إن الناظر في حال اللغة العربية اليوم في مجتمعاتنا وبلادنا العربية والإسلامية يشعر بألم عميق ، وحسرة شديدة ، لكونها لا تحظى بما تستحقه من احترام ، وليست عندهم في المكان اللائق والموضع المناسب . ومؤلم جداً أن تكون هذه النظرة وذلك الموقف من أحبائها وأحبائها لا من أعدائها الذين أشرنا إلى شئ من وسائل مكرهم وسبل كيدهم لها:
وظلم ذوي القربى أشـد مضاضـة على النفس من وقـع الحسام المهنــد
إن أخطر ما يوجهه أبناء العربية لها العقوق والتنكر أو التجاهل وعدم المبالاة. وقد أشرنا في الصفحات السابقة إلى نظرة سلفنا الصالح إلى لغتهم ، وكيف كانوا يولونها من الرعاية والاحترام إلىدرجة الاستخفاف بمن يخطئ في حقها ، بل إن الأمر قد يصل إلى التاديب النفسي والجسدي لمن يلحن في اللغة ؛ فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يتسلم خطاباً من أبي موسى الأشعري فيجد في الخطاب لحناً ، فيكتب لأبي موسى أن قنعْ كاتبك سوطاً، وفي رواية واصرفه عن عمله.وهذا عبدالله بن عمر يضرب أولاده على اللحن من باب الضرب. وهذا عبدالملك بن مروان الذي يُروى عنه أنه قال : شيبني صعود المنابر مخافة اللحن.
هذه نماذج سريعة لما كانت تحظى به لغة القرآن من مكانة سامية ومنزلة عالية عن سلفنا الصالح –رحمهم الله - .
أما اليوم فالأمر يختلف تماماً ( فلغتنا تتعرض لألوان من الهجر والإقصاء والمضايقة والتشويه من أكثر أبنائها ، وفي عقر دارها ) ، يتمثل ذلك في الآتي:
1- أن لغة المستعمر للبلاد الإسلامية هي لغة الشعوب المسلمة في تلك البلاد في أكثر دول أفريقيا وآسيا. وترى القليل من المسلمين يحسن اللغة العربية ، ويعرف لها قدرها . أما البقية فهم لا يحسنون غير لغة المستعمر ، مع أنهم مسلمون وكان من الواجب أن يتقنوا لغة القرآن ، لغة دينهم وعبادتهم.
2- إن اللغة الأجنبية هي لغة التعليم الجامعي في الأقسام العلمية في كثير من جامعاتنا بل في جامعات الدول العربية ، فالطب والهندسة والعلوم وغيرها من العلوم التجريبية كلها لا تدرس إلا باللغة الأجنبية مع قدرة اللغة العربية وسعتها ، فالعدول عنها إلى الأجنبية وعدم وجود محاولات جادة لتعريب تلك العلوم أمر مؤلم ومحير.
3- أن من المؤسف جداً أن تكون اللغة السائدة في المراكزالصحية والمستشفيات وكذلك في الفنادق هي اللغة الأجنبية مع أن غالبية الأطباء والعاملين في تلك المؤسسات والمواقع من العرب.....إن المرء يشعر بالألم والحسرة عندما يتسلم وصفته الطبية فيجدها مكتوبة بلغة أجنبية أو (فاتورة)حسابه في الفندق فيجدها كذلك . بل إن الألم يزداد وتتضاعف الحسرة حينما تبحث عمن يحسن العربية في تلك المواقع فلا تجده. فمن المسؤول عن هذا التخاذل والتنكر ؟؟
4- أن من مظاهر الغزو الأجنبي ذلك الكم الهائل من المفردات التي تسللت إلى لغتنا العربية في حين غفلة من أهلها ، فلا تكاد تستمع إلى متجدث إلا وتجد في ثنايا حديثه بعض تلك الكلمات ، وبخاصة معشر المثقفين غير مدركين لخطورة هذا المسلك وقد كره الإمام الشافعي – رحمه الله- - لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها
، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالعجمية ! وهذا الذي ذكره مذكور عن الصحابة والتابعين . . .
وقد روي السلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي . . . عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم _ قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : (( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم يالعجمية فإنه يورث النفاق ))
كما أن شيخ الإسلام ابن تيمة_ رحمه الله _ قد كره أن يتعود الرجل النطق بغير العربية ، لكون اللسان النطق بغير العربية،كون اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون.
يقول : (( وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة ..فلا
ريب أن ذلك مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم .." والأمم التي تحترم لغتها وتضعها في مكانها اللائق بها لا ترضى لها بمثل هذا التداخل والاختلاط ، فهذا المجمع العلمي الفرنسي ينادي بإبطال كلمة "إنجليزية" تسللت إلى الفرنسية من أثر الحرب الكبرى ، وعدها المجمع _ الحريص على لغة قومه وأمته – نكبة على اللغة ، كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة ! وما فعلوا ذلك إلا لأن التهاون يدعو بعضه إلى بعض ، والغفلة تستدعي مزيداً من الغزو والنكبات.
