هذا نبي الإسلام (1)د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد بدأت مع القارئ الكريم سلسة حلقات في صحبة الأنبياء وفي عصر الخلفاء الراشدين وفي العصر الأموي وفي العصر الأيوبي ، وها أنا ذا أبدأ معه سلسلة جديدة في السيرة النبوية بعنوان " هذا نبي الإسلام " وآمل أن يوفقني الله سبحانه وتعالى في عرضها لتكون زادا لكل مسلم ، ونبراسا لكل من يريد التعرف على نبي الإسلام والتأسي والاقتداء به ،
والحلقة الأولى عن ميلاده ونشأته.
فالكثير منا يعلم أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد في شهر أبريل سنة خمسمائة وإحدى وسبعين ميلادية ، فجر يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من السنة "القمرية" ..
وقد ذكر كتاب السيرة كثيرا من الأقوال في تحديد متى كان هذا اليوم ، فقال بعضهم : وافق ذلك اليوم الثاني من الشهر ، وقال بعضهم : وافق اليوم الثامن ، وقال بعضهم : وافق اليوم العاشر ، وقال بعضهم وافق اليوم الثاني عشر ، ولكن الراجح أنه يومُ الثامن لأن الحسابات الحديثة تؤكد أنه اليومُ الوحيد الذي وافق يوم الاثنين من بين كل الأيام التي ذكروها ..
وعلى كل فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يثبت أنه اهتم بتحديد هذا اليوم ، وكل ما فعله هو احتفاؤه بيوم الاثنين والحرص على صيامه وقولُه : « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ » ..
وكان حمله وولادته كسائر الأطفال لم يختلف عنهم في شيء ، لم يكن فيهما ما يلفت النظر على الإطلاق ؛ لأن كمال بشريته وكونه مثالا للناس يتأسون به يتطلب ذلك .
أما القصص التي تتكلم عن الخوارق التي حدثت أثناء حمله أو ولادته فلا يرقى إلى الصحة منها شيء ، ومحال أن يجعل الله سبحانه وتعالى حياة نبيه تقوم على الخوارق وهو يقدمه للبشرية نموذجا يتأسون ويقتدون به ؛ باستثناء ما يجري له من آيات ومعجزات أثناء تبليغ دعوته ؛ لأن حياة من تقوم على المعجزات لا يمكن لأي إنسان أن يهتدي بها ويقلدها ويتبعها في أسلوب وطريقة حياته ..
وسمي العام الذي ولد فيه بعام الفيل ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أباد فيه أصحاب الفيل الذين جاءوا من الحبشة لهدم الكعبة " بيت الله الحرام" ومحاولة صرف العرب إلى الحج إلى كنيسة الحبشة التي شيدها أبرهة ملكها النصراني ..
وكان القضاء على جند الحبشة الغزاة فاتحة خير وبركة ورحمة على العرب عامة ، وعلى أهل مكة خاصة ؛ لأن الله رحمهم من شر هؤلاء الذين نشروا الرعب في قلوبهم؛ حتى جعلوهم يفرون إلى أعالي الجبال تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم .
وشاء الله سبحانه وتعالى أن تكون ولادته في أواسط فصل الربيع ، أعدل فصول السنة مناخا ؛ ليعيد صلى الله عليه وسلم البشرية إلى ربيعها بعد اختياره ليكون آخر الأنبياء المرسلين الذين أرسلوا على مر التاريخ تترى لهداية البشرية ، وتقويم مسارها كلما اعوجت أو انحرفت عن الصراط المستقيم .
وكان ميلاده صلى الله عليه وسلم في مكة ، وكانت وقتها بلدة تتخللها الجبال الصم الخالية من الزرع إلا ما ندر من النباتات الصحراوية والأشجار الجبلية ، كانت مكانا تصعب فيه الحياة لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر أن يوجد فيها بيته الحرام ..
وهذه البيئة الوعرة ، بيئة مكة وما حولها من أراضي الجزيرة العربية كانت ذات تأثير فعال في سكانها ، حيث نشئوا متطبعين بطبعها ، فتعودوا على الصلابة والجفاء ، وجمعوا بين مكارم الأخلاق ومساوئها ، وكانوا لا يخضعون فيها لغير العرف والنظام القبلي ، يتضامن فيه أفراد القبيلة أشد التضامن ، وينصرون أخاهم ظالما أو مظلوما .
وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان ، حتى صار لكل بيت صنم ، فضلا عن الأصنام التي ملأت المسجد الحرام ، وتمادى الناس في ذلك ، حتى كان الواحد منهم إذا لم يجد حجرا يعبده في سفره جمع التراب ثم أتى بشاة فحلبها عليه ، ثم صنع بها شكل صنم وطاف حوله ، هكذا تغلغت الوثنية في قلوبهم .
وورث صلى الله عليه وسلم من تلك البيئة الشهامة والرجولة والكرم والإباء ، وفي نفس الوقت كان ينفر من الغلظة والفظاظة ، والتكبر في الأرض بغير الحق ، يأنف من الأصنام وعبادتها ، يشمئز حتى من ذكر اسمها..
مما يؤكد أن المسلم الذي يعيش وسط غير المسلمين يستطيع أن يتحلى بالأخلاق الكريمة وينأى بنفسه عن الرذائل مهما كانت البيئة حوله سيئة ودون أن يصطدم بها ..
وقد ولد صلى الله عليه وسلم يتيما ، إذ مات والده وهو جنين في بطن أمه ، وذلك أثناء عوده من رحلة تجارية إلى بلاد الشام ، إذ كان يعمل فترة حياته بالتجارة الخارجية..
وبعد ميلاده صلى الله عليه وسلم بفترة وجيزة طلب له جده عبد المطلب امرأة مرضعة في بادية الطائف أي " بني سعد " تسمى حليمة السعدية ؛ لتقوم على تنشئته هناك ، لأن كبار قريش وأثرياؤها كانوا قد اعتادوا على أن يرسلوا أولادهم إليها بعد ولادتهم ، حتى يتمتعوا هناك بالهواء النقي ، والطبيعة الغناء ، والحياة الساكنة ، واللغة الفصيحة ..
ولأن بيئة الصحراء الواسعة تتيح للأطفال حرية الحركة دون قيد أو عائق ، كما تتيح لهم فرصة التعرف المباشر على كون الله سبحانه وتعالى ، مما يجعل كل طفل منهم ينشأ سويا في عقله، صحيحا في بدنه، مرهفا في إحساسه ، سليما في تفكيره ، معتدلا في مزاجه .
وقضى صلى الله عليه وسلم في تلك البادية في كنف حليمة السعدية عامين أو أكثر ثم عاد إلى أمه آمنة بمكة التي تفرغت لتربيته وتنشئته ، ورفضت أن تتزوج بغير أبيه حتى لا تنشغل عن رعايته ، فأقام معها حتى أتم السادسة من عمره تقريبا ..
ثم أرادت أن تذكره بأبيه وهو في هذا السن فذهبت به لزيارته في قبره ، ومكثت به أياما عند أخواله من بني عدي بن النجار بالمدينة ، وكأنها كانت تحس بأن تلك الزيارة ستكون مقدمة لتوثيق العلاقة بينه وبين أخواله بعد أن يشرق نور الإسلام على المدينة ، ثم ماتت وهي راجعة به إلى مكة في مكان يسمى الأبواء فدفنت هناك.
وعاد صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه إلى مكة ، فضمّه جدّه عبد المطلب إليه ، ورأى فيه عوضا عن ابنه عبد الله الذي مات في ريعان شبابه، ورقّ عليه رقّة لم يَرِقّها على أحد من أولاده، كما حكت كتب السيرة .
ثم لم يلبث أن توفي جده هذا وهو في الثامنة من عمره تقريبا ، فانتقلت كفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه ، فكان يجله إجلالا كبيرا ، وظل يحوطه ويحفظه وينصره إلى أن مات .
وشاء الله أن يجد صلى الله عليه وسلم الرعاية والعطف والحنان رغم يتمه في كل كنف يُنقل إليه ، وكأن الله يقول له : إن فقدت معينا فستجد آخرين ، وإن رعايتك ليست مرتبطة فقط بأب أو أم ، وإنما مرتبطة بالله يضعها حيث يشاء ، وكأنه أراد أن يقول له فيما بعد كما أوجدت لك المحضن والمأوى والحنان في الصغر، أوجده أنت للفقراء واليتامى والمساكين ، وكما أذهبت عنك الوحشة أذهب عنهم أنت مرارة الحرمان ، وكما رحمتك في أطوار حياتك ارحم أنت البشرية ، واجتهد لنشر الرحمة في الكون مِن حولك .
ولعل الذين يغلب عليهم هاجس الخوف على مستقبل أولادهم فيحرصون على جمع المال بأي وسيلة حلال أو حلال بحجة تأمين مستقبل أولادهم يأخذون العبرة من ذلك ، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى الذي كفل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في يتمه ، ووفر له العناية في كل حضن ينتقل إليه قادر على أن يكفل أولادهم بعد مماتهم ؛ بشرط أن يتقوه ، ويستقر في أذهانهم قوله عز وجل : " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"
ومع إن التنشئة التي نُشّئ عليه صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن تجعل منه طفلا مرفها ، أو مدللا ، إلا أنه كان غير ذلك ، إذ شارك في أمور الحياة ، حيث بدأ يعمل برعي الغنم ، وقال بعد بعثته : " كنت أرعى الغنم على قَرَارِيطَ لأهلِ مكّةَ "(1) .
وبعض الناس يحسب أنه لجأ إلى ذلك للحاجة ، أو لأن عمه أبا طالب كان قليل المال ، وهذا غير صحيح لأن أبا طالب وهو رجل تاجر كان عنده من المال ما يكفي مئونة طفل يتيم في مجتمع بدائي تقل فيه نفقات الأولاد ، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان قد ورث عن أبيه (أمَة وخمسة جمال وقطعة غنم) (2) .
