هل يعتدل العالم عندما ننظر إليه بالمقلوب؟
لماذا عندما لا نتوقع أن يكون العالم عادلاً، يبدو لنا أكثر عدلاً؟ وعندما نزهد في الدنيا تقبل هي علينا؟ ولماذا تتمتع الدول بأرقى درجات الحوكمة والازدهار الحضاري عندما لا يتشبث حكامها بالكراسي؟ ولماذا يساوي الدولار للفقير مليونًا ولمتوسط الحال دولارًا وللمليونير سنتًا وللملياردير صفرًا؟ ولماذا نقشر الموزة من آخرها ونظن أننا نقشرها من أولها؟ ولماذا عندما نوفر لأبنائنا كل شيء؛ يفشلون، وعندما نتركهم يعانون؛ ينجحون؟
عبر الأسابيع القليلة الماضية راحت الجامعات والمدارس الراقية تخرج طلابها وتدعو كبار الشخصيات والمتحدثين العالميين ليخاطبوا الطلاب ويلهموهم. جامعة "هارفارد" دعت في السنوات الماضية "بل كلينتون" و"بل جيتس"، ودعت هذا العام الصحافي "فريد زكريا" الأمريكي من أصل هندي، ورئيس تحرير مجلة "نيوزويك"، ومقدم البرامج في شبكة "سي إن إن". بينما قام مدرس اللغة الإنجليزية "ديفيد مكلاو" في مدرسة "ويلزلي" الثانوية في "بوسطن" بإلقاء كلمة التخرج في مدرسته. بلغت كل من كلمتي التخرج 18 دقيقة وحدثتا معًا في نفس الولاية، بل وفي نفس المدينة (بوسطن)، ولنفس السبب.
عبر الأيام الماضية استقطب خطاب "زكريا" 30 ألف مشاهد على "يوتيوب"، وشاهد خطاب "ديفيد" ما يقرب من مليون ونصف المليون حتى الآن. وقد تناولته المحطات الفضائية والصحف والمجلات العالمية بالتحليل، حتى إن صحيفة "واشنطون بوست" العريقة نشرته كاملاً. فما هو السبب؟
على العكس من كل الخطباء الذين يذهبون لتحفيز الخريجين بخطب حافزة ومؤثرة، لكنها مكررة، خاطب المعلم "مكلاو" طلابه قائلاً: "أنتم لستم متميزون، ولا استثنائيون. أنتم طلاب عاديون لأن في أمريكا 37 ألف مدرسة ستخرج هذا العام أكثر من 3 ملايين طالب مثلكم. وحتى لو كان أحدكم فردًا وحده ومتميزًا بين مليون شخص آخر في العالم، فسيكون في العالم سبعة آلاف مثله. شهادة الثانوية هذه حصل عليها الملايين حول العالم ولم تميزهم في شيء. وحتى لو دخلتم أعرق الجامعات، فلن تتميزوا، رغم كل التدريب والتعليم والتدليل والتوجيه والتطبيل الذي نلتموه من أسركم ومدارسكم. الجوائز الرياضية والعلمية التي حصلتم عليها، حصل عليها كثيرون غيركم. وما دامت الجوائز منحت للجميع، فالجميع غير متميزين أيضًا."
مسح المعلم "ديفيد" في طلابه أرض المدرسة يوم تخرجهم، وأسمعهم كل ما يعاكس ويناقض ما يخطب به المتحدثون الملهمون حول العالم، فتهافتت عليه وسائل الإعلام وسألته وسألت طلابه عن تأثير خطابه العكسي على مستمعيه. وعلى عكس المألوف والمعروف، بدأ الآلاف يشاهدون هجومه على طلابه، وقد ينشره في كتاب، شارحًا فحواه ومبينًا مغزاه عما قريب.
