mohamadamin
حكيم المنتدى
آداب الصيام الظاهرة والباطنة .. ؟؟
لا شك أن علة الزيادة في ثواب الصائمين إنما ترتد إلى خصوصيته بوصفه صفة من صفات الذات الإلهية. ومن هنا، كان الصوم من أشق الأمور على النفوس لأنه خلافما جبلت عليه من حيث أن قوامها لا ينفك عن المادة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للحق سبحانه. ومن أجل هذا أيضا، رغّب المولى عزّ وجلّ في الصيام لما فيه من التشبه به في صفة الصمدية.
وإذا كان صوم «العوام» يقتصر على اجتناب المفطرات الظاهرة، وحاصلها كف البطن والفرج عما ينافي الإمساك الشرعي المأمور به، وصوم «الخصوص» الذي يضم إلى ما سبق كف السمع والبصر واللسان وسائر الجوارح عن الآثام والمحرمات صغيرها وكبيرها؛ فإن صوم «خصوص الخصوص» يضم إلى ذينك صوم القلب وطهارة السر عن الهمم الدنيئة والخواطر الرديئة والأفكار الدنيوية، بالكف عما سوى الله أصلا ورأسا: فمن فكّر فيما سوى الله تعالى مما يحجب عنه كالدنيا التي لا تراد إلا للدين، أو باشر من الأعمال ما ليس على سنن المتقين، فهو مفطر عن هذا الصوم الأكمل ومنحرف عن السنن الأفضل.
ولذلك؛ حكم أرباب القلوب بأن من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه (وقت إفطاره) كتبت عليه خطيئة!، فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل الله وقلة اليقين برزقه الموعود.
وإذا تقررت هذه المراتب الثلاث للصوم، فبفوات الأولى تختل «الصحة» عند علماء الظاهر والباطن، وبفوات الثانية والثالثة يختل «الكمال» عند علماء الظاهر، والصحة عند أئمة الباطن، فإنهم يعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول للمقصود. أما علماء الظاهر؛ فالصحة عندهم إجزاء العبادة وسقوط الطلب بفعلها، وإن لم يترتب عليه ثواب، وذلك إنما يتوقف على الشروط الظاهرة فقط، لأنه الذي يطيقه عموم المكلفين. ولو كانت شروط الكمال المذكورة شروطا للصحة ظاهرا أيضا لعجز أكثر الناس، ولم يمكنهم القيام بهذه العبادة العظيمة، وكذا يقال في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.
ويخلص الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه «إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام» إلى القول: وحاصل كلام أهل الطريقتين الكاملتين المرضيتين - الفقهاء والمتصوفة، خلافا لمن زعم أن بينهما تنافيا - أن كمال هذه المرتبة التي هي حفظ الظاهر والباطن عن النقص والإثم، لا يتم إلا بالمحافظة على عدة أمور: منها غض البصر وكفه عن كل نظر محرم أو مكروه، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث القدسي: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد له حلاوته في قلبه»؛ وإنما وجد هذه الحلاوة في قلبه لأنه صانه عن أن يصل إليه ذلك السهم المسموم.
ومنها أيضا: حفظ اللسان عن كل لغو وهذيان، وخصومة وفحش، ومراء وكذب، وغيبة ونميمة، وكذلك: كف السمع عن الإصغاء إلى كل ما حرم الله، لأن سماعه بمثابة قوله، بل بمثابة أكل الحرام، كما أشار إليه سبحانه وتعالى حين قال: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت»، وقال أيضا: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُون».
وعلى ذلك؛ فالسامع للمغتاب مشارك له في الإثم لقوله تعالى: «إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ». ومنها: إقامة ناموس الخوف والرجاء في قلبه بعد انتهاء صومه، وذلك لأنه لا يدري أيقبل صومه فيكون من المقربين، أو يرد فيكون من المبعدين؟! ومن جميل ما يروى بشأن ذلك أن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، مرّ ذات يوم بقوم يضحكون يوم العيد، فتعجب منهم وقال: إن الله عز وجل خلق شهر رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخيب فيه المقصرون، وأيم الله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته عن ترجيل شعر وتصقيل ثوب.
