اللغة العربية ...ربانية

mohamadamin

حكيم المنتدى

اللغة العربية ...ربانية
نشأة اللغة
اختلف العلماء اختلافا واسعاً في مسألة نشوء اللغة، على امتداد الحضارات القديمة والحديثة، فكان الفلاسفة وعلماء اللغة مشتغلين بفكرة البحث عن أصل اللغة، كيف نشأت؟ ومن أين جاء الإنسان بهذه القدرة على الكلام؟ وهل أن اللغات المتعددة للشعوب كانت في الأصل لغة واحدة تعددت لهجاتها فصارت لغات متقاربة أو متباينة؟ أو أن الأصل لم تكن لغة واحدة بل كانت لغات نشأت مستقلة بعضها عن بعض بين أقوام مختلفة من الأرض؟
لقد قيل في نشأة اللغة عدة نظريات أهمها:
1- أنها توقيفية، أي بتعليم ووحي إلى آدم من ربه لقول القرآن (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة:31) أي وقفه على اللغة، وفي الديانة اليهودية والمسيحية أن الله خلق آدم وخلق لغة معه في وقت واحد لأن الله كلم آدم بلغته وردّ عليه آدم بلغته.(1)
2- أنَّها ابتدعت واستحدثت على أيدي جماعة ممن يتمتعون بعقلية عالية اجتمعوا ليصطلحوا على أسماء الأشياء، فوضعوا لكل واحد منها سمة ولفظا، وقد ذهب إلى هذا الرأي ابن جني وجان جاك روسو، وقد اعتبر الأخير اتفاق الحكماء ظاهرة من ظواهر ( العقد الاجتماعي )(2).
3- أنَّها نشأت بسبب محاكاة البشر لأصوات الطير والحيوانات والزوابع والموج والمياه الجارية وغيرها من أصوات الطبيعة، ومن أصوات الطبيعة اشتقت الأفعال والأسماء من جنس أصواتها مثل النباح والعواء والصهيل والزئير والأزيز والدقّ وغيرها.(3)
هذا وقد تبنى كل عالم لغوي نظرية معينة وأيّدها، لكن القارئ في هذه الأبحاث لا يرى حسما وترجيحا لانتصار كل إلى نظرية معينة دون سواها.
وفي اعتقادي أن النظريات الثلاث وغيرها من النظريات المبحوثة عند علماء اللغة إنما اشتركت جميعها في نشأة اللغة بنسب متفاوتة، وبتركيز لسهم نظرية معينة في طور من حياة اللغة دون أخرى، فقد مرّ على وجود البشر فترة من الزمن يعيش مع بقية الكائنات ويصارع قوى الطبيعة، ومن الطبيعي وهو في هذه الحالة يحاكي الطبيعة في أصواتها وطرائق التفاهم بين أجناسها وتتكون لديه لغة الإشارات والأصوات البدائية بحيث لا تتعدى اللغة تأمين حاجة الوجود والغذاء والدفاع عن النفس رغبة في التكاثر وعدم الانقراض، وقد تمر حالة لشخصين أو عدة أشخاص بدافع الحاجة في الاتفاق والتواضع فيما بينهم لوضع رموز وإشارات تعبر عن مبادئ للغة كما تحتاج قبيلة ما أن تضع اصطلاحا لرمز لغوي يؤدي لها غرضها الخاص بها.

