و التسلط الدولي ، ولسنا بصدد الإختيار بين منظومات دولية هيمنية ومنظومات تحررية شاملة ، ولكننا بصدد الانتقال بكل بساطة من نظام علاقات دولية شبه استعماري بغيض ، نحو نظام علاقات دولية جديد قائم على هيمنة عالمية تعطي للدول الكبرى الأرجحية في توجيه سيرورة التحولات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية و الثقافية ....أي أننا ببساطة أمام تحول في شروط السيطرة و الهيمنة الدولية التي نعرفها ولا يمكن أن نتصور النظام العالمي الراهن من دونها.
وعلى هذا فإن موقع اللغة العربية في الصدارة من الهوية للدفاع عن الأمة ، فما اللغة إلا وعاء الفكر الذي يصنع طرائق المواجهة ، بالتكيف حينا ، وبالتصلب حينا ..وحين تستعصي على الدخيل فإنها تصنع أعراس النصر في ساحات النزال مع اي فكر يريد أن يغالبها بالمسخ و العجمة و الرطانة، وبالرغم من وسائل التهجين و التدجين لهذه اللغة فإنها غالبت فغلبت ، وقاتلت فقتلت ..لأنها اللغة الوحيدة للوحي الإلهي الباقي على ظهر الأرض ، وبقاؤها هو إكسير الحياة للأمة ، و المجدد الدائب لطاقاتها الأدبيةو المادية . وقد كانت قديما كذلك وسوف تظل ..يقول العلامة الجزائري الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ـ مخاطبا الجزائريين الذين عمل الاستعمار الفرنسي بكل الوسائل على جعلها غريبة في الأفواه سمجة على الألسنة منكورة في القلوب و الأفئدة ـ : " لولم تكن اللغة العربية لغة مدنية و عمران ، ولولم تكن لغة متسعة الآفاق غنية بالمفردات و التراكيب ، لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس و الهند، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات ، ولوفعلوا لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية ، ولو وقع ذلك لتغيّر مجرى التاريخ الإسلامي برُمته .
لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم ، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون .قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونظمها الاجتماعية وآدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها ، و الرياضيات بجميع أصنافها ، و الطب و الهندسة والآداب والاجتماع ، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة و الحاضرة . وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لايزال يأخذه الأخير عن الأول ، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوّة فيك ، وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك ، وقد تفطّن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم ولم ينتقلوا إليه . وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع بانتشاله من الغوائل وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل ، وبذلك طوّقت العالم منّة لا يقوم بها الشكر ، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير . ثم يوضح الشيخ الإبراهيمي كيف أفاءت العربية بظلالها على الأجناس فقاربت بين تفكيرهم ، ومازجت بين أذواقهم ، ووحدت مشاربهم ، وزادت من علائق الوصال بينهم ، فأنتج ذلك إبداعا في ميادين كثيرة منقطع النظير ..وآية ذلك ما سطروه من مصنفات أضحت أوابد ثقافية على مرّ التاريخ ، فيقول : " و اللغة العربية هي التي أفضلت على علماء الإسلام بكنوزها ودقائقها وأسرارها ، وأمدّتهم بتلك الثروة الهائلة من المصطلحات العلمية و الفنية التي تعجز أية لغة من لغات العالم عن إحضارها بدون استعانة واستعارة ، فبحثوا في كل علم وبحثوا في كل فن وملأوا الدنيا مؤلفات ودواوين ومن عرف كتاب أبي حنيفة الدينوري في النبات وكتاب أبي عبيدة في الخيل وكتاب الهمداني في تخطيط جزيرة العرب وكتاب الجاحظ في الحيوان وكتاب الأئمة في الطب و النجوم والإبل ، رأى العجب العجاب من اتساع هذه اللغة وغزارة مادتها ، وعلم مقدار أفضالها على الأمة العربية . كما أن من يقرأ شعر الشعراء النفسيين من الغرب بهذه اللغة وشعر الشعراء الوصافين من الأندلس يتجلى له أي إفضال أفضلته العربية على تلك القرائح الوقّادة التي وَجَدت في العربية فيضا لا ينقطع مدده ، وأضافته إلى فيض الاستعداد ، وما أمتن الإنتاج الأدبي إذا كان يصدر عن اتساع في اللغة واتساع في الخيال "ومن هنا ندرك أن الحديث لإصلاح وضع اللغة في المنظومة المعرفية للأمة ليس ترفا فكريا بقدر ما هو حديث عن بناء حضاري متكامل باعتبارها جزءا جوهريا في مشروع التجديد والإصلاح و التمهيد للنهضة المرجوة ، ولا يمكن أن تحصل نهضة حقيقية بغير نهضة لغوية متزامنة مع المشروع كله ، وخادمة له ، سواء من ذلك ما يتعلق بتأصيل الفهم و التلقي للخطاب اللغوي من الوحي خصوصا ، و التراث العلمي الإسلامي عموما ، أو ما تعلق بالبلاغ و التواصل التعبيري المرتبط بالمفاهيم المكونة لهوية الأمة على الإجمال . و اللغة العربية لم تكن يوما نافلة في مجال التدافع الحضاري ، وساحة الصراع الإيديولوجي إلا عند من لايفقه سنن المغالبة بين الأمم و الشعوب ، بل كانت ولا تزال من أهم مواقع الصراع الفكري ، ومن أخطر أسلحة الإحتواء الإستراتيجي لثقافات الشعوب وتمييعها لإخراجها عن طبيعتها وصبغتا .
ولابد أن ندرك أن تفعيل الثقافة رهن بتطور اللغة ، ونمو اللغة يعكس القيم الثقافية للمجتمع الذي يتكلمها ، وهما مقياس لإمكانته وقدراته، وكيف نعرف هذه القيم عندما تختفي دلالات اللغة ، وتغيض معانيها ومراميها وإشاراتها في حديث الناس وبرامج الإعلام وإعلانات الشركة وأسماء المحال ويافطات الإشهار ...؟ ولكن للأسف أن الإخفاق في الحفاظ على المقوّم الهام في صراعنا الحضاري بدأ من هذه وامتد إلى الفكر يُطوّح به في مسالك ومهاوي ليس لها قرار !.
 
عودة
أعلى