ولهذا أيضا، أجاب الأحنف بن قيس على قومه عندما قالوا له: إن الصوم يضعفك لكبرك! بالقول: إنني أعده لشر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه! ومن أسف؛ فإن القوامين الصوامين قد انقرضوا، فلم يعد يستقبل رمضان بنفس الحرارة التي كان يستقبله بها السلف الصالح إنما يستقبله اليوم أقوام بَعُدَ عهدهم عن الإسلام الصحيح، فعادوا أشبه بذلك الأعرابي الذي أسلم في أول الإسلام، ثم قدم على ابن عم له في بعض المدن قبل أن يذوق حلاوة الإيمان، ويستشعر لباس التقوى، ويستبطن حقيقة الدين، فأدركه شهر رمضان. فقيل له: يا أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان، فقال وما شهر رمضان! قالوا: الإمساك عن الطعام. فقال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: بالنهار. قال: أفيرضون بدلا من هذا الشهر؟ قالوا: لا. قال: وإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تُضْرب وتُحْبس. فصام يوما ثم لم يستطع، فتحول عنهم وجعل يقول:
يقول بنو عمي وقد زرتُ مصرهم تهيأ أبا عمرو لشهر صيام فقلت لهم: هاتوا جرابي ومزودي سلام عليكم.. فامكثوا بسلام! وبادرتُ أرضا ليس فيها مسيطرٌ علي ولا منّاع أكل طعام!! ولا شك أن أكثر الناس يستقبل رمضان اليوم بعقلية هذا الأعرابي، لا باعتباره ركنا من أركان الدين الحنيف يقيمه من أقامه، ويهدمه من يهدمه، ولا باعتباره طهورا للنفس ونورا للقلب وجلاء للمشاعر، إنما يستقبلونه باعتباره تقليدا من التقاليد العتيقة، وفسحة للترويح عن النفس ومتابعة الأعمال الفنية التي تصيب المشاهد بالتخمة لكثرة عددها، حيث عُرض في رمضان الفائت نحو مائة وسبعين عملا تلفزيونيا بتكلفة قدرها ثلاثة مليارات دولار في وطن يئن في أغلب دوله نصف سكانه من الفقر والحاجة! وكما يؤكد أحمد حسن الزيات؛ فقد أصبح رمضان اليوم يمثل ثلاثين عيدا للفطر، لا ثلاثين يوما للصوم، فإذا به عبارة عن لفظ ضاع معناه، واسم فقد مسماه، ورسم محيل من رسوم الفاطميين، تجد فيه المسابح في أيدي الرجال، والمصابيح في أنامل الأطفال، والمآذن تتألق بالأنوار، والمنازل تتقلب في الأنس وتتبادل الزيارات، والحوانيت ساهرة الليل والبيوت نائمة بالنهار، ولكنك لا تجد اليوم ما كنت تجده بالأمس من التقوى التي تعمر القلب والخشوع الذي يغمر المشاعر، والرحمة التي تعم الخلق، والزهد في الطعام والشراب! واتساقا مع المعنى الباطني للصيام، فليس المطلوب من الصائم إذن مجرد الإمساك عن المأكل والمشرب فقط، وإنما لا بد من صوم الباطن كذلك، أي أن يتحقق الوجهان معا بحيث يكون الصوم ضبطا للظاهر والباطن وكما أن الأول (الظاهر) يحصل بكف الجسد وإمساكه عن الطعام، كذلك يكون الثاني (الباطن) بكف الجوارح عن الآثام.
فإذا فهمتَ سر الصوم عند أولي الألباب ممن يعقلون وأصحاب القلوب ممن يفهمون، ظهر لك أنه لا جدوى بتاتا لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في نحو الغيبة والنميمة طوال النهار؛ فكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش! ناهيك عن أنّ أمثال الجبال عبادة من هذا القبيل لا توازن ذرة من عبادة عارف يتحرى بها مواقع كمالها وفواتح أفضالها. ولذلك قال العلماء: كم من مفطر صائم، أي لحفظه جوارحه وحواسه عن الآثام، وكم من صائم مفطر: أي لعدم حفظه لذلك! وبفهم سر الصوم هذا؛ يتضح أنّ من صام عن شهوتي البطن والفرج، وأفطر بتعاطي الآثام يكون كمن مسح أعضاء وضوئه ثلاثا ثلاثا، فموافقته العدد الظاهر مع إهماله المقصود - وهو الغَسْل - يوجب فساد صلاته وخسار تجارته، مع ملاحظة فساد وضوئه كذلك لأن مسح الأعضاء، مع توافر الماء، لا يصح معه الوضوء. ومن تناول تينك الشهوتين ولم يتعاط مؤثما يكون كمن غسل كل عضو مرة فقط، فصلاته صحيحة مقبولة، لإتيانه بالأصل الذي هو الغَسْلُ، وإن ترك الفضل الذي هو الثلاث. ومن جمع بينهما، أي بين صومي الظاهر والباطن، كان كمن غسل كل عضو ثلاثا فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال.
وبهذا المعنى يكون الصوم قيمة روحية كبرى تنمي في جسد الإنسان وروحه إحساس الحاجة والحرمان والرضا والشبع. أما الصوم في الشتاء؛ فهو «الغنيمة الباردة» والكنوز المعرضة التي لا يوجف الناس عليها من خيل ولا ركاب، ولا يتجشمون فيها كثيرا من الصعاب، إنه مظهر الجهاد الأكبر كما دل عليه حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». كما أنه أمانة أيضا بحسب ما رواه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع».