إن هذين الافتراضين المجتمعين يمكن حدوثهما طبيعيا للبشر الهمج (البدائي) وبالتالي تنشأ لغة لهؤلاء البشر الهمج الذي هو أقرب إلى حياة الحيوان مع إمكان تطوير هذه اللغة المفترضة تبعا للتأثيرات الخارجية ما دامت هذه الظروف الخارجية تناسب سلم التطور. إلا أن اللغة التي نعنيها في البحث ليست هي اللغة التي تؤدي الدور العادي للاتصال البشري، وإنما الذي يهمنا بحثه هي اللغة الإنسانية الراقية التي ترتقي بفكر البشر إلى إنسان صانع الحضارة، إلى الإنسان الذي يستوعب إرادة السماء، يدرك مهمته في الحياة ويؤدي دوره المناط به، وما من شك أن اللغة هي الوعاء للفكر والحاضن الأمين له، وما بين الفكر واللغة علاقة جدلية؛ وبمقدار ثراء أحدهما إثراء للآخر، فما هي هذه اللغة التي تستوعب دور الإنسان؟ وأين نشأت هذه اللغة التي هي أم اللهجات واللغات التي كان لها الفضل الأصيل في أساس الحضارات للعالم؟ وما هي اللغة التي غيرت عصور الظلام إلى عصر النهضة ؟ وما علاقة هذه اللغة بالتعليم الرباني؟ للإجابة على السؤال الأخير لا بدّ من كشف القناع ولو مختصرًا عن جنة آدم وحواء الأرضية وما تمّ لهما من تخليق في المصفوفات الجينية، وتعليم رباني لأسرار اللغة والفكر والدور الإنساني الذي بدأ بهما في هذا الكوكب الأرضي الذي ننعم بالحياة فيه.

آدم الإنسان العاقل الأول في شبه الجزيرة العربية
إن النظر في التراث العربي القديم يثبت أن (آدم الإنسان العاقل الأول) قد تولد بشراً من بويضة في أرض السراة من شبه الجزيرة العربية وكذلك حواء وبقية الآدميين، وعاش البشر الذين تخلقوا وقتئذ همجا بعيدين عن مفهوم الإنسانية وقيمها، إلا أن آدم الإنسان العاقل الأول قدّرت له المشيئة الربانية أن يدخل الجنة (الجنة الأرضية) وهناك أودعت روح آدم وعقله ليكون مهيئا لحمل الأمانة الربانية، وهناك علّم آدم الأسماء كلّها وبقي فيها حتى معصيته التي أدت إلى خروجه من الجنة، فآدم خرج في هذه الأرض ليبث علومه التي تزود بها في الجنة ولولا التخليق في جينات آدم العاقل لما أمكنه أن يعرف أسرار العلوم والفكر ولما كان لديه الاستعداد لإدراك هذه اللغة التي أنجبت هذا التراث العربي العظيم، والراجح أن آدم لم يخرج من الجنة مجرد معجم كلمات عربية لمسميات الأشياء، إن آدم أدرك أسرار اللغة التي هي عينها مفاتيح الفكر، والمسميات التي جاءت عبر هندسة لغوية متقنة بما تحمل من علاقة وتناسب عظيمين بين الأشياء ومسمياتها، وما تحمل من سمة إعجازية للنظام الرقمي الفلكي للغة العربية التي تعد أساسا للقول بتوقيفية اللغة، كما أسماها علماء اللغة، أي أن اللغة نشأت بتعليم رباني، ومن خلال التخليق الرباني للجينات الوراثية الخاصة بالقدرة على النطق وما تتطلبها القدرة اللغوية من خيال وإدراك وتحليل وتركيب وتذكر واستدعاء وغيرها من خواص اللغة هي التي انتقلت من جينات آدم الإنسان الأول إلى ذريته (4) (الرحمن *علّم القرآن *خلق الإنسان *علّمه البيان)(الرحمن 4:1).

إن تبنيّ مصطلح التوقيفية لهذه النظرية في تفسير نشأة اللغة كما اصطلح عليها علماء اللغة قاصرة عن المدلول؛ لأن مصطلح "التوقيفية" يستبطن الجمود، بينما اللغة العربية بدأت بآدم الإنسان العاقل الأول ثم تطورت وفيها قابلية التطور، إضافة لما رجحناه سابقا من إمكانية تصور المحاكاة لأصوات ظواهر الطبيعة كما أسلفناه في النظرية الثالثة وإمكانية حدوث وضع الحكماء مصطلحات معينة كما هو مفاد النظرية الثانية، وعليه فإني أقترح استبدال مصطلح التوقيفية بـ "نظرية التعليم الرباني"؛ لأن اللغة التي نتحدث عنها والتي بدأ انطلاقها من شبه الجزيرة العربية قديمة قدم الإنسان ـ كما رجّحه بعض الباحثين (5) بدأت فوق مستوى تطور الإنسان، ولو كانت هذه اللغة بعيدة عن التعليم الرباني لما أمكنها أن تكون أم اللغات، وأن تستوعب التراث العربي القديم وما يحوي من حقائق علمية لا افتراضية والتي هي أساس الحضارات في العالم. فما سبب تسمية هذه اللغة باللغة العربية؟