وأحسب أن الذي ألجأ أبا طالب إلى إخراجه للعمل وهو صغير هو أن المجتمع المكي كان مجتمعا عمليا ، لدرجة أنه كان لا يسمح للطفل ، فقيرا أو غير فقير أن يُعزل عن الحياة بحجة أنه صغير ، وإنما أتاحوا له أن يمارس من الأعمال ما يناسب قدراته حتى ينشأ عنصرا فعالا ، لا يعجز إذا شب عن مواجهة الحياة ومتطلباتها ، فضلا عن صعابها وتقلباتها .
ونحن مطالبون في التأسي به في ذلك بأن ندرب أطفالنا على العمل منذ صغرهم ، ولو بتكليفهم بقضاء المصالح الصغيرة في البيت ، وإحضار بعض المشتريات الخفيفة الوزن التي تحتاج إليها الأسرة من البقالات القريبة وغيرها .
ثم عمل صلى الله عليه وسلم وهو في الثانية عشرة من عمره في مجال التجارة التي كانت تعد أوسع أبواب الرزق في مكة ، حيث كانت تقع في طريق التجارة الذي يربط بين الشام واليمن ، وملتقى الحجاج من سائر الجزيرة العربية .
وقد دلت الروايات على أن عمه أبا طالب قد اصطحبه معه في هذا السن المبكر مع قافلة تجارية إلى الشام ؛ ربما ليدربه على أسلوب التعامل التجاري ، وطرق البيع والشراء خارج الجزيرة العربية ، بعد أن رأى في ذكائه ومواهبه الفطرية ما يؤهله لذلك ، ثم كثر تردده بعد ذلك بين اليمن والشام للتجارة حتى مبعثه.
وأظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل في مجال الرعي والتجارة فقط لأنهما أفضلُ المهن ، وإنما لأنهما الأكثر انتشارا في بيئته ؛ وإن كان الله سبحانه وتعالى قد وفقه للعمل فيهما ، حيث إن رعي الغنم من شأنه تربية الإنسان على الصبر ، ومن صبر على رعاية الأغنام كان على رعاية البشر أصبر وأجدر ، ومن رحم الحيوان كان بالبشر أرحم وأرأف ، أما العمل في التجارة فقد يكسب الإنسان القدرة على التعامل مع الناس والتعرف على أخلاقهم وطبائعهم ، وعلى اختلاف أجناسهم ، ويجعل الناس تتعرف على صدقه وأمانته .
وهذا ما جعله صلى الله عليه وسلم فيما بعد يعرف بين قومه بالصادق الأمين ، وهو أيضا ما جعل خديجة ـ رضي الله عنها ـ إحدى الثريات الفضليات بمكة ترغب في الزواج به ، وتؤثره على سادة مكة ، وتبادر بالإرسال إليه بذلك ، وكان قد عمل في تجارتها فترة من الزمن ، ورأت من حسن خلقه وتعامله ما لم تر في غيره .
ورغم أن الجزيرة العربية ، ومن بينها مكة كانت تعج بالفتن والمفاسد ، مثل ارتكاب الفواحش ، وقطع الأرحام ، ووأد البنات ، وشرب الخمر ، ولعب الميسر ، وسفك الدماء ، إلا أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم حباه ربه ، ونشأ بعيدا عن كل تلك الخصال المشينة ، ودلت الروايات على أنه كان محاطا بعناية الله ؛ لما يريد به من كرامته ورسالته .
فقد ذكر البخاري أنه كان يحمل مع قومه الحجارة عند تجديد الكعبة ، فقال له عمه العباس : اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة ، فما إن فعل ذلك حتى خر مغشيا على الأرض ، وشخصت عيناه إلى السماء ، ثم أفاق فقال : إزاري ! إزاري ! (3) وفي رواية أخرى فما رئيت له عورة بعد ذلك .
وكان ذلك مصاحبا له منذ أن اشتد عوده ، فقد ذكر البخاري أيضا أنه قال : " ما هممت بقبيح مما يهمّ به أهل الجاهلية إلا ليلتين ، كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما(4) ، كنت ليلة مع بعض فتيان مكة ونحن في رعاء غنم أهلها ، فقلت لصاحبي أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان ، فقال: بلى قال : فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة ، سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير ، فقلت : ما هذا؟.
قالوا : تزوج فلان فلانة ، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس ( أي بعد انتهاء الفرح ) فرجعت إلى صاحبي ، فقال: ما فعلت؟ فقلت : ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت ، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر ففعل ، فدخلت ، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة ، فسألت : فقيل نكح ( أي تزوج ) فلان فلانة ، فجلست أنظر ، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي ، فقال : ما فعلت ؟ فقلت : لا شيء ، ثم أخبرته الخبر(5) فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك ، حتى أكرمني الله عز وجل(6) أي بالرسالة .
وهذا لا يعني أن نفسه صلى الله عليه وسلم كانت تعف الأفراح ، أو أن دعوته وقفت موقف العداء من أساليب اللهو المعتدل التي تميل إليها النفس البشرية كما مالت نفسه هو ، وإنما يبدو أن الله عز وجل عصمه من المشاركة فيها ؛ لأن هذه الأفراح أو الاحتفالات كان يحدث فيها من الرذائل ما لا يتوافق مع أصحاب الخلق القويم ، ومع إنسان يعد لتصليح مسار البشرية جمعاء ، وتطهيرها من القبائح .
أقول ذلك لأن سيرته فيما بعد دلت على أنه أثناء تربيته للمجتمع الإسلامي لم يكن يحذر على أتباعه اللهو المباح ، بل كان يحض عليه أحيانا ؛ لأنه مما يذهب السآمة ، ويمحو الملل الذي قد يعيق النفس البشرية عن مواصلة أعمالها وأداء رسالتها ، وإن كان أصحاب الهمم العالية يترفعون عن هذا اللهو وغيره ، مما قد يشغل بعض أوقاتهم عما هو أسمى وأجل ، ويجدون في أداء رسالتهم لذة أو راحة تفوق ما يجده رواد الملاهي.
ولم تقف به العناية الإلهية عند عصمته من الوقوع في أدران الجاهلية ، أو المشاركة فيها ، وإنما نقى الله فؤاده من كل شائبة تعلق به ، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى " ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك "(7) .
وإذا كان سائر الناس قد هدوا النجدين (أي سبيلَ الخير وسبيل الشر ) فإن محمدا صلى الله علي وسلم بذلك الشرح قد سُد عليه إن صح التعبير سبيل الشر تماما ، ولذلك قال فيما بعد :" ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا : وإياك يا رسول الله ! قال وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير (8).
وبانعدام جانب الشر عنده كان لابد أن ينمو جانب الخير ، فنشأ محبا لمكارم الأخلاق ، قال ابن إسحاق في كتابه " السيرة " : " حتى إذا بلغ مبلغ الرجال كان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم عن الفحشاء والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما ، وما روي مماريا ولا ملاحيا أحدا ( أي ما لعن أحد على الإطلاق ) حتى سمي بين قومه بالصادق الأمين " ومدح الله فيه تلك الخصائص في قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم "(9) .
وامتلك مع هذا قلبا لينا رحميا بالناس ، محسنا إليهم ، كما وصفته زوجه خديجة ـ رضوان الله عليها ـ في قولها : " إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الدهر " (10) .
بهذه الصفات عاش صلى الله عليه وسلم داخل مجتمعه الجاهلي ، ولم ينعزل عنه أو ينطوي على نفسه، وشعاره" الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالطهم "حتى شهد له بالفضل أعتى أعدائه وهو أبو جهل حيث قال : والله إني لأعرف أن محمدا صادقا فيما يقول ، وما كذب محمد قط.
وهذه الأخلاق التي تخلق بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ، وكانت سببا في ثناء الناس عليه يستطيع أن يتحلى بها كل إنسان سليم الفطرة دون أن يكون له أي حظ من التعليم ، كما أن التأدب بها من الأشياء الضرورية لكل من يعدون لتولي مهام الدعوة الإسلامية .
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ البخاري
2 ـ ابن سعد : الطبقات ج1 ص100
3 ـ صحيح البخاري رقم 1505
4 ـ عيون الأثر : ج 1 صـ 86
5 ـ ابن إسحاق : السيرة ج2 ص59
6 ـ السابق ج2ص59
7 ـ سورة الشرح : رقم 1، 2، 3،
8 ـ صحيح مسلم : ج 4 ص 2167
9 ـ سورة القلم : آية 4
10 ـ ابن سيد الناس : عيون الأثر ج1 ص114 و115
هذا نبي الإسلام (2)د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد تحدثت في الحلقة السابقة عن ميلاد ونشأة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وعن طبيعة البيئة التي نشأ فيها ، وعن مشاركته منذ صغره في المجتمع من حوله ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى أكمل الحديث فأقول : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيدا عن القضايا الهامة التي تعرّض لها مجتمعه في فترة شبابه ، وإنما شارك فيها مشاركة إيجابية ، فقد اشترك وهو في العشرين من عمره تقريبا في المعركة التي سميت بـ "حرب الفجار" (1)؛ نصرة للحق ودفعا للمعتدين .
كما اشترك صلى الله عليه وسلم في الحلف الذي سُمي بحلف الفضول ، وهو حلف عقد في مكة قبيل البعثة النبوية ، "وكان من مبادئه : ألا يجدوا مظلوما بمكة إلا كانوا معه حتى يردوا عليه مظلمته ، وتعاقد من حضروه ، وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم ؛ حتى يؤدى إليه حقه ، وقد أثنى صلى الله عليه وسلم على هذا الحلف بعد بعثته بقوله : " لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حُمُر النعم ، ولو أُدعى إلى مثله في الإسلام لأجبت "(2) .
حتى يؤكد أن المسلم عليه أن يتعاون مع المدافعين عن الحق ، بغض النظر عن ديانتهم ، وأن ذلك من موجبات الإسلام ، بل فيه ثواب لا يساويه أي من مكاسب الدنيا .
