Samir Aser
New Member
بسم الله الرحمن الرحيم
Sammora الحَرِّيفْ وثورة التصحيح
لم ينمْ الأستاذ Sammora طُوال الليل ؛ فقد كان راقداً بأعينٍ مسهدة مفتوحة ينتظر صباح اليوم
التالى على أحرّ من الجمر ؛ فقد عقد العزم على أن يبدأ إعتباراً من هذا اليوم التاريخى بثورة
التصحيح الكبرى ليُعدِّل من مسار حياته .
لقد أفاق و تفتحت عيناه أخيراً على حقائق الحياة... إنها غابة موحشة ؛ وقد طحنته طحناً فى
الأيام الخالية ؛ وينبغى له أن يتسلح دائما لها .
ودارت فى ذهنه كلمات أبيه يجترّها ويتذكرها ؛ عندما كان يراه مُسرفاً ، متلافاً ، لايقيم وزناً للمال ؛ ولايعبأ به ؛ كان يقول له مُؤنباً : - أنفقت كل مامعك ؟... شاطِرْ ! ؛ فيهز كتفيه باستهتار وهو
يغمغم : - وايه يعنى ؟ لاشىء يُهم . ويبدو الألم على وجه أبيه وهو يردد مستنكرا : - وايه يعنى ؟! لاشىء يُهم ... اللى مايتعلّمْش من أمه وأبوه ياويله... هَتْعَلِّمُه الأيام والليالى . ثم يستدرك ناصحاً إيّاه بشفقة : - يا بنى .. ليكن المال فى جيبك دائما ... سلاحك ... كالبندقية جاهزة دائما لتضرب بها فى
الوقت المناسب ... لايكن جيبك عيبك ... ( إمْشِى مِفَرَّشْ ولاتمشى مِكَرَّشْ ) ؛ فيضحك Sammora
برعونه : - يعنى ايه ؟ . ويشرح له أبوه بصبر نافذ : - يعنى لما تمشى بطنك مليانة ومفلّس أحسن ؛ ولاّ لما تكون جَعَان وجيبك عَمْرااان ؟! . ويستمر Sammora فى الضحك : - الكلام دَه دَقّه قديمه . ويحوقل والده ويستغفر ؛ ولايبخل عليه ببعض الجُنيهات يعطيها له . كان ذلك قبل أن يتزوج هَنِيَّهْ .
هاهو الآن لا يجد مايأكله ؛ وهو من كان يتأفف دائما ؛ ويُبدى تبرمه عندما توضع أمامه وجبة غذاء بسيطة ؛ ويصم أذنيه حتى لايسمع كلام أبيه : - العدس موش عاجبك ؟ اتشطَّر انت بُكْرَه وغدِّينا لحمه ! ... يامستكتر الأيام أكتر .... الأيام أكتر م الفلوس .
ويتحلّب ريقه ؛ و تشتاق نفسه وتهفو إلى طبق من العدس الشهى بلونه الأصفر الكهرمانى .
إنها أزمة حقيقية ؛ أول أزمة يتعرّض لها فى حياته ؛ تبخرت جُنيهات المُرتّب ؛ وتطايرت كالعصافير
قبل أن ينتصف الشهر . دار على كل من يعرفه ؛ ولم يجد سوى ابتسامة باهتة ؛ وكلمات آسفه
متملصه ؛ وعندما جلس بحجرة ناظر مدرسة الأخلاق الحميدة التى يعمل بها ؛ لم يمد له أحدهم
يده بسيجاره ؛ وهو الكريم معهم دائما ؛ كان يترك علبته لمن يشاء يسحب منها مثنى وثلاث
.... ( آاااهِ من الأيام آاه ) ؛ وعندما فتح فاه يتكلم عن أزمته المالية ؛ أسكتته ضحكات
الناظر العجوز وهو يقول : - ياأستاذ Sammora ؛ الخَضّ فى الماء لايُنتج زبدا .
ثم أردف ساخرا : - ( فى أغسطس القرش يُغطس ) ؛ أحس بِذلّ السؤال والحاجة ؛ وأريق ماء وجهه .