سبب تسمية اللغة العربية
لا يوجد تحديد واضح في أصل تسمية "العرب" ولا في أصل تسمية "اللغة العربية" بل نرى علماء (فقه اللغة) "حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فمنهم من ذهب إلى أن (يعرب) هو أول من أعرب في لسانه، وأنه أول من نطق بالعربية، وأن العربية إنما سميت به، ومنهم من قال أن إسماعيل هو أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إبراهيم، وأن إسماعيل أُلهِمَ هذا اللسان العربي إلهاما، وكان أول من فتق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة"(6).
أما الدكتور أحمد داوود صاحب كتاب تاريخ سوريا القديم فيطرح رأيا يفسر فيه نشأة العربية والسريانية والآمورية معا حيث يقول: (أنه قد تميز من بين الآباء العرب القدامى مجموعة كبيرة من الأسماء كان من بين أبرزها جميعا ثلاثة هم: "سر" و "مر" و "رب" وكل منها يعني "السيد" أما "سر" الذي تؤكد كلّ الدلائل على أنه كان متميزًا في منطقته الشرقية (أي شرق شبه الجزيرة العربية)، فيعني السيد العلي، ومؤنثه "سرت" و "سري" وتعني السيدة العلية، فكلمة "سري" تعني السيد العالي، وسراة القوم سادتهم، والسراة الجبال المرتفعة، والسروات القمم، والسرو الشجر المرتفع، و"سارة" هي السيدة والملكة، وإذا ما أضفنا نون الجمع تصبح "سرن" وتعني السوريين أو السريان لأن العربية القديمة لم تكن تكتب الصوتيات (و، ا، ي). أما "مر" فيعني "السيد" ومؤنثه "مرت" وتعني "السيدة" و"السيدة البيضاء" و"مرت" لا تزال تستعمل في العربية الدارجة حتى اليوم. و"رب" تعني السيد أيضا ومؤنثه "ربت" وتعني "السيدة"، وإذا ما أضفنا الألف "وهو أول حرف من الحروف الأبجدية العربية، والذي يعني الثور وهو رمز الخصوبة" بداية "سر، مر، رب" فتصير أسر وهم أبناء السيد سرّ وهم السريانيون. وكلمة أمر هم أبناء السيد مرّ وهم الآموريون، وكلمة أرب هم أبناء السيد ربّ وهم عرب بعد إبدال الألف عينا كما يحدث في اللهجات العربية، وكذلك حرف الألف هذا الذي هو رمز الخصوبة إذا صار نهاية كلمة "سر" لتكون الكلمة "سرأ " فتعني أخصب، وسرأت السمكة أي باضت، وسرأت المرأة كثر أولادها و "مرأ " أخصب وألقح، والمروءة في أصلها كمال الفحولة الإخصابية، ومرع تعني أخصب ( وهي عينها مرأ بإبدال الألف عينا ) فهؤلاء الآباء (سر، مر، رب) هم الذين انتشر أبناؤهم في كل الأرض العربية . وكما نزح السريان شرقا، فقد نزح الآموريون غربا ومنهم الفينيقيون. أما أبناء رب وهم "أرب" التي تعني عرب فهم الذين بقوا في جوف شبه الجزيرة العربية) (7). وهؤلاء الآباء الثلاثة المتميزون (سر، مر، رب) الذين هم أساس السريان والآموريين (الفينيقيين) والعرب هم أبناء (آنوش ابن شيث).
هل للعرب لغات متعددة أم لهجات للغة واحدة ؟
يكثر استعمال (اللغة) مكان (اللهجة) قديماً فيقال لغة تميم ولغة هذيل ولغة هوازن وغيرها، مع أن بين تميم وهذيل وهوازن وغيرها ما هي إلا فروق يسيرة، لذا فإن الدراسات الحديثة أسمتها "اللهجات العربية" لأن اللغة "هي الرابطة الحيوية بين أفراد المجتمع أو الأمة والتي تُعبر عن حاجاته وتجمع شمله."، أما اللهجة فلا تكون لديها القدرة على جمع شمل كل أفراد الأمة ونسيجها المتنوع، وهي مشتقة من لهج بالأمر لهجًا ويعني أولع به واعتاده أو أغري به فثابر عليه؛ لاتسام اللهجة بصيغة التفاهم الشعبي بين أفراد القبيلة أو المنطقة الجغرافية المحدّدة. وللتدليل على معنى اللغة ورد بيتان للشاعر العراقي صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750 هـ في ديوانه يقول فيهما:
بقـــدر لغـات المرء يكثر نفــعـه فتلك له عنـد الملمات أعــوان
فهافت على حفظ اللغات وفهمها فكل لسان في الحقيقة إنسـان
عربي