كما كان له صلى الله عليه وسلم دور كبير في حسم القضايا التي كادت أن توقع قتالا بين قومه ، فقد ذكرت كتب السيرة أن شيوخ مكة اختلفوا فيما بينهم على من يقوم بوضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة ، بعد أن فرغوا من تجديدها حتى كادوا يقتتلون ؛ لما في ذلك من الشرف الرفيع ، وتنازعوا حتى كاد أن يتحول نزاعهم إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إذ قربت بنو عبد الدار( إحدى القبائل المكية) جفنة مملوءة دماً، وتعاقدت هي وبنو عديّ بن كعب بن لؤيّ على الموت، وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة ، ومكثوا على ذلك أربع ليال أو خمساً ، ثم استقر رأيهم على أن يحكّموا أول داخل عليهم من باب المسجد الحرام .
وشاء الله أن يكون الداخل هو محمد صلى الله عليه وسلم ـ وكان عمره إذ ذاك خمسة وثلاثين عاما تقريبا ـ فلما رأوه قالوا : هذا الصادق الأمين ، رضينا به حكما ، وما إن عُرض عليه الأمر حتى قال : هلمّ إليّ بثوب فأتي به ، فأخذ الحجر فوضعه فيه ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوا جميعا ، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه بيده ثم بنى عليه(3).
وأحسب أن ذلك كان إلهاما من الله لرجل يعده لقيادة البشرية إلى السلام .
ولم تكن هذه حوادث طارئة في حياته، بل تكررت مرارا ، فقد ذكر بعض كتاب السيرة أنه كان يُتحاكم إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلَّم- في الجاهلية قبل الإسلام، وروي عن الزهري أنهم كانوا لا ينحرون جزوراً إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
وكأنهم قد اصطفوه مرشدا لهم قبل أن يصطفيه الله سبحانه وتعالى ، ويوم أن يكون الإنسان الذي يعمل بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مهيئا للقيام بأعباء دعوته كما هيأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا بد أن ينجح في دعوته مهما واجهته من صعاب وعراقيل كما نجح النبي صلى الله عليه وسلم ..
جنوحه للتفكير في الكون من حوله:
ومع تقدم العمر به بدأ يجنح إلى التفكير العميق في صنع الله وإبداعه ، والتعبد بطريقة غير مألوفة عند قومه في ذلك الوقت ، وكان يذهب كل عام في شهر رمضان إلى غار يسمى بغار" حراء " وهو غار في جبل على بعد بضعة أميال من جانب الشمال الغربي من مكة القديمة ، ودخل في حيز عمرانها الآن ـ ليقضي الشهر أو جله بعيدا عن لغو الناس وحديثهم الباطل ، مختليا بنفسه متفكرا في خلق الله .
في هذا الغار المهيب المخيف الذي يحتاج صعوده الآن إلى ما يربو على ساعة ، وربما سيطر الفزع والخوف على من مكث فيه دقائق ، كان محمد صلى الله عليه وسلم يتعبد ، ويصقل قلبه ، وينقي روحه ، ويقترب من الحق جهده ، ويبتعد عن الباطل وسعه ، ثم يعود إلى مواصلة مشوار حياته ، مشاركا الناس أمور حياتهم ، حتى وصل إلى مرتبة عالية من الصفاء (4).
بشارة الأنبياء السابقين به :
أشار القرآن الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إلى أن الأنبياء السابقين بشروا بمجيء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لتختم به الرسالات ، وما زالت بعد الآثار في الإنجيل والتوراة ـ رغم ما دخل عليهما من تحريف وتبديل ـ تشهد بذلك ، مثلما جاء في إنجيل "يوحنا" حكاية عن المسيح عليه السلام : "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ، ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ؛ لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم وفيكم " (5) .
وبعيدا عن الخلاف حول المقصود من كلمة "الآب " التي قد تعني السيد أو حرفت في ترجمتها ، فإن العبارة تشير إلى مجيء نبي " معزى" ولم نسمع عن نبي جاء بعد عيسى غير محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه باق إلى الآن يعرفه المسلم وغير المسلم ، وسيبقى إن شاء الله إلى الأبد
وجاء أيضا في إنجيل " يوحنا "ص 16 ف 5: "وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني ، وليس أحد منكم يسألني أين تمضي ، لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم ، لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق ؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي . لكن إن ذهبت أرسل إليكم ، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيّة وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطيّة فلأنهم لا يؤمنون بي ، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا ، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأما متى جاء ذاك روح الحق يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به (6)وهذه العبارة أكثر وضوحا في دلالتها على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ..
هذا وقد تصرف المترجمون في هذه لفظة المعزي ، وهم ينقلونها عن اللغات الثلاث الأصلية وهي العبرانية والكلدانية واليونانية ، فتارة ترجمت بالمعزى ، وتارة أخرى بالمخلص ، وتارة بالفارقليط.
وأما في التوراة فقد جاء في الإصحاح الثامن من سفر التثنية أن اللّه تعالى قال لموسى عليه السلام : " أني أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمكم بكل ما أوصيكم به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه... " (7).
ومعلوم أن كل الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى بعد موسى عليه السلام كانوا من بني إسرائيل ، غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان من بني إسماعيل وهم إخوة بني إسرائيل ، فالعبارة لا تقصد إذن غير محمد صلى الله عليه وسلم .
اصطفاء الله له ليكون رحمة للعالمين :
لما هل شهر رمضان من العام الذي أتم فيه محمد صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره ، وبالتحديد يوم الاثنين الموافق الحادي والعشرين من هذا الشهر والعاشر من أغسطس سنة 610 م تبدى له جبريل " الملك " ليلا وهو لا يدري من هو، فقال له " اقرأ" فرد عليه محمد صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ ، أي لا أعرف القراءة ، فأخذه وضمه إليه ضما شديدا حتى جهد أو تعب ، ثم كرر ذلك معه مرتين فقال له محمد صلى الله عليه وسلم : ما أقرأ ؟ (8).
فرد عليه " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ..." (9) ثم اختفى عنه فجأة مما جعله يتوجف خيفة ، وهبط من توهه من الغار ، فسمع أثناء هبوطه صوتا يناديه يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ، فنظر فوجد ذلك الذي ظهر من قبل يسد ما بين السماء والأرض.
وقد صور هذا المشهد فيما بعد بقوله " بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثئت ـ فرقت منه رعبا ـ حتى هويت إلى الأرض، وجئت (أي إلى أهله ) فقلت : زملوني زملوني فدثروني (10) فجاءه هذا الملك مرة أخرى بقوله تعالى " يا أيها المدثر قم فأنذر....." فعلم عندئذ أنه نبي وأن الله اختاره لرسالته ، فقال لزوجته "ذهب النوم يا خديجة " أي ذهب وقت الراحة ، وكيف ينام وقد كلفه الله بإرجاع البشرية في مشارق الأرض ومغاربها إلى مسارها الصحيح ، إلى رشدها ، إلى فطرتها التي فطرها الله عليها ، بعد أن أغواها الشيطان فضلت ، وانحرفت عن طريق الخير ؟! كيف ينام وقد كلف بنشر الرحمة بين الناس ؟ كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، رحمة للضعفاء من ظلم الأقوياء ، رحمة للفقراء من تحكم الأغنياء في أرزاقهم ، بل ورحمة للأغنياء من ثورة الفقراء عليهم ، بعد أن جعل لهم رزقا معلوما ، ثم أوصاهم بالرضا بقضاء الله ، وعدم حسد الغير على ما آتاهم الله من فضله ، ورحمة للحيوان والنبات كما سنرى فيما بعد.
ثم فتر الوحي أي غاب عنه المَلك (جبريل )عدة أيام ؛ ولعل الله أراد بذلك أن تسكن نفسه ، ويذهب عنه كما قال ابن حجر ما وجده من الروع ، ويستعد لما سيقوم به ، وتتهيأ نفسه لتحمل مصاعب الوحي ، فاتصال نفس بشرية بملاك يتلقى الوحي من الله لا يحس بهوله إلا من تفكر في عظمة هذا الكون الفسيح الذي لم يتعرف العلم الحديث ـ رغم تطوره المبهر ـ إلا علي اليسير منه ، وتلقي القرآن لا يتحمله إلا نفس أعدت إعدادا خاصا ؛ لذا قال تعالى : "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " (11) هذا الثقل الذي فُسر في قوله تعالى " لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " (12) .
كما يفسره أيضا قول ابن كثير: وللنبوة أثقال ومئونة لا يتحملها، ولا يستطيع القيام بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل- بعون الله وتوفيقه – لما يلقون من الناس ، وما يُردّ عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل...
لكن ما عليه صلى الله عليه وسلم ألا يتحمل ما لا تتحمله الجبال من أجل رحمة البشرية وإسعادها...
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ سميت بذلك لأنها وقعت في الشهر الحرام.
2 ـ ابن هشام : السيرة جـ 1 صـ 116
3 ـ ابن سيد الناس : عيون الأثر ج1 صـ 121
4 ـ وهذا ما يفهم من بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى " ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان " الشورى52 وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة ..." القصص 86
5 ـ الكتاب المقدس , إصدار دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ( إنجيل يوحنا الإصحاح الربع عشر صـ 175
6 ـ الكتاب المقدس , إصدار دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ( إنجيل يوحنا الإصحاح السادس عشر صـ 178
7 ـ الكتاب المقدس , إصدار دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط , سفر التثنية ـ الإصحاح الثامن عشر صـ 308,309
8 ـ ابن كثير : السيرة النبوية جـ 1 صـ 385 والسيرة لابن حبان جـ 1 ً صـ 63
9 ـ سورة " العلق " : آية 1 ،2 ، 3، 4)
10 ـ ابن كثير : البداية ج3 ص 16 والحديث في الصحيحين البخاري ومسلم
11 ـ سورة " المزمل " : آية 5
12 ـ سورة " الحشر" : آية 21
هذا نبي الإسلام (3)د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد تحدثت في الحلقة السابقة عن مشاركة نبي الإسلام قبل بعثته في قضايا المجتمع حوله مشاركة إيجابية ، وعن بشارة الأنبياء السابقين به ، وعن اصطفاء الله عز وجل له ليكون خاتم المرسلين ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى أكمل حديثي فأقول : إن الوحي قد تتابع نزوله بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى آمرا إياه بتبليغ رسالته ( رسالة الإسلام ) هذه الرسالة التي تتمثل في :
ـ توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته وعبادته دون سواه ، فهو وحده خالق الكون ، وبيده ملكوت كل شيء ، فلا يصح أن يعبد غيره من الكائنات وهو رب كل شيء .