لا شك أن علة الزيادة في ثواب الصائمين إنما ترتد إلى خصوصيته بوصفه صفة من صفات الذات الإلهية. ومن هنا، كان الصوم من أشق الأمور على النفوس لأنه خلافما جبلت عليه من حيث أن قوامها لا ينفك عن المادة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للحق سبحانه. ومن أجل هذا أيضا، رغّب المولى عزّ وجلّ في الصيام لما فيه من التشبه به في صفة الصمدية.
وإذا كان صوم «العوام» يقتصر على اجتناب المفطرات الظاهرة، وحاصلها كف البطن والفرج عما ينافي الإمساك الشرعي المأمور به، وصوم «الخصوص» الذي يضم إلى ما سبق كف السمع والبصر واللسان وسائر الجوارح عن الآثام والمحرمات صغيرها وكبيرها؛ فإن صوم «خصوص الخصوص» يضم إلى ذينك صوم القلب وطهارة السر عن الهمم الدنيئة والخواطر الرديئة والأفكار الدنيوية، بالكف عما سوى الله أصلا ورأسا: فمن فكّر فيما سوى الله تعالى مما يحجب عنه كالدنيا التي لا تراد إلا للدين، أو باشر من الأعمال ما ليس على سنن المتقين، فهو مفطر عن هذا الصوم الأكمل ومنحرف عن السنن الأفضل.
ولذلك؛ حكم أرباب القلوب بأن من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه (وقت إفطاره) كتبت عليه خطيئة!، فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل الله وقلة اليقين برزقه الموعود.
وإذا تقررت هذه المراتب الثلاث للصوم، فبفوات الأولى تختل «الصحة» عند علماء الظاهر والباطن، وبفوات الثانية والثالثة يختل «الكمال» عند علماء الظاهر، والصحة عند أئمة الباطن، فإنهم يعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول للمقصود. أما علماء الظاهر؛ فالصحة عندهم إجزاء العبادة وسقوط الطلب بفعلها، وإن لم يترتب عليه ثواب، وذلك إنما يتوقف على الشروط الظاهرة فقط، لأنه الذي يطيقه عموم المكلفين. ولو كانت شروط الكمال المذكورة شروطا للصحة ظاهرا أيضا لعجز أكثر الناس، ولم يمكنهم القيام بهذه العبادة العظيمة، وكذا يقال في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.
ويخلص الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه «إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام» إلى القول: وحاصل كلام أهل الطريقتين الكاملتين المرضيتين - الفقهاء والمتصوفة، خلافا لمن زعم أن بينهما تنافيا - أن كمال هذه المرتبة التي هي حفظ الظاهر والباطن عن النقص والإثم، لا يتم إلا بالمحافظة على عدة أمور: منها غض البصر وكفه عن كل نظر محرم أو مكروه، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث القدسي: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد له حلاوته في قلبه»؛ وإنما وجد هذه الحلاوة في قلبه لأنه صانه عن أن يصل إليه ذلك السهم المسموم.
ومنها أيضا: حفظ اللسان عن كل لغو وهذيان، وخصومة وفحش، ومراء وكذب، وغيبة ونميمة، وكذلك: كف السمع عن الإصغاء إلى كل ما حرم الله، لأن سماعه بمثابة قوله، بل بمثابة أكل الحرام، كما أشار إليه سبحانه وتعالى حين قال: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت»، وقال أيضا: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُون».
وعلى ذلك؛ فالسامع للمغتاب مشارك له في الإثم لقوله تعالى: «إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ». ومنها: إقامة ناموس الخوف والرجاء في قلبه بعد انتهاء صومه، وذلك لأنه لا يدري أيقبل صومه فيكون من المقربين، أو يرد فيكون من المبعدين؟! ومن جميل ما يروى بشأن ذلك أن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، مرّ ذات يوم بقوم يضحكون يوم العيد، فتعجب منهم وقال: إن الله عز وجل خلق شهر رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخيب فيه المقصرون، وأيم الله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته عن ترجيل شعر وتصقيل ثوب.