سرياني

فينيقي

جنوب الجزيرة والحبشة


أب

أبو

أبا

أب

أخ

أخو

أحا

أحو

يد

إدو

إيدا

أد

عين

أنو

عينا

عين

ثمان

شمانو

تمانا

سماني

عشر(10)

عشرو

عسر

عشرو

ثور

شورو

تورا

سور

جمل

جملو

حملا

جمل

ماء

مو

مايا

ماي

أرض

أرصتو

أرعا أرقا

أرض



وكل لغة لسان يختلف عن الآخر، وتعددها "اللغات" يعني تعدد الألسنة، وهذا هو المعنى الذي قصده الشاعر. فهل السريانية والآمورية لغات وألسنة؟ أو هي لهجات شقيقات مع العربية للغة واحدة ، وهي العربية العرباء ذات أل 22 حرفا والتي تطورت بعد سنين متطاولة وأدخلت ستة حروف صوتية فأصبحت 28 حرفًا وهي الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم.

إن ما وقفنا عليه عند بعض الباحثين العرب والمستشرقين الذين تناولوا ما يسمى "اللغات السامية" أثبتوا أن هذه اللغات أو اللهجات "حسب اختلاف مصطلحهم" إنما هي تابعة للغة أمّ واحدة وهي اللغة العربية معتمدين على علم التاريخ وعلم الآثار والدراسات المقارنة في أصول اللغة المشتركة لهذه اللهجات (8)، وإليك أيها القارئ الكريم جدولا مقارنًا لكلمات تعينناً على كشف القربى والاشتراك في أرومة واحدة، ولا تستدعي معرفتها سوى لبعض الإبدالات بين بعض الحروف (9) .

أما كيف تكون العربية هي اللغة الأم، فإن العلماء حين تتبعوا تاريخ نزوح السريانية والآمورية عن مواطنهم في الجزيرة العربية إلى التخوم العليا المجاورة لغيرهم من الشعوب والقبائل في الشمال والشرق والغرب، فقد جعلهم عرضة للاحتكاك الدائم بسبب التجارة والاستيطان وهذا بدوره سبب واضح في التأثير في لهجتهم الأم، أمّا العرب الذين بقوا في جوف شبه الجزيرة العربية شبه معزولين جغرافيا فقد بقيت لغتهم في حرز كبير عن تأثير الغير فيها، فبقيت نقية خالصة يقاس عليها.