من وجهة النظر العلمية، فإن أطروحات معلم اللغة الإنجليزية كلها خاطئة ولا تستند إلى أساس علمي. قال للطلاب: "لا أحد منكم مركز للكرة الأرضية، لأنه ليس لها مركز. كما أن الأرض ليست مركز المجموعة الشمسية، التي هي ليست مركز مجرة درب التبانة، التي هي ليست مركز الكون كما تظنون." مع أن الحقيقة هي أن لكل منا مركزه وعالمه. وليس ضروريًا أن نكون مركزًا للعالم أو للكون لكي نكون مختلفين واستثنائيين. فلكل منا بصمة عينه وبصمة إبهامه، وكذلك بصمة ذكائه المختلفة تمامًا. فليس هناك إنسان تتفاعل خلاياه الدماغية كيميائيًا وكهربيًا بنفس الإيقاع والتواتر الذي تشهده خلايا مخ إنسان آخر. وبعد أن تم رسم تسلسل الجينوم البشري وخريطته التي انتهى العلماء منها عام 2003، تبين أن الاختلاف الجيني بين أي إنسان وآخر لا يتجاوز عشر الواحد بالمائة. أي أن التشابه بين الأفريقي والأمازوني مثلاً، وبين الياباني والعربي، يصل إلى 99.9%، فلا يتجاوز الاختلاف واحدًا في الألف. ومع ذلك فقد كان هذا الفرق كافيًا لخلق كل ما يمكن تصوره من فروق فردية بين "نلسون مانديلا" الأفريقي العظيم، وبين "جورج بوش" الأمريكي اللئيم.
رغم أن معظم – وربما كل – مدارس العالم تقتل الإبداع، وأن نظم التعليم تقوم على التشابه لا على الاختلاف، وهو تفكير نظنه صحيحًا وهو خطأ، ورغم كل نظم التعليم المعلبة والجاهزة واللامسؤولة، فإن متوسط عمر الإنسان يزيد كل يوم بمعدل 5 ساعات. وبعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، فقد شهد اقتصاد 80 دولة حول العالم نموًا بنسبة 4% أو أكثر خلال العامين الأخيرين، وهو ما لم يتحقق في كل عقود الطفرات الاقتصادية السابقة. حتى إن الهاتف الذكي الذي نحمله اليوم في جيوبنا يختزن طاقة معالجة معلوماتية تفوق نظام الكمبيوتر الذي حمل مركبة "أبولو" إلى الفضاء الخارجي قبل خمسين عامًا. ولم يحدث كل هذا إلا بسبب ما بيننا من اختلاف طفيف في الجينات، واختلاف عنيف في القدرات.
قال لي الطبيب الذي أعاد لي نعمة الإبصار – بمشيئة الله – بعد عمليتين جراحيتين قبل شهرين، إن مثل هذه العمليات لم تكن ممكنة بهذا المستوى من النجاح قبل عشر سنوات. ليس بسبب مهارة الطبيب فقط، وإنما بسبب أجهزة التصوير الدقيقة التي حددت للطبيب المساحات الضيقة التي يجب أن يحقن فيها الغاز المتسامي، والذي يتبخر تلقائيًا، بينما تحافظ الشبكية على مائها الزجاجي. فما الذي يجعل إنسانًا ما يبدع في تركيب شبكات العيون البصرية، بينما يبدع آخرون في بناء شبكات المعلومات العنكبوتية؟ إنها تلك القدرة البشرية الخارقة التي أكد تشريح خلايا المخ تباينها بين كل بني البشر، حتى بين الإخوة والتوائم.
فما هو سر انتشار خطاب "ديفيد" المغمور في المدرسة المغمورة أكثر من خطاب "فريد" المشهور في الجامعة المشهورة؟ إنه نفس السبب الذي جعل الناس يحبون التمتين® لأنه يركز على مواطن القوة لا نقاط الضعف! وهو نفس السبب الذي يجعل من يفكرون كثيرًا ينجزون قليلاً، ومن ينفذون قليلاً ينجزون كثيرًا.
فكر بالمقلوب ليستقيم عالمك! واترك قراءة هذا المقال الآن واذهب إلى العمل! أو اقرأ المقال معكوسًا .. بادئًا من هنا. ثم استمع لخطاب Wellesley High School قبل – أو حتى دون – خطاب Zakaria Fareed.