ـ تصحيح نظرة الناس إلى ذات الله سبحانه وتعالى ، فهو ليس كمثله شيء ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به العقول ، ولا يمكن أن يتخيله بشر ، ولم يلد ولم يولد ، ولم يكلم من البشر أحدا إلا وحيا أو من وراء حجاب ، والناس على اختلاف أجناسهم سواسية عنده ، لا يربطه بأحد منهم نسب أو قربى إلا العمل الصالح .
ـ نشر الحب بين الناس ، بل وجعل هذا الحب طريق الجنة ، وبنشر السماحة بين الناس في البيع والشراء وسائر المعاملات ..
ـ بر الوالدين وصلة الأرحام ، وإطعام الفقراء والمساكين واليتامى وكسوتهم .. ومساعدة المحتاجين ..
ـ الوفاء بالعهد والصدق والأمانة والكرم والعفة ..
ـ حسن الحديث ، واحترام الصغير للكبير ، وعطف الكبير على الصغير ، والإحسان إلى الجيران ، وحسن المعاشرة بين الأزواج .
ـ تعلم العلم الذي يفيد البشرية .
ـ نظافة البدن والملابس والبيوت والطرق ..
ـ المحافظة على الصحة والتجمل والتزين ..
ـ إتقان العمل .
ـ الصبر على المكاره ..
ـ القناعة ، ونصرة المظلومين ، وتحرير العبيد ، واحترام آدمية الإنسان الذي كرمه الله على سائر المخلوقات ، وخلقه بيديه ..
ـ نشر الخير في الأرض ، وحفظ السمع والبصر والفؤاد عما يغضب الله ..
الرفق بالحيوان ورحمته.
ـ عدم الاعتداء وسفك الدماء إلا بالحق ..
ـ ترك الفواحش وسائر المنكرات..
ـ عدم الكذب والخيانة والغدر والغش وقول الزور وأكل الميتة ..
ـ تحريم السرقة والاغتصاب وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا وأخذ الرشوة ..
ـ عدم الظلم والتجبر والإفساد في الأرض ..
ـ عدم نقص الكيل والميزان في البيع والشراء ..
ـ عدم التعصب للجنس أو اللون ..
ـ عدم قتل الحيوانات لغير الحاجة أو إيذائها ..
ـ عدم قطع الأشجار النافعة إلا لضرورة الناس ..
بتلك الرسالة انطلق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ، مستجيبا لأمر ربه ، جاعلا شعاره " قولوا : " لا إله إلا الله تفلحوا " ..
فكان أول من أسرع للاستجابة لندائه هي زوجه " خديجة " رضوان الله عليها ، حيث آمنت به ، وأعانته على أمره ، وكان لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرجت عنه إذا رجع إليها ، وصارت تثبته وتخفف عليه ، وتهون عليه أمر الناس ، فكانت مثالا للمرأة المخلصة بحق لزوجها.
وتبعه على دينه أيضا بناته (لم يكن له صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور ، وإنما ماتوا جميعا في صغرهم) إذ كن مثل أمهن أسرع استجابة ، وأكثر طاعة له .
وأسلم أيضا خادمه زيد بن حارثة ، وابن عمه " علي بن أبي طالب " وكان ربيبه (أي نشأ وتربى معه ) ولم تمض إلا أيام قليلة حتى اجتمع شمل أسرته كلها على الإسلام.
وبعد أن فرغ من دعوة أهل بيته المقربين وسع دائرة دعوته خارج بيته فدعا صديقه أبا بكر فأسرع دون تردد بإعلان إسلامه ؛ لما كان يعرفه من صدقه صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق ، حتى قال عنه صلى الله عليه وسلم : "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد ، إلا ما كان من أبي بكر" (1) أي إنه بادر إليه .
ثم صار صلى الله عليه وسلم يدعو من يعرفه إلى دينه هذا ، سراً وجهراً ، فاستجاب له من شاء من أحداث الرجال ( صغار السن ) وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به ..
كما شاركه في نشر دعوته أصحابه الذين أسلموا معه ، وخاصة أبو بكر الصديق الذي بادر بدعوة زوجته وأبناءه إلى اعتناق الإسلام فأسلم أكثرهم ، ولم يترك أحدا من أصحابه المقربين إلا وأرشده إلى خير هذا الدين ، معتمدا على مكانته بين الناس ، إذ كان كما قال ابن إسحاق : " رجلا تاجرا ، ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته "(2).
وكان صلى الله عليه وسلم يلتقي بمن أسلموا معه فرادى وجماعات بعيدا عن أعين المشركين ؛ حتى لا يحدث احتكاك أو صدام بين الطرفين ( المسلمين والمشركين ) وكان يربيهم في لقاءاته على مبادئ توحيد الله سبحانه وتعالى ، ويرغبهم في تزكية النفوس ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ، والتحلي بالفضائل ، والبعد عن الرذائل .
ويقرأ عليهم آيات الله التي تصف الجنة ، وما أعده الله فيها لمن أطاعه مثل قوله تعالى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ "(3) وقوله: " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ ولا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ " (4).
والآيات التي تصف النار وما يلقاه الكفار والمعاندون فيها من عذاب مثل قوله تعالى : " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِؤُونَ (5) وقوله تعالى : .. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى "(6) وقوله تعالى : "إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين" (7).
وهذه الآيات لم يكن يتلوها عليهم مجملة ، وإنما في مواقف متنوعة ، فالله سبحانه وتعالى كان يذكر التكليف في القرآن ثم يتبعه بعرض الآيات التي ترغب في ثواب عمله أو عقاب تركه ؛ مما جعل النفس السوية سريعة إلى الاستجابة له .
كما كان المسلون يؤدون في تلك اللقاءات الصلاة التي شرعها الله لهم بداية من بعثته صلى الله عليه وسلم ، هذه الصلاة التي هي عماد الإسلام ، وتعني أن يقوم المسلم بالوضوء ، أي يغسل يديه ووجهه ، ويمسح رأسه ، ويغسل رجليه ، ويرتدي الملابس التي يتجمل بها ، ثم يقف أمام ربه مستقبلا البيت الحرام بمكة ( الكعبة ) ذاكرا له ، مقرا له بالوحدانية ، مثنيا عليه ، مرتلا بعض آيات القرآن الكريم ، راكعا ساجدا ، معلنا خضوعه لله ، سائلا إياه العون ، وداعيا إياه بما يحب من أمر الدنيا والآخرة ، وكانت الصلاة في تلك الفترة ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي .
ولم يمض وقت طويل على بعثته صلى الله عليه وسلم حتى أقبل الناس بمكة ـ كما قال ابن إسحاق ـ يدخلون في الإسلام أرسالا؟؟ من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، بل توافد أصحاب الفطرة السليمة ممن سمع به خارج مكة ليعلنوا إسلامهم ، مثل أبي ذر الغفاري ، وعمرو بن عبسة الذي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقلت: من أنت؟ قال: نبيّ ، قلت: وما النّبيّ؟ قال: رسول الله ، قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم ، قلت بمَ أرسلك؟ قال: بأن تعبد الله ، وتكسر الأوثان ، وتوصل الأرحام، قلت: نِعم ما أرسلت به.. فأسلمت وقلت: أتبعك ( ألزمك ) يا رسول الله، قال: لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت بأنّي قد خرجت ( أي انتشرت دعوتي) فاتبعني ، ثم أوصاه وأوصى أبا ذر أن ينقلا رسالة الإسلام إلى قومه، وأن يتلطفا في عرضها .
وبعد مرور ثلاث سنوات من بعثته صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل أن يوسع دائرة دعوته ، وألا يكتفي بدعوة من يألفه فقط ، وأن يعلن للناس جميعا أنه مبعوث من عنده سبحانه وتعالى إليهم كافة ، ويدعوهم للدخول في الإسلام ، وينذر من خالف أمره بغضب الله وعذابه الأليم في الآخرة ، ويبشر من أطاعه بالنعيم الدائم في جنة الله ، وأن يبدأ بعشيرته وأقربائه ، فقال تعالى :"وَأّنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المْؤْمِنِينَ "(8).
فاشتد عليه ذلك وضاق به ذرعا ؛ خشية من أن يكذبوه ، وأن يواجههم بأمر لا يحبوه ، يقول علي بن أبي طالب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عرفت أنّي إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره ، فصمتّ عليها ، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنّك إن لم تفعل ما أمرك به ربّك عذّبك " وأنزل الله عليه : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .. "(9).
فصنع طعاما ودعا إليه أفراد أسرته ، وبعد أن طعموا خطب فيهم قائلا : "الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إنّ الرائد لا يكذبه أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني لَرسولُ الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة ، واللهِ لَتمُوتُنَّ كما تنامون ، وَلتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولَتُحَاسَبُنَّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا ، وإنها للجنة أبداً ، أو النار أبداً ، وأنتم أول من أنذر "(10).
ثم أخبرهم بأن الله قد أمره أن يعلن دعوته على الملأ ، فقال له عمه أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك! وأقبلنا لنصيحتك! فامض لما أمرت به ، فو الله لا أزال أحوطك وأنفعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب ، وقال له باقي أفراد أسرته كلاما لينا إلا أبا لهب .