كم آلمه أن يجلس إلى صديقه التاجر بالغُورِيَّه ، وقد سبقت إليه يده بالمعروف ؛ يحاوره ويداوره ؛
يتحدث حول أزمته من بعيد ومن قريب ؛ والآخر يراوغه و يزوغ زوغان الثعلب . وكانت مفارقة
غريبة من عبث الأقدار أن يدخل عليهما بهلول الشحّاذ ؛ وقتها أحس بالحرج الشديد ؛ وتمنَّى أن تنشق الأرض وتبلعه ؛ فهو يعرفه جيداً ؛ لم يَكُن يبخل عليه بالعطاء ، وكثيراً مامَدّ له يده بماتيسر؛ عندما
يمر على روّاد المقهى بفم معوج ؛ وخطوات كسيحه ؛ كان يتفاءل به كثيراً ؛ ويعتبره ( راجل بركه..
... يجلب له الحظ السعيد ؛ فى رمى النرد العنيد ) ماذا يفعل الآن عندما يمد له يده ؟ .
وسرعان ماأصابه الدوار الشديد ؛ وخفق قلبه بشدة ؛ وبرزت عيناه من محجريهما وهو يرى بهلول
يمشى بقامة معتدله وبخطو ثابت ؛ يُخرج من عبه منديلا كبيراً مصروراً وضعه على المكتب الخشبى الصغيرأمام صديقه ؛ وفك عقدته ، لتنفرط قطع النقد الصغيرة الكثيرة ؛ يجمعها صديقه ويُحصيها
بحرص ؛ ثم ينفح ذلك الشحاذ مايقابلها ؛ ورقة نقدية حمراء من فئة الخمسين جُنيها وبعض الفكّه
؛ يأخذها الشحاذ المتباله وهويهز رأسه ويقول : مظبوط ... تمام . وفوجىء به وهو يمر به
يقول له ؛ قبل أن يعود لفمه إعوجاجه وتتكاسح مشيته : إزَّّيَك ياحَرِّيف ؟! . وينظر إليه صديقه
التاجر بعيون حجرية قائلا : - أحتاج دائما إلى الفكَّه ؛ وبهلول بيلِمْ لَمِتُه من الغلّة ودائما يأتينى بها .
ثم أردف بمسكنه : - الحالة واقفة ؛ والسوق نايم... فكّها من عندك يااارب .
كم أحس بضآلته وحقارته وبلاهته أمام بهلول الشحاذ .. نعم صدق من قال ( اللى معاه قرش يساوى قرش ) ؛ هاهو خالى الوفاض تماماً... لايساوى فلساً واحداً .
اكتوى بنار العوز ؛ ولم يقو على الإقتراب من المقهى ؛ كيف وهو لايملك ثمن كوبٍ من الشاى ؛ وهو الأستاذ الحرّيف ؛ كم هو ثمين وعزيز الآن كوب الشاى هذا الذى قلّما كان يُكمل شربه !.
ظل وحده رهين البيت خمسة أيام بلياليها ؛ يأكل بقايا الخبز الجاف بحرص واقتصاد شديدين ؛ ويتبلّغ ببعض العسل الأسود وجبن قديم ؛ وبعض المخللات من زيتون وبصل . ويخطط للأيام القادمة ؛ فعليه
أن يحسبها بدقة من جديد بالورقة والقلم .
لم يستطع أن يُخبر زوجته بالحقيقة ؛ فقد فكّر ودبّر وافتعل معها مشاجرة ؛ طردها على أثرها لتلحق
بأهلها بحى الشرابيّه ... ( تأكل هناك هى وطفلتها )... أهْوَن عليه من أن ينكشف أمامها عاجزاً عن الإنفاق ؛ وهى سليطة اللسان ؛ لاتستر عوره ( والمتغطى بها عريان ) ؛ ستؤنبه وتلومه وتقرعه ؛ وتنعى عليه شراهته فى التدخين ، وإنفاق ماله فى الهواء على ( اللى يسوى واللى مايسواش ) ؛ ويُفضّل جلسته عاطلاً بالمقاهى عن إعطاء الدروس الخصوصية ؛ كجاره الأستاذ توفيق مدرس اللغة الإنجليزية ؛ هى لاتعرف أنه مدرس تاريخ ؛ وليس لمُدرسى التاريخ نصيب فى الدروس الخصوصية... لم يستطع إقناعها أبداً ..... طبعاً ... كانت سُرعان ماتخبر أمها بإفلاسه ؛ وتشيع الفضيحة .