لــ نسيم الصمادي
موقع إدارة .كوم
WWW.EDARA.COM
لماذا عندما لا نتوقع أن يكون العالم عادلاً، يبدو لنا أكثر عدلاً؟ وعندما نزهد في الدنيا تقبل هي علينا؟ ولماذا تتمتع الدول بأرقى درجات الحوكمة والازدهار الحضاري عندما لا يتشبث حكامها بالكراسي؟ ولماذا يساوي الدولار للفقير مليونًا ولمتوسط الحال دولارًا وللمليونير سنتًا وللملياردير صفرًا؟ ولماذا نقشر الموزة من آخرها ونظن أننا نقشرها من أولها؟ ولماذا عندما نوفر لأبنائنا كل شيء؛ يفشلون، وعندما نتركهم يعانون؛ ينجحون؟
عبر الأسابيع القليلة الماضية راحت الجامعات والمدارس الراقية تخرج طلابها وتدعو كبار الشخصيات والمتحدثين العالميين ليخاطبوا الطلاب ويلهموهم. جامعة "هارفارد" دعت في السنوات الماضية "بل كلينتون" و"بل جيتس"، ودعت هذا العام الصحافي "فريد زكريا" الأمريكي من أصل هندي، ورئيس تحرير مجلة "نيوزويك"، ومقدم البرامج في شبكة "سي إن إن". بينما قام مدرس اللغة الإنجليزية "ديفيد مكلاو" في مدرسة "ويلزلي" الثانوية في "بوسطن" بإلقاء كلمة التخرج في مدرسته. بلغت كل من كلمتي التخرج 18 دقيقة وحدثتا معًا في نفس الولاية، بل وفي نفس المدينة (بوسطن)، ولنفس السبب.
عبر الأيام الماضية استقطب خطاب "زكريا" 30 ألف مشاهد على "يوتيوب"، وشاهد خطاب "ديفيد" ما يقرب من مليون ونصف المليون حتى الآن. وقد تناولته المحطات الفضائية والصحف والمجلات العالمية بالتحليل، حتى إن صحيفة "واشنطون بوست" العريقة نشرته كاملاً. فما هو السبب؟
على العكس من كل الخطباء الذين يذهبون لتحفيز الخريجين بخطب حافزة ومؤثرة، لكنها مكررة، خاطب المعلم "مكلاو" طلابه قائلاً: "أنتم لستم متميزون، ولا استثنائيون. أنتم طلاب عاديون لأن في أمريكا 37 ألف مدرسة ستخرج هذا العام أكثر من 3 ملايين طالب مثلكم. وحتى لو كان أحدكم فردًا وحده ومتميزًا بين مليون شخص آخر في العالم، فسيكون في العالم سبعة آلاف مثله. شهادة الثانوية هذه حصل عليها الملايين حول العالم ولم تميزهم في شيء. وحتى لو دخلتم أعرق الجامعات، فلن تتميزوا، رغم كل التدريب والتعليم والتدليل والتوجيه والتطبيل الذي نلتموه من أسركم ومدارسكم. الجوائز الرياضية والعلمية التي حصلتم عليها، حصل عليها كثيرون غيركم. وما دامت الجوائز منحت للجميع، فالجميع غير متميزين أيضًا."
مسح المعلم "ديفيد" في طلابه أرض المدرسة يوم تخرجهم، وأسمعهم كل ما يعاكس ويناقض ما يخطب به المتحدثون الملهمون حول العالم، فتهافتت عليه وسائل الإعلام وسألته وسألت طلابه عن تأثير خطابه العكسي على مستمعيه. وعلى عكس المألوف والمعروف، بدأ الآلاف يشاهدون هجومه على طلابه، وقد ينشره في كتاب، شارحًا فحواه ومبينًا مغزاه عما قريب.