ولكن من الطبيعي أن نطرح سؤالا في هذا الصدد وهو: هل نسمي السريانية والآمورية لهجتين من اللهجات العربية كما نسمي لهجات القبائل العربية كلهجة هذيل وهوازن وتميم وأمثالها؟ في حين أن هذه اللهجات لم تغادر موطنها بينما السريانية والآمورية نزحتا وكونتا ثقافة وفكرا خارج حدودها الأولى، إضافة للتغيرات الأوسع بينها وبين العربية قياسا بلهجات هذيل وهوازن وتميم وأمثالها، إن درجة القرب والبعد يلحظ فيها ما ذكرناه، لكن يبقى القرب والبعد محكوما بمعيار آخر، كما هي أبوّة الإنسان لأبنائه، فالابن يبقى ابنا لأبيه وكل يعتز بالآخر ويحسب عليه وإن ابتعد الموطنان مادام الابن منتميا لثقافة ومشاعر وهموم آبائه ووطنه الأم، وعلى العكس لو كان الابن وأبوه كلاهما في قرية واحدة ، لكن الثقافة والمرجعيات والهموم ومحددات الفكر واللغة متباينة ومتناقضة، فلا يحسب أحدهما على الآخر، ولا يفتخر أحدهما بالآخر في هذه الحالة بل يكون بين الجيلين بعد لا جسر بينهما.
وعطفا على المثال المتقدم لو أمكن للسريانية والآمورية أن تنفكا عن العربية العرباء بعدما نزحتا فإنه حينئذ يصح عليهما في علم اللغة أنهما لغتان باعتبار قدرتهما على الانفصال والاستقلال أو الانسلاخ عن جلدهما وتطوير هذه اللهجات إلى لغة تعتمد أصولا وقواعد غير قواعد العربية العرباء أو تطويرًا لها بحيث لا تمت إلى اللغة الأم بصلة، ولكن هل للغة العربية العرباء أن تنفك وتستغني عن أخواتها الشقيقات؟ وهل بإمكان العربي صاحب لسان الفصحى حتى اليوم أن يفهم ويفسر مدلولات التراث العربي القديم الضخم الثري دون الرجوع والاستعانة بلهجات شقيقات العربية إلى جانب اللغة الأم؟ هذا ما سيتضح قريبا بما يناسب مساحة المقال .
نظام الإبدال والقلب مظهران يفسران نشوء اللهجات العربية
يذكر علماء (فقه اللغة) في تفسير نشأة اللهجات العربية عدة عوامل منها: اتساع الرقعة الجغرافية لشبه الجزيرة العربية، ووجود الحواجز الطبيعية كالجبال بين سكنى القبيلة والأخرى، وزيادة ستة أحرف وهي: ث، خ، ذ (ثخذ) ض، ظ، غ (ضظغ) وهي تتمة حساب الجمّل في العربية العرباء دون شقيقاتها، إضافة للظواهر الصوتية التي تنشأ بسبب العيوب الحلقية في مخرج الصوت وحبال الحنجرة؛ مما يؤدي بدوره إلى اختلاف التلفظ بين الصحيح والسقيم، وهذه العوامل ذاتها تنتج ظاهرة صرفية وصوتية بحيث تختلف الكلمة في أصلها في تغير بعض حروفها وفي زيادتها ونقصانها وفي طريقة نطقها بين منطقة وأخرى، هذه الظاهرة فصّلتها كثير من الكتب اللغوية في مبحثي "الإبدال والقلب" (10).
الإبدال: هو تغيير صوت حرف بصوت حرف آخر، والكتب التي تتعرض لموضوع الإبدال الواقع بين اللهجات العربية تذكر الإبدالات الآتية وغيرها:
  1. الكشكشة: إبدال حرف الكاف في المؤنث شينا، فيقولون في مررت بك = مررت بش.

  • الكسكسة: إبدال حرف الكاف في خطاب المؤنث سينا: في مررت بك = مررت بس.
  • الفحفحة: وهي جعل الحاء عينا مثل (عتى حين) في قوله تعالى (حتى حين).
  • الوتم: وهو إبدال السين تاء مثل قولهم النات بدلا من الناس.
  • الإستنطاء: وهو إبدال العين نونا مثل قولهم: أنطيناك بدلا من أعطيناك.
  • الطمطمانية: وهي إبدال لام التعريف ميما مثل قولهم: طاب امهواء يريدون: طاب الهواء.
ومن الإبدالات الأخرى التي تحصل بين العربية والسريانية والفينيقية الآتي:
  1. إبدال الحاء ألفا: مثل أور أصلها حور (المغارة).