أخيراً طلع النهار ... أحلى نهار ؛ ليوم تاريخى حاسم فى حياة Sammora ؛ قام من رقدته نشيطاً
؛ حلق ذقنه ؛ وشرع فى ارتداء ملابسه ؛ إستعداداً للذهاب إلى المدرسة ليتسلم راتبه من الصرّاف ؛ وقد ملأته بهجة لم يعهدها من قبل ؛ وعاد لعينيه بريقهما ؛ وبدأ يستعيد ثقته المسلوبة ... اشتاق إلى راتبه كثيراً .. أخيراً عرف قيمة المال ... من الآن فصاعداً سيدبّر أموره جيداً ؛ سينظم إنفاقه من جديد ؛ كيلو واحد ونصف لاغير من اللحم شهرياً ؛ ( آدى تسعه وتلاتين جنيه من بند اللحمه ... ثلاثة كيلوَّات كتير علىَّ أنا وهَنِيَّهْ.. البنت الصغيرة لاتأكل شيئا ) ؛ ولن يشترى الصحيفة ؛ الأستاذ توفيق جاره يشترى كل الجرائد اليوميه ؛ ويمكنه استعارتها منه ... ( آدى ثلاثين جنيه كمان تم توفيرهم ) ؛ ولن يلعب الطاولة على المشروبات... أو... أو سيخصص لذلك مبلغا لا يتعدَّاه ؛ فالظروف قد تحكمه ؛ لقد خسر كثيرا من المال فى هذا الشهر ؛ تحلَّق المحترفون من المثقفين العاطلين المُفلسين - وما أكثرهم - حوله بالمقهى ؛ يتراهنون وعلى الخاسر أن يدفع عنهم حساب مايشربونه ؛ جعلوه يكسب عدة مرات حتى ذاق حلاوة المكسب ؛ كلما رمى زهر الطاولة ( النرد ) ؛ أو نقل قشاطاً ؛ تصاعدت آهات الإعجاب ( ياحرِّيييف ! ) ؛ كانت تسكره
دائما كلمة ( أنت دماغك كبير قوى يا أستاذ ) أقنعوه تماماً بأنه الأستاذ والحرّيف الكبير فى لعب
( العادَه والمَحْبُوسَه ) ؛ ثم بدأت الخسارة ... هل يتراجع الأستاذ الحَرِّيفْ ؟ أبداً ... أنّى له التراجع ؛ سيهتز عرشه ؛ وتضيع سمعته فى المقاهى ، وستلوك الألسنة سيرته على النواصى ؛ ويصبح مُضغة
فى أفواه صبية الحارة... ويرمى بالزهر ؛ وينقل القواشيط بطرقعة واثقة ( ياحَرِّييفْ ... ولا موقعة الطرف الأغرّ ) ؛ ثم تتوالى خسارته ؛ ومازال المحترفون المثقفون يستحثونه على النهوض من كبوته ؛ ويحتسون الشاى ، والحلبة ، والقهوة ، والينسون ؛ والكركديه المُثلّج ؛ ويدعون كل أصدقائهم ؛ ويكركرون بالنرجيلة ؛ ( وزغردى يللى موش غرمانه ) .
فكر قليلا وهو بصدد استعراض خطته الإصلاحية ؛ فرأى أنه يمكنه أن يعوّض خسارته بقليل من
التركيز ؛ أو لينقل نشاطه للعبة الدومينو فهو يجيدها ... وتتتابع خطته فى ثورة التصحيح ... سيمتنع
عن أكل البِطيخ تماماً ؛ هو فى رأيه سبب الأزمة الحقيقى ؛ وهَنِيَّهْ زوجته لاترحم تأكل لها بِطيخة
وحدها فى اليوم ؛ وتشرب لتراً كاملاً من اللبن ، وتتحجّج بآثارالرضاعة وهشاشة العِظامْ ؛ آن أوان
الفطامْ ... كم حمل من بِطيخٍ وشمَّامْ ! ؛ تنحته هَنِيَّهْ بأسنانها بانتقامْ ؛ نحت الجبابرة اللئامْ ... الجو
حار والبطيخ لذيذ ... وَلَوْ .. قرار تصحيحى بإلغاء بند اللبن والبطيخ .... سيقلل من مُعدلات تدخينه... التدخين... آاااه ؛ لن يُعطِى أحداً سيجارة ولو مات أمامه ؛ وتذكر بهلول... بهلووول ! ؛ كم كان مغفلاً
كبيراً ؛ وأقسم فى نفسه إن اقترب منه ليصفعنّه على قفاه ؛ وليضربنه بالشَلُّوت ؛ يبدو أنه كان سبب نحسه وخسارته ؛ وهو من كان يظن بأنه البركة ... لن يمنح شحاذاً مِليماً واحداً بعد اليوم... سيجوع..