من وجهة النظر العلمية، فإن أطروحات معلم اللغة الإنجليزية كلها خاطئة ولا تستند إلى أساس علمي. قال للطلاب: "لا أحد منكم مركز للكرة الأرضية، لأنه ليس لها مركز. كما أن الأرض ليست مركز المجموعة الشمسية، التي هي ليست مركز مجرة درب التبانة، التي هي ليست مركز الكون كما تظنون." مع أن الحقيقة هي أن لكل منا مركزه وعالمه. وليس ضروريًا أن نكون مركزًا للعالم أو للكون لكي نكون مختلفين واستثنائيين. فلكل منا بصمة عينه وبصمة إبهامه، وكذلك بصمة ذكائه المختلفة تمامًا. فليس هناك إنسان تتفاعل خلاياه الدماغية كيميائيًا وكهربيًا بنفس الإيقاع والتواتر الذي تشهده خلايا مخ إنسان آخر. وبعد أن تم رسم تسلسل الجينوم البشري وخريطته التي انتهى العلماء منها عام 2003، تبين أن الاختلاف الجيني بين أي إنسان وآخر لا يتجاوز عشر الواحد بالمائة. أي أن التشابه بين الأفريقي والأمازوني مثلاً، وبين الياباني والعربي، يصل إلى 99.9%، فلا يتجاوز الاختلاف واحدًا في الألف. ومع ذلك فقد كان هذا الفرق كافيًا لخلق كل ما يمكن تصوره من فروق فردية بين "نلسون مانديلا" الأفريقي العظيم، وبين "جورج بوش" الأمريكي اللئيم.
رغم أن معظم – وربما كل – مدارس العالم تقتل الإبداع، وأن نظم التعليم تقوم على التشابه لا على الاختلاف، وهو تفكير نظنه صحيحًا وهو خطأ، ورغم كل نظم التعليم المعلبة والجاهزة واللامسؤولة، فإن متوسط عمر الإنسان يزيد كل يوم بمعدل 5 ساعات. وبعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، فقد شهد اقتصاد 80 دولة حول العالم نموًا بنسبة 4% أو أكثر خلال العامين الأخيرين، وهو ما لم يتحقق في كل عقود الطفرات الاقتصادية السابقة. حتى إن الهاتف الذكي الذي نحمله اليوم في جيوبنا يختزن طاقة معالجة معلوماتية تفوق نظام الكمبيوتر الذي حمل مركبة "أبولو" إلى الفضاء الخارجي قبل خمسين عامًا. ولم يحدث كل هذا إلا بسبب ما بيننا من اختلاف طفيف في الجينات، واختلاف عنيف في القدرات.
قال لي الطبيب الذي أعاد لي نعمة الإبصار – بمشيئة الله – بعد عمليتين جراحيتين قبل شهرين، إن مثل هذه العمليات لم تكن ممكنة بهذا المستوى من النجاح قبل عشر سنوات. ليس بسبب مهارة الطبيب فقط، وإنما بسبب أجهزة التصوير الدقيقة التي حددت للطبيب المساحات الضيقة التي يجب أن يحقن فيها الغاز المتسامي، والذي يتبخر تلقائيًا، بينما تحافظ الشبكية على مائها الزجاجي. فما الذي يجعل إنسانًا ما يبدع في تركيب شبكات العيون البصرية، بينما يبدع آخرون في بناء شبكات المعلومات العنكبوتية؟ إنها تلك القدرة البشرية الخارقة التي أكد تشريح خلايا المخ تباينها بين كل بني البشر، حتى بين الإخوة والتوائم.
فما هو سر انتشار خطاب "ديفيد" المغمور في المدرسة المغمورة أكثر من خطاب "فريد" المشهور في الجامعة المشهورة؟ إنه نفس السبب الذي جعل الناس يحبون التمتين® لأنه يركز على مواطن القوة لا نقاط الضعف! وهو نفس السبب الذي يجعل من يفكرون كثيرًا ينجزون قليلاً، ومن ينفذون قليلاً ينجزون كثيرًا.
فكر بالمقلوب ليستقيم عالمك! واترك قراءة هذا المقال الآن واذهب إلى العمل! أو اقرأ المقال معكوسًا .. بادئًا من هنا. ثم استمع لخطاب Wellesley High School قبل – أو حتى دون – خطاب Zakaria Fareed.
لــ نسيم الصمادي
موقع إدارة .كوم
WWW.EDARA.COM