  • إبدال الفاء ثاء: مثل فرات (نهر الفرات) تبدل ثرات.
  • إبدال السين شينا: مثل السبت في السريانية شبثو، شمس تبدل شمش، رأس تبدل ريشو.
  • إبدال العين ألفا: مثل عبرام تلفظ أبرام، وعربَ= أرب.
  • إبدال أل التعريف هاء: مثل النخلة تتحول إلى هدقلة.
  • إبدال الظاء طاء مثل: ظفر طفرو، الظهر طهرو، قيطو: وأصلها قيظ (شديد الحرارة ).

القلب: وهو تقديم بعض أحرف الكلمة على بعضها مثل:
  • قاف الأثر وقفاه (أي تتبّعه).
  • عاث يعيث / عثى يعثي.
  • تقرطب الرجل على قفاه، وتبرقط، إذا سقط.
  • غلام مبعنق ومعبنق ( أي سيئ الخلق ).
  • ماء عقّ، وماء قعّ (هو الماء المر ).

  • سمعت رزّة القوم، وسمعت زرّة القوم، بتقديم الزاء على الراء (أي سمعت أصواتهم).

والإبدال والقلب أكثر مما ذكرناه، وهما بدورهما يؤثران في اختلاف اللهجات العربية ومنها السريانية والفينيقية، حينما تكون الكلمة الأفصح أو الأشهر في العربية الأم على الوجه الذي لم تأخذه لهجة من اللهجات مثل حتى (بالحاء) هي الأشهر بينما بعض اللهجات تلفظها "حَتّى" في قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف:35) "عتى حين"، ومن هذا الإبدال والقلب قد يبدو لغير المدقق أن كلمات بعض اللهجات كالسريانية والفينيقية لا تربطها باللغة الأم رابط.

فاللهجات العربية التي حدثت بسبب العوامل السابقة الذكر مهما ابتعدت بعض الشيء عن اللغة الأم؛ إلا أن التراث العربي بآدابه وعلومه لا يطلق إلا على اللغة العربية بمجموع لهجاتها، وقد كثرت الدراسات الجامعية سواء المتخصصة في كلّ لهجة على حدة أو الدراسات المقارنة وذلك من أجل التوسع والوقوف على خصائص التراث العربي، فضلا عن الدراسات الأخرى للّهجات المهاجرة كالسريانية والآمورية الفينيقية، ولا زلنا بحاجة إلى بحوث تعنى باللغة العربية ولهجاتها وخصوصا الواردة في القرآن الكريم ومعرفة كل خصائصها وقواعدها واكتشاف أسرار الحروف والمدلول الدقيق للكلمات والتعابير بدل التيه في أقوال المفسرين حينما لم يوفقوا لدراسة اللغة العربية بلهجاتها، ولعل الزمن الآتي كفيل بكشف القناع عن سر احتواء النص القرآني على لغات القبائل ومنها لغة طيئ وكنانة وجرهم وتميم وحمير وقيس عيلان وخزاعة ولخم وهوازن وثقيف وما وافق لغة السريانية وما تسمى العبرانية وغيرها كما ذكرها أبو عبيد القاسم بن سلام (157- 224هـ) في كتابه لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم. ولمعرفة اللغة العربية ولهجاتها وطريقة هجرتها خارج الوطن العربي بما تحمل من أساس لغوي له الأثر الواضح في حضارة الإنسان.