ثم تكرر لقاؤه بهم حتى إذا أيقن بوقوفهم معه ، وتعهد أبي طالب بحمايته ممن يريد به سوءا عند مواجهة الناس بأمره قام بتبليغ دعوته إلى سائر أهل مكة.
فصعد على جبل يسمى جبل "الصفا" ونادى : يا معشر قريش! فقال الناس بعضهم لبعض : محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا، فقالوا : مالك يا محمد؟ قال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم ، أنت عندنا غير متهم ، وما جربنا عليك كذبا قط ، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني زهرة ! حتى عدد الأفخاذ من قريش ، إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ، ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه(11).
ولم يكتف بهذه الصيحة العالية التي أعلمت أهل مكة بأنه رسول الله إليهم ، وجعلت دينه الجديد موضوع حديث الناس ونقاشهم ، وإنما دفعه حب الخير للناس ، وحرصه على هدايتهم إلى أن يأتي الناس في منازلهم ومجالسهم ونواديهم ومتاجرهم وأماكن عملهم ، ليلا ونهارا ، غير عابئ بما يلقاه من جهد ومشقة ، أو سخرية واستهزاء ، وإنما انطلق يشرح لهم حقيقة الإسلام ، ويبين ما عليه المشركون في عصره من ضلال في عبادة الأصنام والأوثان ، فهي حجارة جامدة صنعوها بأيديهم هم ، وأن العقل والمنطق لا يقر ما هم عليه ، وأن العبادة ينبغي أن تكون لله الذي خلقهم .
وذلك بأسلوب سهل مقنع بعيد عن الجدال ، فكان يجلس إلى النفر من الناس فيقول لهم : من خلقكم ؟ فيقولون الله ، فيقول : من خلق السماوات والأرض والجبال ؟ فيقولون الله ، فيقول من عمل الأصنام ؟ فيقولون : نحن ، فيقول : فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق ؟ فانتم أحق أن يعبدوكم وأنتم عملتموها ، والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه ..
هذا وإلى لقاء آخر إن شاء الله إن كان في العمر بقية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ ابن سيد الناس : عيون الأثر ج1 ص178
2 ـ ابن إسحاق : السيرة النبوية صـ 120
3 ـ سورة " محمد " : آية 15
4 ـ سورة " الصافات " (من الآية 43 إلى 49)
5 ـ سورة " الحاقة " (من الآية 25 إلى 37)
6 ـ سورة " المعارج الآيات من11 الى18)
7 ـ سورة " المرسلات " ( من الآية 32 إلى 34)
8 ـ سورة " " الشعراء " : الآيات 214 : 215
9 ـ سورة " المائدة " : الآية 67
19 ـ ابن كثير : البداية جـ 3 ص 38
11 ـ المصدر السابق : جـ 3 ص 38
المصدر : موقع التاريخ
هذا نبي الإسلام (4)د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد تحدثت في الحلقة السابقة عن ماهية الإسلام الذي بعث به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وكيف بدأ دعوته والوسائل التي اتبعها في دعوة الناس ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى أتحدث عن موقف الناس من دعوته فأقول : إن الناس صارت أمام دعوته دعوته صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم:
1ـ ما بين مصدق له مؤمن به بمجرد أن يلقاه ويسمع حديثه ، حتى ورد أن أحد الأعراب ما إن سمعه يقول : " إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه "حتى أعلن إسلامه ، وآخر يقول له : أستحلفك بالله ! آلله أرسلك وأمرك أن تبلغنا ؟ فلما قال : نعم ، أعلن إسلامه ، وهذا آخر يأتيه فيقول : يا محمد إلامَ تدعو ؟ قال : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ، ولا ينفع ، ولا يدري من عبده ممن لم يعبده ..." فاتبعه في الحال ، وصدق ما جاء به.
2ـ وما بين متردد يبحث عما يوصله إلى الله من خلال النقاش معه ، وهؤلاء تولى القرآن الكريم الإجابة على استفساراتهم ، وإزالة الشك من قلوبهم.
وذلك بلفت أنظارهم إلى التأمل في خلق الله ، مثل قوله تعالى : " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (1)وقوله تعالى " قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" (2) .
وكان القرآن يلفت نظره صلى الله عليه وسلم أيضا إلى طريقة حوار الأنبياء السابقين مع أممهم ؛ ليسترشد بهم ، مثل قوله تعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ .."(3) .
3ـ وما بين جاهل بما جاء به صلى الله عليه وسلم من الحق متبعا أو مقلدا لغيره .
ومع إن هذا الصنف يمثل الأغلبية من الناس ، إلا أنهم كثيرا ما كانوا يقعون تحت تأثير الكبراء ، ويسيرون وراءهم في الإعراض عنه أو معاداته ؛ رغبا أو رهبا منهم ، كعادة الناس في كل عصر ، وقد نعى الله عليهم هذا الفعل ، ونبههم إلى أنهم سيندمون على ذلك يوم القيامة ، فقال تعالى :" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً" (4).
4 ـ وما بين مكابر معاند مصر على كفره وشركه، وهؤلاء تمثلوا في الملأ من قريش والسادة الذين حسبوا أن الدين الجديد سيحول بينهم وبين البغي والتعالي على الناس ، والتجبر في الأرض ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وهي العلة التي تجعل الملوك والكبراء يقفون في وجه الأنبياء والرسل وسائر المصلحين في كل حين ، ويحرضون عليهم الجهلة من الناس ، البعيدين عن معرفة الحقيقة.
فقد أنكروا عليه أن يصف الأصنام والأوثان وسائر الآلهة المزعومة التي يتسترون وراءها بما وصف ، وأجمعوا خلافه ، وذهبوا على عمه أبي طالب ، وطلبوا منه أن يكفه عن دعوة الناس إلى الإسلام ، وافتروا عليه ما لم يفعله أو يقله ، فقالوا : يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإمّا أن تكُفّه عنّا ، وإمّا أن تُخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكَهُ (أي يقتلونه دونه ).
ومن العجب أن هؤلاء كانوا يعلمون أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن سبابا ، ولا عيابا ، ولا فحاشا ، وكل ما فعله أنه كان يقرأ على الناس قوله تعالى :" وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ " (5) ويبين ما هم عليه من ضلال ، وأن الأصنام التي يعبدونها لا تستحق العبادة ، ولم تطلب منهم ذلك ، وإذا كان آباؤهم لم يجدوا من يرشدهم ، فما عذرهم هم ؟ .
ولم يبال صلى الله عليه وسلم بإعراضهم ، ومضى يظهر دين الله ، ويدعو إليه ، وكان موسم الحج إلى بيت الله الحرام قد اقترب فخشي هؤلاء الملأ من المعاندين أن يلتقي صلى الله عليه وسلم بالحجاج ، ويعرفهم بدعوته فيقبلون عليها ، فاجتمع سادتهم وصاروا يبحثون عن تهمة يرمونه بها ، ويشيعونها بين الناس ؛ حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوسهم ، فقال لهم رجل يسمى "الوليد بن المغيرة ": أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا ، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به ، قال: بل أنتم فقولوا أسمع! قالوا: نقول: كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون ، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته ، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله ، رَجَزَه وهَزَجَه ، وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه( يقصد أصناف الشعر العربي ) فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر ، قال: ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم.
قالوا : فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر ، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك (6) وتناسوا أنه كان يأمر أتباعه بالبر والإحسان إلى أقاربهم وإن أساءوا إليهم ، ووصلهم وإن قاطعوهم .
لم يعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل مشركو مكة ضد دعوته ، وانطلق متوكلا على ربه يطوف بين القبائل العربية التي نزلت في المشاعر المقدسة ـ لأداء مناسك الحج ـ ويتبع الناس في منازلهم بالأسواق (عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز) يدعوهم إلى الله ، ويقول لهم متوددا: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره "إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ".
ويمشي وراء الناس في الطرقات ، وينادي "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وأبو جهل أو أبو لهب يسير خلفه يسفّ عليه التّراب، ويقول: لا يغرّنّكم هذا عن دينكم، فإنّما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزّى (7) وذُكر أيضا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينادي بأعلى صوته : أيها الناس ! قولوا : لا إله إلا الله ، وأبو لهب يتبعه يرميه بالحجارة حتى أدمى كعبيه وعرقوبيه ويقول : يا أيها الناس ! لا تطيعوه فإنه كذاب !(8) .
وليتخيل معي القارئ هذا المشهد الذي ترسمه هذا الكلمات ؛ ليعرف الجهد الذي بذله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جذب الناس إلى الفلاح والنجاح ، إلى رضوان الله سبحانه ، وكيف يكون حال البشرية لو اتبع الدعاة الآن هذا الأسلوب في دعوتهم ، وانطلقوا داعين إلى الله بتلك الحمية .
لذلك لم ينته موسم الحج حتى وصل أمر دعوته إلى مسامع كثير من العرب الذين تناقلوها إلى أنحاء الجزيرة العربية ، وانتشر ذكره كما يقول ابن إسحاق في بلاد العرب ، ولم تفلح جهود معانديه في الحيلولة دون ذلك ، بل جاءت مع بعض الأفراد بعكس ما أرادوا.
فهذا رجل يسمى " الطفيل بن عمرو الدوسي " يذكر أنه لما قدم مكة مشى إليه رجال من مشركي قريش فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل ( يقصدون رسول الله ) بين أظهرنا قد أعضل بنا ، وفرق جماعتنا ، وإن قوله كالسحر ، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه ، وبينه وبين زوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ، فلا تكلمه ولا تسمع منه.