فقد جاع ؛ ووعى الدرس تماماً... سيجوع ؛ و تبقى جُنيهاته بجيبه تدفئه .
وقف أمام المرآه بغرفة النوم يمشط شعر رأسه الكبير ؛ فوقع بصره على صورة زفافه .... اشتاق إلى زوجته ؛ وأوحشته إبنته .... سيأتى بهما فور أن يتسلم راتبه ؛ نعم ؛ سيذهب إلى الشرابيَّه اليوم
مشياً على الأقدام ؛ فحى الشرابيّه لايبعد كثيراً عن مسكنه ؛ ( وكله توفير ) ؛ سيأتى بهما ؛
ويتحمل قليلا ثقل كلام أمها .
ورن جرس الباب ... وخطر بباله أن يكون من بالباب هَنِيَّهْ ؛ فاندفع سريعاً يفتح الباب ؛ ليُطالع وجهاً بشوشاً ؛ لم يره من قبل .
- الأستاذ Sammora .
- نعم... أنا هو... إتفضّل .
- أنت زوج هنيه عبد السلام عَطِيَّهْ
- أيوه
- وقع بالإستلام ؛
أنا مُحضر محكمة الشرابيَّهْ
زوجتك هَنِيَّهْ عبد السلام عَطِيَّهْ
رافعه عليك قضِيَّهْ
بالنفقة وتبديد منقولات الزوجيَّهْ .
سمير عصر
Sammora الحَرِّيفْ وثورة التصحيح
لم ينمْ الأستاذ Sammora طُوال الليل ؛ فقد كان راقداً بأعينٍ مسهدة مفتوحة ينتظر صباح اليوم
التالى على أحرّ من الجمر ؛ فقد عقد العزم على أن يبدأ إعتباراً من هذا اليوم التاريخى بثورة
التصحيح الكبرى ليُعدِّل من مسار حياته .
لقد أفاق و تفتحت عيناه أخيراً على حقائق الحياة... إنها غابة موحشة ؛ وقد طحنته طحناً فى
الأيام الخالية ؛ وينبغى له أن يتسلح دائما لها .
ودارت فى ذهنه كلمات أبيه يجترّها ويتذكرها ؛ عندما كان يراه مُسرفاً ، متلافاً ، لايقيم وزناً للمال ؛ ولايعبأ به ؛ كان يقول له مُؤنباً : - أنفقت كل مامعك ؟... شاطِرْ ! ؛ فيهز كتفيه باستهتار وهو
يغمغم : - وايه يعنى ؟ لاشىء يُهم . ويبدو الألم على وجه أبيه وهو يردد مستنكرا : - وايه يعنى ؟! لاشىء يُهم ... اللى مايتعلّمْش من أمه وأبوه ياويله... هَتْعَلِّمُه الأيام والليالى . ثم يستدرك ناصحاً إيّاه بشفقة : - يا بنى .. ليكن المال فى جيبك دائما ... سلاحك ... كالبندقية جاهزة دائما لتضرب بها فى
الوقت المناسب ... لايكن جيبك عيبك ... ( إمْشِى مِفَرَّشْ ولاتمشى مِكَرَّشْ ) ؛ فيضحك Sammora
برعونه : - يعنى ايه ؟ . ويشرح له أبوه بصبر نافذ : - يعنى لما تمشى بطنك مليانة ومفلّس أحسن ؛ ولاّ لما تكون جَعَان وجيبك عَمْرااان ؟! . ويستمر Sammora فى الضحك : - الكلام دَه دَقّه قديمه . ويحوقل والده ويستغفر ؛ ولايبخل عليه ببعض الجُنيهات يعطيها له . كان ذلك قبل أن يتزوج هَنِيَّهْ .