اللغة العربية هي أصل اللغات
يعترف دارسو اللغة اللاتينية "لغة الرومان" التي انتشرت وسادت بتوسع إمبراطوريتهم التي امتدت من تخوم فارس شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا يعترفون بأن اللغة اللاتينية أخذت الكثير من مفرداتها من اللغات الأخرى، ويميل الدارسون إلى حصر الاقتراض اللغوي اللاتيني من مصدرين أساسيين أو ثلاثة:
يقول "إرنوت" و"ماييه" [في مقدمة كتاب( المعجم التأثيلي للغة اللاتينية)]: إن نصيبا مما اقترضته اللغة اللاتينية من اللغات الأخرى يسهل التعرف عليه فقد زودت الإغريقية اللاتينية بمفردات حضارية شعبية، ويضيف المؤلفان: إلا أن اللاتينية استعارت من لغات مجهولة مفرداتها أو شبه مجهولة إلى جانب اقتراضها من لغات نعرف معجمها وبالتالي فإن الإغريقية واللاتينية قد اقترضتا مباشرة أو بطريقة غير مباشرة من معجم واحد لا نعرف عنه شيئا). (11) فهل جهْلُ هذين المؤلفين وأمثالهما من الغربيين له ما يبرره؟ وهل اليقين في تحديد المعجم الذي زوّد الإغريقية واللاتينية عصي على العالم حينما يجري دراسة مقارنة بين اللاتينية والعربية؟ إنه على الأرجح مخطط يريد طمس الحقيقة ، فمنذ أن ظهر العالم الألماني "شلوتزر" بنظريته التي تقسم اللغات إلى ثلاثة: السامية، والحامية، واليافثية التي صارت تدعى الآرية نسبة إلى أبناء نوح، وسرت هذه الفكرة وسيطرت على أذهان العلماء بصورة تكاد تكون مطلقة، فمنذ دراسة "شلوتزر" اتضح الخيط الناظم لمثل هذه الآراء وأهدافها فلماذا لم تنسب اللغة إلى نوح على أقل تقدير، أو هي لهجات من لغة نوح؟ علما بأن هذا الافتراض إن كان مبنيا على طوفان نوح: فإن الطوفان لم يعم الكرة الأرضية، كما اتضح من بحوث بعض المحققين (12)، وماذا يقول شلوتزر عن الجنس البشري الذي بدأ من آدم الإنسان العاقل الأول إلى زمن نوح؟ هل وجدوا وتكاثروا بدون أن يكون لهم لغة ؟ أم هل بدأ الجنس البشري بدءًا من نوح أو بالأحرى من أبناء نوح: سام وحام ويافث؟

إن التقسيم الثلاثي للغة مع التأكيد على إبراز تفوق العرق السامي واختزال السامية في اليهود أخيرًا حيث صار العربي يتهم بمعاداة السامية هو خروج عن المبحث العلمي وعروج للتسييس والمصالح الضيقة، ولقد حدا بالباحث "يوسف يهودا" إلى قلب الحقيقة إذ يسلم تسليما تاما بصلة اللغة الهندية/ الأوربية (الآرية) كاليونانية باللغات (السامية) ثم يركز على صلتها بالعبرانية ليقول في مؤلفه أن (العبرانية يونانية) (13)، ويحسن هنا أن نأتي بعدة أمثلة من الكلمات مما أخذتها المعاجم اللاتينية، وجرى عليها نظام الإبدال والقلب، وهي من صميم اللغة العربية أو إحدى لهجاتها كالسريانية والآمورية وغيرها مثل:
  • صقل: school تعني في العربية شحْذُ السيف وجلاؤه، وصقال: الفرس صنعته وصيانته، ومن الفعل يعرف المكان الذي يصقل فيه، "اسكيلو" eskilo أي المعلم بالسريانية، والمدرسة هي المكان التي تصقل فيه شخصية المتعلم بالمعلومات والآداب والقدرات، وقد حدث إبدال بين الصاد والسين وبين القاف والكاف.
  • لغة السيمياء والإشارة: semiology هذه الكلمة انجليزية مكونة من مقطعين logy وتعني لغة حيث حدث إبدال بين الغين والجيم، أما المقطع الثاني وهو semio وهو سيماء وسيمياء (سيماهم في وجوههم)وهي رموز تدل على شيء ما، وهذا هو علم العلامات والرموز وهو يدرس استعمال العلامات الاصطلاحية ووظيفتها في المجتمعات.
  • ألف: alpha حرف الألف هو الحرف الأول من حروف الهجاء في العربية، وهو الأول في اليونانية.
  • برم، البرم: alibrum المبارم: المغزل التي يبرم بها، البريم: الحبل المفتول، خيط فيه ألوان تشدّه المرأة على حقويها.
  • ضرم: thermae الضرم : اشتعال النار والتهابها ، الضريم: الحريق، ضرم الشئ: اشتد حرّه ، وفي اليونانية thermos حمام عمومي (حرارة ، سخونة).

  • ثرى: تراب ، تربة : terra.
  • كفن: cophinos في اليونانية: kofinos غطاء، ستر، وفي العربية الكفن: التغطية ومنه سمي كفن الميت لأنه يستره.
  • مرمر: MARMOR في العربية مرر، المرمر: الرخام.
  • ابن: التي هي Son بالإنجليزية، و Sin بالروسية، فهي (صنو) Sino بالفصحى.
  • يكذب: Lie وهو مأخوذ من لي الكلام.
  • زرافة: girafa استعارتها الأسبانية من العربية بإبدال الزاي بالجيم (كما يلفظها أهل مصر ).

وحين يتوسع الباحث في الأصل اللغوي لأصل أغلب المصطلحات وأسماء الشخصيات والبلدان فلا يجد تفسيرًا منطقياً إلا في اللغة العربية بلهجاتها وإن نسبت إلى الإغريقية واللاتينية، كما أوضح هذه الحقيقة بعض من وقفنا عليه من الباحثين (14) ، ولقد تشرف الباحث الفرنسي الكبير بيير روسي بما هو أعم من هذه الحقيقة في كتابه مدينة إيزيس _ التاريخ الحقيقي للعرب "أن حضارة الإغريق لم تكن سوى شرفة أو ملحق لبناء العرب في الشرق، وهذا ما يعترف به اليونانيون أنفسهم" (15).
-----------------------------------
(1) حسن سعيد الكرمي، اللغة نشأتها وتطورها في الفكر والاستعمال، مطبعة السفير، الأردن، 2002، ص8.
(2) عبده الراجحي، فقه اللغة في الكتب العربية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية ، 1988، ص86.
(3) حسن سعيد الكرمي، م.س.، ص7-17 (بتصرف).
(4) جلال القصاب، آدم والتراث العربي،( بتصرف).
(5) أحمد داوود، تاريخ سوريا الحضاري القديم (المركز)، مطبعة الكاتب العربي، دمشق ، 1997 الحلقة الأولى والثانية.
(6 جواد علي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1976، 1/14،15.
(7) أحمد داوود، العرب والساميون وبنو إسرائيل، دار المستقبل، دمشق، ص29-38 (بتصرف).
(8) حسن ظاظا، الساميون ولغاتهم، دار القلم، دمشق، 1990. ، إبراهيم السامرائي، دراسات في اللغتين السريانية والعربية، دار الجيل، بيروت، 1985 أ. ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، دار القلم ، بيروت.
(9) أ. ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت، ص243-254 (بتصرف) .
(10) أنساس ماري الكرملي، نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها.، تشيم رابين، اللهجات العربية القديمة في غرب الجزيرة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 2002.
(11) علي فهمي خشيم، اللاتينية العربية، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2002، ص 11،12.
(12) يراجع بحث: هل كانت دعوة نوح عالمية ؟ من سلسلة أبحاث جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، البحرين، لم يطبع بعد.
(13) لمزيد من التوسع يراجع كتاب: علي فهمي خشيم، اللاتينية العربية، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2002.
(14) منشورات دار الصفدي، تاريخ سوريا القديم، دمشق ، 2003.، أحمد داوود، العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود.، علي الشوك، جولة في أقاليم اللغة والأسطورة، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 1999.
(15) بيير روسي، ترجمة فريد جحا، التاريخ الحقيقي للعرب، دار البشائر للطباعة والنشر، ط3، دمشق، 2004
 
عودة
أعلى