يقول الطفيل : فواللّه ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ، ولا أكلمه حتى حشوت أذني كُرْسفُاً ـ أي قطنا ـ فرقا ( خوفا ) أن يبلغني من قوله ، وأنا أريد أن لا أسمعه، فغدوت إلى المسجد الحرام ، فإذا رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه ، فأبى اللّه إلا أن يسمعني قوله، فسمعت كلاماً حسناً ، فقلت في نفسي : وا ثكل أمي ! واللّه إني لرجل شاعر لبيب ! ما يخفى عليّ الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ إن كان الذي يأتي حسنا قبلته ، وإن كان قبيحاً تركته.
ثم يقول : فمكثت حتى انصرف رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ إلى بيته ، فأتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قالوا لي كذا وكذا ، ثم إن اللّه أبى إلا أن أسمع قولك ، فسمعت قولاً حسناً ، فأعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام ، وتلا عليّ القرآن ، فواللّه ما سمعت قولاً قط أحسن منه ! ولا أمرا أعدل منه ! فأسلمت (9) .. .
وإسلام مثل هذه الشخصيات قد غاظ الملأ من قريش ، وزاد من هذا الغضب أن القرآن بدأ يشتد في نقاشهم ، ويقدم الأدلة والبراهين على بطلان معتقداتهم ، وزيف آلهتهم .
فعادوا إلى أبي طالب مرة ثانية وقالوا له : يا أبا طالب إنَّ لك سِنّاً وشرفاً ومنزِلة فينا ، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا حتى تكفّه عنا أو ننازله وإيّاك في ذلك ( نقاتلكم )حتى يهلِك أحد الفريقين.
فبعث إليه من يحضره ، فلما جاءه قال: يا ابن أخي! ..أبقِ عليَّ وعلى نفسك ، ولا تُحمِّلْني من الأمر ما لا أُطيق ، فظنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلَّم- أنه خاذِله ومُسلِمه، وأنه قد ضعُف عن نصرته والقيام معه ، فقال: "يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيهِ ما تَرَكْتُهُ " ثم بكى صلّى الله عليه وسلَّم ليس خوفا ، وإنما حسرة على هؤلاء ، ثم قام منصرفا، فلما ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبِل يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أُسلمك لشيء أبداً(10).
وذُكر أيضا : أنه - صلّى الله عليه وسلَّم- قال لهم وقد حلّق ببصره إلى السّماء : أما تَرَوْنَ هذه الشّمس ؟ قالوا: نعم، قال: مَا أَنا بأقْدَرَ على أن أدعَ ذلكَ مِنكُم على أَنْ تَسشْعِلوا مِنها شُعْلَةً، فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي قطّ فارجعوا.
فالنبي الذي يصطفيه الله ، ويكلفه بتيليغ دعوته ، ليس مخيرا في هذا الأمر ، فيقبله أو يدعه ، وإنما هو إلزام من الله تعالى ، وسيؤدي ما عليه رضي الناس أم أبوا ، سالموه أو عادوه ، ولا راد لقضاء الله ...
أما زعماء المشركين فقد انصرفوا ثم عادوا إلى أبي طالب مرة ثالثة بحيلة أخرى ، حيث أحضروا معهم فتى يسمى "عُمارَة بن الوليد بن المغيرة " فقالوا له: يا أبا طالب! قد جئناك بفتى قريش جمالاً ونسباً ، فخذه فلك نصره وعَقْله وميراثه، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلِم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك، ودين آبائك .. فنقتله ، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مَغَبَّة ، وإنما هو رجل برجل ، ولم يجد أبو طالب ردا لهذا الطلب المضحك سوى قوله : والله ما أنصفتموني، أتعطونني ابنكم أغذوه ( أطعمه وأسقيه ) لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله لا يكون أبداً (11) ..
هذا وإلى لقاء آخر إن شاء الله إن كان في العمر بقية ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ سورة " العنكبوت " : الآية 20
2 ـ سورة " يونس " : الآية 101
3 ـ سورة " الشعراء " : الآية 69 الى 77
4 ـ سورة " الأحزاب "من الآية 66 الى 68
5 ـ سورة " البقرة " : الآية 170
6 ـ ابن هشام : السيرة النبوية جـ 2 صـ 105
7 ـ تاريخ الطبري : ج 1 ص 556
8 ـ السيرة لابن حبان : ج 1 صـ 69
9 ـ ابن كثير : البداية ج3 صـ 99
10 ـ ابن سيد الناس : عيون الأثر ج1 وابن كثير : السيرة النبوية ج1 ص 474
11 ـ ابن إسحاق : السيرة النبوية صـ 128
المصدر : موقع التاريخ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد تحدثت في الحلقة السابقة عن موقف الناس من دعوة النبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأتحدث اليوم بعون من الله سبحانه وتعالى عن أساليب المشركين في مواجهة دعوة الإسلام وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فأقول :
وأمام تصميمه صلى الله عليه وسلم على تبليغ رسالة الله وإصرار أبي طالب على عدم التخلي عنه وعن نصرته لجأ ملأ قريش من المشركين إلى أساليب أشد حدة لمواجهة دعوة الإسلام ، ومنع انتشاره بين الناس ، وقد تمثلت تلك المواجهات في :
1ـ أسلوب السخرية والاستهزاء وإشاعة الأكاذيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والافتراء عليه بما يجعل الناس تنفر منه ، وقد أكثروا من ذلك ، وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها ، فكانوا يقولون عن القرآن: " أضغاث أحلام " (الأنبياء : 5 ) يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون : "بَلِ افْتَرَاهُ"(الأنبياء :5( من عند نفسه ويقولون: "إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)"النحل : 103 ) وقالوا: "إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) "الفرقان : 4 ( أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه.
ورد الله عليهم أن " أْتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(هود : 13) .
وهذا الأسلوب كان يحزن رسول صلى الله عليه وسلم ، إنه رجل يتعب ليلا ونهارا ، وأجهد نفسه من أجل هدايتهم إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة فكيف يكون هذا جزاؤه منهم.
لكن الله سبحانه وتعالى طمأنه بأن النصر سيكون حليفه في النهاية ، وأن هذا الذي يحصل له قد حصل مع الأنبياء السابقين ، فقال تعالى "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ "(1) وقال أيضا : "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا"(الأنعام :34 ) ثم كفاه الله مئونة الرد عليهم ، وقال له سبحانه وتعالى "إنا كفيناك المستهزئين"(2). .
2ـ أسلوب الإغراء بالمال، فقد جاء في كتب السيرة أن عتبة بن ربيعة لما رأى أصحاب النبي يزدادون كل يوم كثرة قال: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً ؛ لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه، فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول اللّه ، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ..، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ؛ لعلك تقبل منا بعضها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع.
قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ..، فلما فرغ عتبة من عروضه قال له صلى الله عليه وسلم : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني، ثم قرأ عليه قول الله تعالى : "بِسْمِ اللّه الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ. حَم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ "(فصلت :1 4) ثم مضى رسول اللّه فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، متعمداً عليهما يستمع منه ، ثم انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك .
ولما أكثر الجدال معه قال يا أبا الوليد : ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني فيكم رسولا ، وأنزل عليّ كتابا ، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .
فقام عتبة إلى أصحابه ، ولما رآه بعضهم من بعيد قالوا : نحلف والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس قالوا: ما وراءك ؟ قال : ورائي أنّي سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي ، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكوننّ لقوله نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزّه عزّكم ، وكنتم أسعد النّاس به ..
ولو كان في الناس بقية عقل لسلموا بما قاله عتبة ، ولكن العناد غلبهم فجعلوا يقولون: سحرك والله محمد بلسانه ، فقال لهم : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم (3)..
3ـ أسلوب التعجيز ، بمعنى أنهم بدءوا يسألونه أشياء فوق قدرة البشر ، فقالوا له : يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ، ولا أقل ماء ، ولا أشد عيشا منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب (وهو من أجداد رسول اللّه) فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا منزلتك من اللّه، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم : ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من اللّه بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به ، فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وأن تردوه علي أصبر لأمر اللّه حتى يحكم اللّه بيني وبينكم.
قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزاً من ذهب وفضة ، يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك ، إن كنت رسولا كما تزعم (4)..
ولو كان هؤلاء يسألونه الآيات أو المعجزات لتطمئن بها قلوبهم ؛ لاستجاب لهم في ذلك ، ولكنهم قصدوا تعجيزه ، بدليل أن أحدهم قال : " فواللّه لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ في السماء سلماً ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة ، يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم اللّه لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك " ..
وبالفعل فإن رسول الله لما رُقي إلى السماء ليلة الإسراء والمعراج وآتاهم بالبينات لم يزدادوا إلا نفورا .
فهذه سنة متبعة على مدار التاريخ ، يسأل المعاندون عن الآيات ، فإذا جاءت لا يؤمنون بها ، فقديما قال فرعون لموسى عله السلام : " إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " فكانت آيته أن" أَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ " فردوا عليه " إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ "(5)..
لذلك كان جوابه صلى الله عليه وسلم " ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن اللّه بعثني بشيراً ونذيراً ، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرّ ، وإن تردوه علي أصبر لأمر اللّه حتى يحكم اللّه بيني وبينكم "(6)..
4ـ أسلوب التعذيب والاضطهاد : وذلك أنهم لما فشلوا في أساليبهم السابقة اتفقوا فيما بينهم على أن يؤذوا ويعذبوا من تبعه بكل ما يستطيعون ؛ ليصرفوا الناس عنه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، ويسحبونهم على الصخر إذا اشتد الحر ، يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب ( يقوى ويشتد ) لهم ، ويعصمه الله منهم .
وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم ، له شرف ومنعة ، أنَّبه وأخزاه ، وقال : تركت دين أبيك وهو خير منك ، لنسفهن حلمك ، ولَنُفيِّلَنّ رأيك ، ولنضعن شرفك ؛ وإن كان تاجرا قال : والله لنُكسدنّ تجارتك ، ولنهلكن مالك ؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به ، وجروا عليهم ويلات تقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب ..