هاهو الآن لا يجد مايأكله ؛ وهو من كان يتأفف دائما ؛ ويُبدى تبرمه عندما توضع أمامه وجبة غذاء بسيطة ؛ ويصم أذنيه حتى لايسمع كلام أبيه : - العدس موش عاجبك ؟ اتشطَّر انت بُكْرَه وغدِّينا لحمه ! ... يامستكتر الأيام أكتر .... الأيام أكتر م الفلوس .
ويتحلّب ريقه ؛ و تشتاق نفسه وتهفو إلى طبق من العدس الشهى بلونه الأصفر الكهرمانى .
إنها أزمة حقيقية ؛ أول أزمة يتعرّض لها فى حياته ؛ تبخرت جُنيهات المُرتّب ؛ وتطايرت كالعصافير
قبل أن ينتصف الشهر . دار على كل من يعرفه ؛ ولم يجد سوى ابتسامة باهتة ؛ وكلمات آسفه
متملصه ؛ وعندما جلس بحجرة ناظر مدرسة الأخلاق الحميدة التى يعمل بها ؛ لم يمد له أحدهم
يده بسيجاره ؛ وهو الكريم معهم دائما ؛ كان يترك علبته لمن يشاء يسحب منها مثنى وثلاث
.... ( آاااهِ من الأيام آاه ) ؛ وعندما فتح فاه يتكلم عن أزمته المالية ؛ أسكتته ضحكات
الناظر العجوز وهو يقول : - ياأستاذ Sammora ؛ الخَضّ فى الماء لايُنتج زبدا .
ثم أردف ساخرا : - ( فى أغسطس القرش يُغطس ) ؛ أحس بِذلّ السؤال والحاجة ؛ وأريق ماء وجهه .
كم آلمه أن يجلس إلى صديقه التاجر بالغُورِيَّه ، وقد سبقت إليه يده بالمعروف ؛ يحاوره ويداوره ؛
يتحدث حول أزمته من بعيد ومن قريب ؛ والآخر يراوغه و يزوغ زوغان الثعلب . وكانت مفارقة
غريبة من عبث الأقدار أن يدخل عليهما بهلول الشحّاذ ؛ وقتها أحس بالحرج الشديد ؛ وتمنَّى أن تنشق الأرض وتبلعه ؛ فهو يعرفه جيداً ؛ لم يَكُن يبخل عليه بالعطاء ، وكثيراً مامَدّ له يده بماتيسر؛ عندما
يمر على روّاد المقهى بفم معوج ؛ وخطوات كسيحه ؛ كان يتفاءل به كثيراً ؛ ويعتبره ( راجل بركه..
... يجلب له الحظ السعيد ؛ فى رمى النرد العنيد ) ماذا يفعل الآن عندما يمد له يده ؟ .
وسرعان ماأصابه الدوار الشديد ؛ وخفق قلبه بشدة ؛ وبرزت عيناه من محجريهما وهو يرى بهلول
يمشى بقامة معتدله وبخطو ثابت ؛ يُخرج من عبه منديلا كبيراً مصروراً وضعه على المكتب الخشبى الصغيرأمام صديقه ؛ وفك عقدته ، لتنفرط قطع النقد الصغيرة الكثيرة ؛ يجمعها صديقه ويُحصيها
بحرص ؛ ثم ينفح ذلك الشحاذ مايقابلها ؛ ورقة نقدية حمراء من فئة الخمسين جُنيها وبعض الفكّه
؛ يأخذها الشحاذ المتباله وهويهز رأسه ويقول : مظبوط ... تمام . وفوجىء به وهو يمر به
يقول له ؛ قبل أن يعود لفمه إعوجاجه وتتكاسح مشيته : إزَّّيَك ياحَرِّيف ؟! . وينظر إليه صديقه
التاجر بعيون حجرية قائلا : - أحتاج دائما إلى الفكَّه ؛ وبهلول بيلِمْ لَمِتُه من الغلّة ودائما يأتينى بها .