تُرى كم في لغتنا من الدخيل أو بتعبير المجمع العلمي الفرنسي كم في أرضنا من الجنود الغرباء ؟؟.. إن مسؤولية مجامع اللغة العربية وأقسام العربية في جامعاتنا جد عظيمة في الدفاع عن لغة القرآن ، وصد هذا السيل الجارف من المفردات الأجنبية التي تتسلل إلى لغتنا كل يوم ، فيتلقفها الناس مستخدمين لها فتصير مع الزمن مفردة محلية مستأنسة . إن الواجب هو تعريب تلك المصطلحات والمفردات قبل دخولها ليتعرف الناس على المسمى العربي قبل غزو المفردة الأجنبية.
5- ومن مظاهر هجر الفصحى وغربتها تلك النظرة المتميزة لمن يتكلم أيا من اللغات الأجنبية وبخاصة الإنجليزية في الوقت الذي يلاقي فيه من يحاول أن يتحدث بالفصحى شيئاً من الاستهزاء والسخرية من المجتمع الذي يعيش فيه . وربما يكون ذلك في بعض الأوساط العلمية التي من المفترض في روادها أن يلتزموا العربية الفصحى دون تقعر أو تشدد في التماس الغريب .
6- أن من مظاهر عدم اهتمام باللغة وغربتها بين أهلها ما يلاحظ على بعض معلمي المراحل المختلفة بشكل عام ، ومعلمي اللغة بشكل خاص من ضعف في المستوى العلمي ، فترى بعض المعلمين لا يحرص على الالتزام بالفصحى أثناء تدريسه للطلاب ، بل إنه لا يستخدم إلا اللهجة المحلية ، وذلك يعود لسببين اثنين: أولهما: عدم اهتمامه بالعربية الفصحى.وثانيهما: عدم إلمامه بقواعدها وأصولها.
ومن المؤلم حقاً أن نرى ونسمع بعض الأساتذة في بعض الكليات والمعاهد المتخصصة وهو في فصله أو أثناء مناقشة الرسائل العلمية يستخدم غير الفصحى بكل جسارة. وقد أخرج لنا هذا المستوى المتواضع جيلاً ضعيف المستوى لا يحمل للغته مل تستحق من حب وتقدير وإجلال ، لكونه لايرى في محيطه العلمي والاجتماعي من يعينه على تكوين تلك النظرة السامية .
وقد ساعد في إفراز هذا المستوى المتدني لطلابنا في اللغة إضافة إلى ماسبق عدم وجود المنهج الدراسي المختار بعناية ، وبعد دراسة متعمقة ولو أردنا أن نسأل هل هناك تحديد دقيق من حيث الكم والكيف لما ينبغي أن يحصل عليه الطالب من حصيلة لغوية في كل مرحلة دراسية ؟ وهل هناك حصر للألفاظ والأساليب والتراكيب التي استطاع التلميذ أن يحصل عليها في نهاية كل مرحلة ؟ لجاء الجواب مفزعاً . إن تعليم اللغات خارج الوطن العربي يخضع لدراسات علمية دقيقة يتوافر عليها مجموعة من خبراء التربية والتعليم واللغات والاجتماع ، تحدد ما هو مطلوب لكل مستوى، كما أنهم قد قاموا بإعداد معجمات وقواميس لغوية تناسب كل مرحلة وتحتوي على المفردات التي درسها الطالب في تلك المرحلة ، روعي فيها المستوى الفكري والزمني للطالب.
7- أن من مظاهر غربة اللغة وعدم الاهتمام بها بالصورة المطلوبة ما نراه ونشاهده من أخطاء جسيمة ومخالفات لغوية ونحوية واضحة في اللافتات واللوحات المعلقة على واجهات المحلات التجارية كما أننا نلاحظ بعض المسميات الدخيلة على لغتنا وكثيراً ما تزاحم اللغة الأجنبية لغتنا الأصلية ، فتكتب بخط عريض ، وشكل جميل ينافس لغة البلاد المعتبرة..... فمن المسؤول عن هذه التجاوزات ، وتلك الأخطاء المؤلمة ! وأين أثر الجهات المختصة وأصحاب القضية من ذوي الغيرة والإخلاص لدينهم ولغتهم؟!
8- أن من مظاهر غربة اللغة وقلة الاهتمام بها الاحتفاء بالآداب الشعبية والأشعار العامية ، فترى الصحف تتسابق في خدمة هذا النوع من الأدب ونشره ، والتشجيع عليه ، وتفرد له الصفحات وتخصص له الملاحق. وهذا بلا شك دليل على ضعف المستوى التذوقي عند بعض أفراد الأمة . وفي هذا التشجيع لكتابة هذا النوع من الشعر صرف ٌللناشئة عن كتابة الشعر العربي الأصيل.
منقول