يقول عبد الله بن عباس : إن كانوا ليضربون أحدهم ويجُيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ، حتى يقولوا له : آللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ، حتى إن الجُعَل ليمر بهم ، فيقولون له : أهذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ، افتداء منهم مما يبلغون من جهده(7). .
ولم يقف أثرياء المسلمين مكتوفي الأيدي أمام هؤلاء ، والإسلام يأمر بالتكافل ، وإنما سعوا في شراء هؤلاء العبيد المعذبين وتحريرهم ، وعلى رأس هؤلاء أبو بكر الصديق الذي اشترى سبعة من ماله الخاص ، وأعتقهم لوجه الله تعالى (8).
ومن العجب أن هؤلاء المستضعفين المعذبين لم ينسوا القيم والفضائل التي رباهم عليها محمد صلى الله عليه ، وامتلأت قلوبهم بالعطف حتى على من يعذبهم ، فقد مر أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يوما بامرأتين منهما ، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها ، وهي تقول : والله لا أعتقكما أبدا ، فقال لها : حل يا أم فلان ؛ فقالت : حل ، أنت أفسدتهما فأعتقهما ؛ قال : فبكم هما ؟ قالت : بكذا وكذا ؛ فقال لها: قد أخذتهما وهما حرتان ، ثم دفع ما طلبته المرأة من ثمن ، والتفت إلى الجاريتين وقال لهما : أرجعا إليها طحينها ، فإذا بهما تطلبان منه وتستسمحانه أن يمهلهما حتى يطحنا لها طحينها ، فقال : " وذلك إن شئتما "(9).
ولا يدري الإنسان من أيّ يعجب ، أمن سرعة أبي بكر رضي الله عنه في تحرير الجاريتين ؟؟ أمن رقة قلبيهما حيث آثرتا إلا تتركا للمرأة طحينها وقد خرجتا من تحت عبوديتها ؟ أم من جهل البشرية الآن ـ بمن فيهم بعض المسلمين ـ بتلك النماذج الملائكية التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ولم يقتصر التعذيب على هؤلاء الموالي أو العبيد ، وإنما طال كثيرا من المسلمين إلا من كان له عشيرة تحميه ، فها هو عثمان بن عفان كان له عم يلفه في حصير من ورق النخيل ، ثم يدخنه من تحته ، وها هو مصعب بن عمير لما علمت أمه بإسلامه منعته الطعام والشراب ، وأخرجته من بيته ، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية ، وصهيب بن سنان الرومي كان يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
هذه نماذج معدودة لما كان يلقاه المسلمون من الظلم والخسف والجور على أيدي طغاة المشركين ، الذين كانوا يزعمون أنهم أهل الله وسكان حرمه ، كما يزعم طغاة اليوم أنهم دعاة سلام وحماة لحقوق الإنسان، وهؤلاء الناس وغيرهم ممن يعذب من المؤمنين المستضعفين في كل عصر ما رفعوا سلاحا في وجه أحد ، وما أساءوا إلى أحد بقول أو فعل ، وكل ما فعلوه أنهم قالوا : "ربنا الله".
هذا ولم يقتصر ترهيبهم على من أسلم فقط ، بل كانوا يبطشون حتى بمن حاول أن يستفسر عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا رجل من خارج مكة يقول : "جئت إلى مكة فسألت أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ ؟ ... فمال أهل الوادي عليّ بكل مدَرَةٍ وعظم، حتى خررت مغشياً عليّ ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُب أحمر" (10)..
وحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم حماية وحراسة عائلته له لم يسلم من أذاهم واعتداءاتهم ، فقد قال صلى الله عليه :" لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة ، وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد؛ إلا ما يواري إبط بلال (11)..
ورغم هذا البلاء استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً نهاراً، سراً وجهراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده سواء ، ويوصي من يشكو إليه إيذاء المشركين له بالصبر.
يقول أحد أصحابه أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة( ملتف بعبايته) وهو في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه ، فقال : " لقد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ، ما دون عظامه من لحم أو عصب ؛ ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليُتمّنّ الله هذا الأمر ؛ حتى يسير الراكب من (صنعاء) إلى (حضر موت) ما يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون"(12)..
وصدق الله عز وجل في وعده وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغه فلم ينته عهد الفاروق عمر رضي الله عنه حتى صارت الجزيرة العربية وما محولها آمنة مطمئنة ، وإلى لقاء آخر إن شاء الله إن كان في العمر بقية ..
هذا نبي الإسلام (6)د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد تحدثت في الحلقة السابقة عن أساليب المشركين في مواجهة الدعوة الإسلامية ، وأكمل حديثي فأقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى التضيق على أصحابه أن بعضهم بدأ يُفتن تحت ضغط التعذيب ـ والناس تختلف في تحمل البلاء ـ لم يشأ أن يحملهم فوق ما يطيقون ، أو أن يتركهم يدخلون في صراع لا تحمد عواقبه مع المشركين الذين يستفزونهم كل حين ، وأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة حيث كان يعلم ( ربما من خلال رحلاته التجارية) أن بها ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد ، وقال لهم : " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجاً مما أنتم فيه"(1) غير أنه صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم بذلك ، وإنما ترك لهم حرية الاختيار بين البقاء والصبر على الأذى بمكة أو الخروج إلى الحبشة .
فخرج إليها سرا قرابة مائة مسلم ومسلمة ، تاركين وراءهم المال والأهل والوطن إلى بيئة تختلف عن بيئتهم في كل شيء حتى في اللغة ؛ كي يستطيعوا أن يحافظوا على إيمانهم بالله تعالى.
ولكن لم يرض الطغاة من قريش عن هذا الفعل ، فهم يصرون على ألا يعبد الله في الأرض ، ولو كان خارج ديارهم ، وعز عليهم أن يجد المؤمنون بالله مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين منهما وأرسلوهما بهدايا مستطرفة لملك الحبشة ولبطارقته ليرشوهم بها ، وطلبوا منه أن يطرد المسلمين من بلاده ، ويعيدهم إلى مكة ، وقالا له : أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه (2).
لكن ملك الحبشة كان كما حسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عادلا منصفا ، ولم يشأ أن يستجيب لهم قبل أن يقابل المسلمين ، ويتعرف على حقيقتهم ، ومدى صدق رسل قريش فيما ادعوه ، فأرسل إليهم من يحضرهم بين يديه ، فجاءوه وقد أجمعوا على الصدق معه كائنًا ما كان ، فقال لهم مستفسرا : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ؟.
فقال أحدهم وهو" جعفر بن أبي طالب" ابن عم رسول الله : أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئًا.
وعدد عليه أمور الإسلام ثم قال له: فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئًا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك(3).
فقال له ملك الحبشة : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ ، فقرأ عليه مقدمة سورة "مريم " وهي " كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ..... ".
فبكى النجاشي ( ملك الحبشة) حتى ابتلت لحيته من كثرة بكائه ، وكذلك أساقفته حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال ( أي النجاشي ): إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مصدر واحد ـ أي كلاهما من عند الله ـ ثم قال لرسولي قريش : انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون .
فخرجا من عنده وهما عازمان على أن يحتالا عليه بحيلة أخرى ـ كحال بطانة السوء مع كل حاكم عاقل ـ لعلها توقع بينه وبينهم ، فأتياه من الغد فقالا : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما ، وهي العبارة التي يرددها الآن من يعملون على بث كراهية المسلمين في قلوب العوام من النصارى ، ثم قالا له ليزداد غضبا : أرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه ، فأرسل إليهم ليسألهم عنه ، فأجابه جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، يقول : " هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول " .
وهذه نظرة الإسلام إلى عيسى عليه السلام ، هو نبي من البشر مثله مثل سائر الأنبياء ، أرسله الله إلى بني إسرائيل ، وكان النجاشي من المؤمنين بذلك ، فصدق قولهم .
رد النجاشي رسل قريش بهديتهم التي جاءوا ليرشوه بها ، ثم أوصى أهل مملكته بالإحسان إلي ضيوفه المسلمين ، وعدم التعرض لهم بسوء ، فاستجابوا له ، ونفذوا وصيته خير تنفيذ ، حتى قال أحد هؤلاء المهاجرين : " فجاورنا خير جوار ، أمنا على ديننا وعبدنا اللّه ، لا نؤذى ، ولا نسمع شيئا نكرهه.
ولم يُضيع الله عليه جميل هذا الصُنع ، إذ لم يمض على تلك الحادثة غير قليل حتى خرج عليه بعض البغاة يريدون خلعه من المُلك فنصره الله عليهم .
وعاد الرسولان إلى مكة خائبين بعد رفض النجاشي الاستجابة لطلبهما " فاستشاط المشركون غضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، واشتدت ضراوتهم على من بقي من المسلمين بمكة وعلى رسول الله ، فقد حرضوا عتيبة بن أبي لهب يومًا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه.
كما جاء إليه نفر منهم وهو قائم يصلي عند الكعبة ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، وأخذوا بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله ؟ فلُهوا عنه ، وأقبلوا على أبي بكر يضربونه حتى كاد يهلك .
فسمع بنو تيم قومه بذلك فأسرعوا إلى المسجد ، فأجلوهم عن أبي بكر وقالوا لهم : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عُتبة بن ربيعة( أعظم الحاضرين) ثم حملوه في ثوب، وهم لا يشكّون في موته، حتى أدخلوه منزله، وجعلوا يكلمونه حتى أجاب فتكلّم آخر النهار ، فكان أول ما قاله : ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم ؟ فعاتبوه على ذلك.
وهذا الاعتداء وذلكم التعذيب جعلا قلوب بعض العقلاء ترقُّ للإسلام ، فقد رجع حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ يوما من رحلة صيد ، فقابلته جارية عند الكعبة ، وقالت له : لو رأيت أبا الحكم وهو يسب ابن أخيك وهو ساكت لا يكلمه ، فأخذته الحمية ومشي إلى أبي جهل فضربه في رأسه فَشَجَّهُ ، وقال له : تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ .
ثم ذهب إلى رسول الله فأعلن إسلامه، ولم يمض غير قليل حتى أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بعد حادث اعتداء منه على أخته المسلمة وزوجها جعل قلبه يرق لما هما عليه ، وكانت هذه انفراجة يسيرة في حياة المسلمين ؛ وذلك لأن هذين الرجلين كان قد شاع صيتهما في القوة والشجاعة والبأس ، مما جعل كثيرا من السفهاء بمكة يهابونهما .
وبعد فشل أسلوب الاضطهاد والتعذيب في إيقاف المد الإسلامي ، وفرار كثير من المضطهدين إلى الحبشة ، وإسلام حمزة وعمر الذين زادا المسلمين منعة ، لجأ زعماء الشرك بمكة إلى أسلوب آخر لعله يكون أشد تأثيرا ، وهو أسلوب التجويع أو الحصار الاقتصادي ، فقد اجتمع سادة المشركين بمكة ، واتفقوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على معاقبة المسلمين والمناصرين له من بني هاشم وبني المطلب ، بأسلوب أشد تأثيرا ، وهو ألا يبايعوهم ، ولا يخالطوهم ، ولا يزوجوهم ، أو يتزوجوا منهم ، ولا يجالسوهم ، ولا يدخلوا بيوتهم ، ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول اللّه للقتل ..
يعني أنهم اتفقوا وتعهدوا على مقاطعتهم مقاطعة تامة ؛ انتقاماً منهم لإسلامهم ودفاعهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكتبوا بذلك صحيفة توكيداً لأنفسهم ، وعلقوها في جوف الكعبة في أول المحرم سنة سبع من النبوة ، واضطروهم إلى الانتقال والمعيشة في شِعب يسمى "شعب أبي طالب"(4)..
وصاروا لا يتركون طعامًا يدخل مكة ، ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، وكان أبو لهب يحض التجار ، ويقول لهم : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا ، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي ، وأنا ضامن ألاّ خسارة عليكم ، فيزيدون عليهم في قيمتها أضعافا ، وصار الرجل من المسلمين يخرج إلى السوق ، ويرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع ، وليس في يديه شيء يتقوون به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى بلغ بالمسلمين ومن حالفهم الجهد، واضطروا إلى أكل الأوراق والجلود (5).
وكان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يصرخون من الجوع ، وكان لا يصل إليهم شيء من طعام إلا سرًا ، ولا يخرجون من الشعب لشراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم ، وقد صور سعد بن أبي وقاص ( أحد المسلمين المحاصرين ) مدى ما كان يعانيه من جوع بقوله : خرجت ذات ليلة لأبولَ فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد ، فأخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ثم رضضتها وسففتها بالماء ، فتقويت بها ثلاثا ، وللقارئ أن يتأمل إلى أي حد وصل الأمر به حتى يأكل مثل ذلك .
وقد أنفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزوجته خديجة رضي الله عنها مالهما كله على المحاصرين ، وكذلك أبو طالب حتى صاروا إلى حد الضر والفاقة ...
ولبث المسلمون وبنوهاشم في هذا الشعب ثلاث سنين حتى اشتد عليهم البلاء والجهد ، وقطع المشركون عنهم الأسواق ، فكانوا لا يتركون لهم طعاما يقدم مكة ، ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه .
ورغم ذلك لم يخرجوا عن الأخلاق التي رباهم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ضجر أحدهم بالإسلام وما ناله من الشدة بسبب اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما اُضطر أحدهم لأن يسلك في سبيل الحصول على لقمته سلوكا مشينا ، وما خان أحدهم نبيّه بالميل إلى المشركين وممالأتهم طمعا في الحصول على طعامه.
ومن العجب أن أبا طالب رغم أنه لم يكن على دين رسول الله إلا أن شدة الحصار لم تزده إلا حرصا على حمايته والدفاع عنه ، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه ؛ ليرى ذلك من أراد به مكرا أو اغتيالا ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه.
وشاء الله أن يتحرك أصحاب القلوب الرحيمة من عامة قريش وبعض سادتها ممن تأثروا بما أصاب المحاصرين ، وأظهروا كراهيتهم لهذه الصحيفة الظالمة ، ومن هؤلاء رجل يسمى "هشام بن عمرو بن الحارث" الذي كان يأتي بالبعير ليلا وقد حمله طعاما ، حتى إذا بلغ فم الشعب المحاصرين فيه خلع خطامه من رأسه ، ثم ضرب على جبينه فأدخله الشعب عليهم ، ثم يأتي به مرة أخرى ، وقد حمله بُرا ( نوع من القمح ) فيفعل به مثل ذلك.
وظل يستحث رفاقه حتى اجتمع نفر منهم ، ولام بعضهم بعضا على ما يحدث لهؤلاء دون أن يقترفوا إثما أو خطيئة ، واتفقوا فيما بينهم على السعي في نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه ، ورءوا أن اختلافهم مع المسلمين ليس مبررا للقسوة عليهم إلى هذا الحد ، وكان مما قاله لأحد أقاربه : أرضيت أن تأكل الطعام ، وتلبس الثياب وتلهو ، وأخوالك حيث علمت لا يأكلون ولا يلبسون لا يباعون ولا يبتاع منهم ؟... ، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام (أبي جهل) ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا(6)..
وتعاطف هؤلاء ومن قبلهم ملك الحبشة دليل على أن غير المسلمين ليسوا كلهم مجتمعين على معاداة الإسلام ، وأن من بينهم من يمتلأ قلبه بالسماحة والرأفة ، ومن بينهم من هو على استعداد للمساهمة بماله ووقته وفكره ورأيه لنصرة قضيتهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينظر لمثل هؤلاء نظرة احترام وتقدير كما سنرى بعد قليل ، حيث قال عن أحدهم وكان يسمى " المطعم بن عدي " بعد غزوة بدر : لو كان حيا لتركت له هؤلاء الأسرى ؛ إكراما له.
وبدأ هؤلاء النفر الذين سعوا في فك الحصار عن المسلمين في كسب الرأي العام لمساعدتهم في نقض صحيفة الغدر ، فأقبل أحدهم على الناس وقال : يا أهل مكة أنأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى ، لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ، فقال أبو جهل "رأس الكفر" : والله لا تشق ، فرد عليه آخر بقوله : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حين كتبت ، فقال ثالث: صدق لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقر به ، فقال رابع : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ، وقال خامس : مثل ذلك .
ولم يجد أبو جهل ومن على غدره غير التسليم لهم ، ونجحوا في فك الحصار عن المؤمنين الذي دام ثلاث سنين(7).
والآن المسلمون من الممكن أن يستفيدوا من وقفة أصحاب القلوب الرحيمة من غير المسلمين في نصرة قضاياهم في المحافل الدولية ، وتخفيف وطأة الحصار على من يقع عليهم في فلسطين وغيرها ، وما أكثر هؤلاء !.
أحس زعماء الشرك بالهزيمة أمام رسول الله بعد نجاح أصحاب القلوب الرحيمة في فض الحصار ، وبدءوا يتنازلون عن فكرة قتله ، وسعوا في مفاوضته على أن يتركوه وشأنه ، ويتركهم وما يعبدون ، لا يتعرض لآلهتهم المزعومة ، فذهبوا إلى أبي طالب وقالوا : يا أبا طالب ، إنك منا حيث قد علمت ، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك ، فادعه فخذ له منا ، وخذ لنا منه ؛ ليكف عنا ، ونكف عنه ، وليدعـنا وديننا ، وندعه ودينه .
وما كان أرضى رسول الله بذلك لو صدقوا ، وقد أنزل الله ســورة" الكافرون " لتؤكد لهم هذا الميثاق الذي طلبوه ، ألا يكرههم على الإسلام ، ولا يكرهونه على عبادة أصنامهم ، فقال سبحانه وتعالى : " قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين " لكنهم سرعان ما نكثوا عهودهم .
إذ لم يمض غير وقت قصير حتى مات أبو طالب ، وسبق ذلك بقليل أو لحقه وفاة خديجة ـ رضي الله عنها ـ فانتهزوا تلك الفرصة وعاد سادتهم إلى ما كانوا عليه من عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتعرضوا له بالإيذاء في كل طريق ، وأصابه من الأذى ما لم يصبه من قبل ، ونسي هؤلاء ما قالوه لأبي طالب " ليكف عنا ونكف عنه" وتنكروا لما جاء في ميثاق الله تعالى " لكم دينكم ولي دين ".
وحال هؤلاء المشركون تماما بينه وبين الالتقاء بالناس ليعرفهم بالإسلام ، فاجتمعت عليه صلى الله عليه وسلم الأحزان ، حزن على عمه الذي كان يحوطه ويرعاه وينصره ، وضاعف من هذا الحزن أنه مات على شركه ، وكان يتمنى له وهو أحب الناس إلى قلبه الهداية ، وحزن على زوجته خديجة ، والتي صحبته فكانت نعم الزوجة ، أذهبت عنه همه وخففت عنه حزنه ، ووضعت مالها وتجارتها في خدمة دعوته ، وأعانته على ما كلف به من ربه ، وحزن على قومه الذين لم تزدهم دعوته لهم إلا إعراضا ، يدعوهم إلى الجنة ويتفلتون منه إلى النار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
(1) ابن هشام : السيرة النبوية ج2 : صـ 66
(2) السابق : جـ 2 صـ 69
(3) انظر القصة كاملة في سيرة ابن كثير الجزء الثاني
(4) ابن هشام : السيرة النبوية جـ 2 صـ 195 وما بعدها
(5) الروض الأنف ج1 ص 179
(6) ابن هشام : السيرة ج2 ص 199 وما بعدها
(7) تاريخ الطبري :ج1 صـ 553
المصدر : موقع التاريخ