ثم أردف بمسكنه : - الحالة واقفة ؛ والسوق نايم... فكّها من عندك يااارب .
كم أحس بضآلته وحقارته وبلاهته أمام بهلول الشحاذ .. نعم صدق من قال ( اللى معاه قرش يساوى قرش ) ؛ هاهو خالى الوفاض تماماً... لايساوى فلساً واحداً .
اكتوى بنار العوز ؛ ولم يقو على الإقتراب من المقهى ؛ كيف وهو لايملك ثمن كوبٍ من الشاى ؛ وهو الأستاذ الحرّيف ؛ كم هو ثمين وعزيز الآن كوب الشاى هذا الذى قلّما كان يُكمل شربه !.
ظل وحده رهين البيت خمسة أيام بلياليها ؛ يأكل بقايا الخبز الجاف بحرص واقتصاد شديدين ؛ ويتبلّغ ببعض العسل الأسود وجبن قديم ؛ وبعض المخللات من زيتون وبصل . ويخطط للأيام القادمة ؛ فعليه
أن يحسبها بدقة من جديد بالورقة والقلم .
لم يستطع أن يُخبر زوجته بالحقيقة ؛ فقد فكّر ودبّر وافتعل معها مشاجرة ؛ طردها على أثرها لتلحق
بأهلها بحى الشرابيّه ... ( تأكل هناك هى وطفلتها )... أهْوَن عليه من أن ينكشف أمامها عاجزاً عن الإنفاق ؛ وهى سليطة اللسان ؛ لاتستر عوره ( والمتغطى بها عريان ) ؛ ستؤنبه وتلومه وتقرعه ؛ وتنعى عليه شراهته فى التدخين ، وإنفاق ماله فى الهواء على ( اللى يسوى واللى مايسواش ) ؛ ويُفضّل جلسته عاطلاً بالمقاهى عن إعطاء الدروس الخصوصية ؛ كجاره الأستاذ توفيق مدرس اللغة الإنجليزية ؛ هى لاتعرف أنه مدرس تاريخ ؛ وليس لمُدرسى التاريخ نصيب فى الدروس الخصوصية... لم يستطع إقناعها أبداً ..... طبعاً ... كانت سُرعان ماتخبر أمها بإفلاسه ؛ وتشيع الفضيحة .
أخيراً طلع النهار ... أحلى نهار ؛ ليوم تاريخى حاسم فى حياة Sammora ؛ قام من رقدته نشيطاً
؛ حلق ذقنه ؛ وشرع فى ارتداء ملابسه ؛ إستعداداً للذهاب إلى المدرسة ليتسلم راتبه من الصرّاف ؛ وقد ملأته بهجة لم يعهدها من قبل ؛ وعاد لعينيه بريقهما ؛ وبدأ يستعيد ثقته المسلوبة ... اشتاق إلى راتبه كثيراً .. أخيراً عرف قيمة المال ... من الآن فصاعداً سيدبّر أموره جيداً ؛ سينظم إنفاقه من جديد ؛ كيلو واحد ونصف لاغير من اللحم شهرياً ؛ ( آدى تسعه وتلاتين جنيه من بند اللحمه ... ثلاثة كيلوَّات كتير علىَّ أنا وهَنِيَّهْ.. البنت الصغيرة لاتأكل شيئا ) ؛ ولن يشترى الصحيفة ؛ الأستاذ توفيق جاره يشترى كل الجرائد اليوميه ؛ ويمكنه استعارتها منه ... ( آدى ثلاثين جنيه كمان تم توفيرهم ) ؛ ولن يلعب الطاولة على المشروبات... أو... أو سيخصص لذلك مبلغا لا يتعدَّاه ؛ فالظروف قد تحكمه ؛ لقد خسر كثيرا من المال فى هذا الشهر ؛ تحلَّق المحترفون من المثقفين العاطلين المُفلسين - وما أكثرهم - حوله بالمقهى ؛ يتراهنون وعلى الخاسر أن يدفع عنهم حساب مايشربونه ؛ جعلوه يكسب عدة مرات حتى ذاق حلاوة المكسب ؛ كلما رمى زهر الطاولة ( النرد ) ؛ أو نقل قشاطاً ؛ تصاعدت آهات الإعجاب ( ياحرِّيييف ! ) ؛ كانت تسكره
دائما كلمة ( أنت دماغك كبير قوى يا أستاذ ) أقنعوه تماماً بأنه الأستاذ والحرّيف الكبير فى لعب
( العادَه والمَحْبُوسَه ) ؛ ثم بدأت الخسارة ... هل يتراجع الأستاذ الحَرِّيفْ ؟ أبداً ... أنّى له التراجع ؛ سيهتز عرشه ؛ وتضيع سمعته فى المقاهى ، وستلوك الألسنة سيرته على النواصى ؛ ويصبح مُضغة
فى أفواه صبية الحارة... ويرمى بالزهر ؛ وينقل القواشيط بطرقعة واثقة ( ياحَرِّييفْ ... ولا موقعة الطرف الأغرّ ) ؛ ثم تتوالى خسارته ؛ ومازال المحترفون المثقفون يستحثونه على النهوض من كبوته ؛ ويحتسون الشاى ، والحلبة ، والقهوة ، والينسون ؛ والكركديه المُثلّج ؛ ويدعون كل أصدقائهم ؛ ويكركرون بالنرجيلة ؛ ( وزغردى يللى موش غرمانه ) .
فكر قليلا وهو بصدد استعراض خطته الإصلاحية ؛ فرأى أنه يمكنه أن يعوّض خسارته بقليل من
التركيز ؛ أو لينقل نشاطه للعبة الدومينو فهو يجيدها ... وتتتابع خطته فى ثورة التصحيح ... سيمتنع
عن أكل البِطيخ تماماً ؛ هو فى رأيه سبب الأزمة الحقيقى ؛ وهَنِيَّهْ زوجته لاترحم تأكل لها بِطيخة
وحدها فى اليوم ؛ وتشرب لتراً كاملاً من اللبن ، وتتحجّج بآثارالرضاعة وهشاشة العِظامْ ؛ آن أوان
الفطامْ ... كم حمل من بِطيخٍ وشمَّامْ ! ؛ تنحته هَنِيَّهْ بأسنانها بانتقامْ ؛ نحت الجبابرة اللئامْ ... الجو
حار والبطيخ لذيذ ... وَلَوْ .. قرار تصحيحى بإلغاء بند اللبن والبطيخ .... سيقلل من مُعدلات تدخينه... التدخين... آاااه ؛ لن يُعطِى أحداً سيجارة ولو مات أمامه ؛ وتذكر بهلول... بهلووول ! ؛ كم كان مغفلاً
كبيراً ؛ وأقسم فى نفسه إن اقترب منه ليصفعنّه على قفاه ؛ وليضربنه بالشَلُّوت ؛ يبدو أنه كان سبب نحسه وخسارته ؛ وهو من كان يظن بأنه البركة ... لن يمنح شحاذاً مِليماً واحداً بعد اليوم... سيجوع..
فقد جاع ؛ ووعى الدرس تماماً... سيجوع ؛ و تبقى جُنيهاته بجيبه تدفئه .
وقف أمام المرآه بغرفة النوم يمشط شعر رأسه الكبير ؛ فوقع بصره على صورة زفافه .... اشتاق إلى زوجته ؛ وأوحشته إبنته .... سيأتى بهما فور أن يتسلم راتبه ؛ نعم ؛ سيذهب إلى الشرابيَّه اليوم
مشياً على الأقدام ؛ فحى الشرابيّه لايبعد كثيراً عن مسكنه ؛ ( وكله توفير ) ؛ سيأتى بهما ؛
ويتحمل قليلا ثقل كلام أمها .
ورن جرس الباب ... وخطر بباله أن يكون من بالباب هَنِيَّهْ ؛ فاندفع سريعاً يفتح الباب ؛ ليُطالع وجهاً بشوشاً ؛ لم يره من قبل .
- الأستاذ Sammora .
- نعم... أنا هو... إتفضّل .
- أنت زوج هنيه عبد السلام عَطِيَّهْ
- أيوه
- وقع بالإستلام ؛
أنا مُحضر محكمة الشرابيَّهْ
زوجتك هَنِيَّهْ عبد السلام عَطِيَّهْ
رافعه عليك قضِيَّهْ
بالنفقة وتبديد منقولات الزوجيَّهْ .
سمير عصر