ولهذا أيضا، أجاب الأحنف بن قيس على قومه عندما قالوا له: إن الصوم يضعفك لكبرك! بالقول: إنني أعده لشر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه! ومن أسف؛ فإن القوامين الصوامين قد انقرضوا، فلم يعد يستقبل رمضان بنفس الحرارة التي كان يستقبله بها السلف الصالح إنما يستقبله اليوم أقوام بَعُدَ عهدهم عن الإسلام الصحيح، فعادوا أشبه بذلك الأعرابي الذي أسلم في أول الإسلام، ثم قدم على ابن عم له في بعض المدن قبل أن يذوق حلاوة الإيمان، ويستشعر لباس التقوى، ويستبطن حقيقة الدين، فأدركه شهر رمضان. فقيل له: يا أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان، فقال وما شهر رمضان! قالوا: الإمساك عن الطعام. فقال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: بالنهار. قال: أفيرضون بدلا من هذا الشهر؟ قالوا: لا. قال: وإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تُضْرب وتُحْبس. فصام يوما ثم لم يستطع، فتحول عنهم وجعل يقول:
يقول بنو عمي وقد زرتُ مصرهم تهيأ أبا عمرو لشهر صيام فقلت لهم: هاتوا جرابي ومزودي سلام عليكم.. فامكثوا بسلام! وبادرتُ أرضا ليس فيها مسيطرٌ علي ولا منّاع أكل طعام!! ولا شك أن أكثر الناس يستقبل رمضان اليوم بعقلية هذا الأعرابي، لا باعتباره ركنا من أركان الدين الحنيف يقيمه من أقامه، ويهدمه من يهدمه، ولا باعتباره طهورا للنفس ونورا للقلب وجلاء للمشاعر، إنما يستقبلونه باعتباره تقليدا من التقاليد العتيقة، وفسحة للترويح عن النفس ومتابعة الأعمال الفنية التي تصيب المشاهد بالتخمة لكثرة عددها، حيث عُرض في رمضان الفائت نحو مائة وسبعين عملا تلفزيونيا بتكلفة قدرها ثلاثة مليارات دولار في وطن يئن في أغلب دوله نصف سكانه من الفقر والحاجة! وكما يؤكد أحمد حسن الزيات؛ فقد أصبح رمضان اليوم يمثل ثلاثين عيدا للفطر، لا ثلاثين يوما للصوم، فإذا به عبارة عن لفظ ضاع معناه، واسم فقد مسماه، ورسم محيل من رسوم الفاطميين، تجد فيه المسابح في أيدي الرجال، والمصابيح في أنامل الأطفال، والمآذن تتألق بالأنوار، والمنازل تتقلب في الأنس وتتبادل الزيارات، والحوانيت ساهرة الليل والبيوت نائمة بالنهار، ولكنك لا تجد اليوم ما كنت تجده بالأمس من التقوى التي تعمر القلب والخشوع الذي يغمر المشاعر، والرحمة التي تعم الخلق، والزهد في الطعام والشراب! واتساقا مع المعنى الباطني للصيام، فليس المطلوب من الصائم إذن مجرد الإمساك عن المأكل والمشرب فقط، وإنما لا بد من صوم الباطن كذلك، أي أن يتحقق الوجهان معا بحيث يكون الصوم ضبطا للظاهر والباطن وكما أن الأول (الظاهر) يحصل بكف الجسد وإمساكه عن الطعام، كذلك يكون الثاني (الباطن) بكف الجوارح عن الآثام.
فإذا فهمتَ سر الصوم عند أولي الألباب ممن يعقلون وأصحاب القلوب ممن يفهمون، ظهر لك أنه لا جدوى بتاتا لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في نحو الغيبة والنميمة طوال النهار؛ فكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش! ناهيك عن أنّ أمثال الجبال عبادة من هذا القبيل لا توازن ذرة من عبادة عارف يتحرى بها مواقع كمالها وفواتح أفضالها. ولذلك قال العلماء: كم من مفطر صائم، أي لحفظه جوارحه وحواسه عن الآثام، وكم من صائم مفطر: أي لعدم حفظه لذلك! وبفهم سر الصوم هذا؛ يتضح أنّ من صام عن شهوتي البطن والفرج، وأفطر بتعاطي الآثام يكون كمن مسح أعضاء وضوئه ثلاثا ثلاثا، فموافقته العدد الظاهر مع إهماله المقصود - وهو الغَسْل - يوجب فساد صلاته وخسار تجارته، مع ملاحظة فساد وضوئه كذلك لأن مسح الأعضاء، مع توافر الماء، لا يصح معه الوضوء. ومن تناول تينك الشهوتين ولم يتعاط مؤثما يكون كمن غسل كل عضو مرة فقط، فصلاته صحيحة مقبولة، لإتيانه بالأصل الذي هو الغَسْلُ، وإن ترك الفضل الذي هو الثلاث. ومن جمع بينهما، أي بين صومي الظاهر والباطن، كان كمن غسل كل عضو ثلاثا فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال.
وبهذا المعنى يكون الصوم قيمة روحية كبرى تنمي في جسد الإنسان وروحه إحساس الحاجة والحرمان والرضا والشبع. أما الصوم في الشتاء؛ فهو «الغنيمة الباردة» والكنوز المعرضة التي لا يوجف الناس عليها من خيل ولا ركاب، ولا يتجشمون فيها كثيرا من الصعاب، إنه مظهر الجهاد الأكبر كما دل عليه حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». كما أنه أمانة أيضا بحسب ما رواه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع».