mohamadamin
حكيم المنتدى
محمد بن جرير الطبري[1](310 هـ)
موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية / د: محمد بن عبد الرحمن المغراويهو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الإمام العلم المجتهد أبو جعفر الطبري، عالم العصر، كان ثقة صادقاً حافظاً، إماماً في التفسير والفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة. له مصنفات بديعة، قل أن ترى العيون مثله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ورحل من آمل طبرستان لما ترعرع وحفظ القرآن. واستقر في أواخر أمره ببغداد. سمع إسماعيل بن موسى السدي، ومحمد بن حميد الرازي، وأحمد بن منيع وغيرهم. حدث عنه أبو القاسم الطبراني وأبو بكر الشافعي وأبو أحمد بن عدي وأحمد بن كامل القاضي وغيرهم. قال الذهبي: وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهل وحاسد وملحد، فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه، وزهده في الدنيا، ورفضه لها، وقناعته -رحمه الله- بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة.
توفي رحمه الله عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشرة.
قلت: هذا الإمام من الذين بارك الله لهم في عمرهم، فكتبوا من الكتب ما يعجز عن قراءته القارئ المجتهد، فضلاً عن كتابة مثل ما كتب هؤلاء، وقد ترك هذا الإمام تراثاً سلفياً شكره عليه الأولون والآخرون ومن أهم ذلك التراث:
- تفسيره الكبير المسمى 'جامع البيان عن تأويل آي القرآن' وقد أبدى فيه المؤلف عقيدة سلفية بنفس طويل بينت ذلك في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'[2] وقد نفع الله به ولله الحمد والمنة.
- 'صريح السنة' وقد رواه أبو القاسم اللالكائي في 'أصول الاعتقاد' وقد نشر مع مجموعة الشيخ ابن حميد، وهو عبارة عن عقيدة الشيخ، وقد حقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية في مرحلة الإجازة وقد طبع التحقيق.
- 'تبصير أولي النهى ومعالم الهدى': توجد منه نسخة في دار الكتب المصرية في 39 ورقة، وهو في جامعة سعود رقم 330. وقد طبع الكتاب تحت عنوان: 'التبصير في معالم الدين'.
- وقد ألفت عن الإمام ابن جرير رسالة علمية في جامعة أم القرى في مرحلة الدكتوراه في قسم العقيدة.
*موقفه من المبتدعة:
له رحـمه الله مواقف جليلة في نصر السنة وقمع البدعة، منها ما جاء في السير: وقيل: إن المكتفي أراد أن يحبس وقفاً تـجتمع عليه أقاويل العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتاباً لذلك، فأخرجت له جائزة، فامتنع من قبولها، فقيل له: لابد من قضاء حاجة. قال: أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة، ففعل ذلك.[3]
* التعليق:
لم يكن همه رحمه الله في نيل الجاه والمال من السلطان وإنما همه نصر السنة وإزالة البدعة.
*موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: عن محمد بن علي بن سهل قال: سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم، وجرى ذكر علي رضي الله عنه، ثم قال محمد بن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى، إيش هو؟ قال: مبتدع. فقال ابن جرير إنكاراً عليه: مبتدع مبتدع. هذا يقتل.[4]
- قال الطبري: لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأي عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم ديناً، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك، فجعلها في ستة متقاربين في الفضل، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول، ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضا الأمة بمن رضي به الستة.[5]
*موقفه من الجهمية:
- قال في صريح السنة: حدثنا أحمد بن كامل قال: سمعت أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ما لا أحصي يقول: من قال القرآن مخلوق معتقداً له فهو كافر حلال الدم والمال ولا يرثه ورثته من المسلمين، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه فقلت له: عمن لا يرثه ورثته من المسلمين؟ قال: عن يحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي. قيل للقاضي ابن كامل: فلمن يكون ماله؟ قال: فيئاً للمسلمين.[6]
- قال ابن جرير في كتاب 'التبصير في معالم الدين': القول فيما أدرك علمه من الصفات خبراً، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[7] وأن له وجهاً بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [8] وأنه يضحك بقوله في الحديث: «لقي الله وهو يضحك إليه»[9] و«أنه ينزل إلى سماء الدنيا»[10] لخبر رسوله بذلك، وقال عليه السلام: «ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن»[11] إلى أن قال: فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله نفسه ورسوله ما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهائها إليه.[12]
*موقفه من الخوارج:
قال في كتابه 'التبصير في معالم الدين': وأما الذين نقموا على أهل المعاصي معاصيهم، وشهدوا على المسلمين -بمعصية أتوها، وخطيئة فيما بينهم وبين ربهم تعالى ذكره ركبوها- بالكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم من الخوارج.
والذين تبرؤوا من بعض أنبياء الله ورسله، بزعمهم أنهم عصوا الله، فاستحقوا بذلك من الله -جل ثناؤه- العداوة.
والذين جحدوا من الفرائض ما جاءت به الحجة من أهل النقل بنقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً مستفيضاً قاطعاً للعذر، كالذي أنكروا من وجوب صلاة الظهر والعصر، والذين جحدوا رجم الزاني المحصن الحر من أهل الإسلام، وأوجبوا على الحائض الصلاة في أيام حيضها، ونحو ذلك من الفرائض، فإنهم عندي بما دانوا به من ذلك مرقة من الإسلام، خرجوا على إمام المسلمين أو لم يخرجوا عليه. إذا دانوا بذلك بعد نقل الحجة لهم الجماعة التي لا يجوز في خبرها الخطأ، ولا السهو والكذب.
وعلى إمام المسلمين استتابتهم مما أظهروا أنهم يدينون به بعد أن يظهروا الديانة به والدعاء إليه، فمن تاب منهم خلى سبيله، ومن لم يتب من ذلك منهم قتله على الردة، لأن من دان بذلك فهو لدين الله -الذي أمر به عباده بما لا نعذر بالجهل به ناشئاً نشأ في أرض الإسلام- جاحد.
ومن جحد من فرائض الله -عز وجل- شيئاً بعد قيام الحجة عليه به فهو من ملة الإسلام خارج.[13]
وقال أيضاً: والذي نقول: معنى ذلك أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا نقول هم مؤمنون بالإطلاق، لعلل سنذكرها بعد.
ونقول: هم مسلمون بالإطلاق، لأن الإسلام اسم للخضوع والإذعان، فكل مذعن لحكم الإسلام ممن وحد الله وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جاء به من عنده، فهو مسلم.
ونقول: هم مسلمون فسقة عصاة لله ولرسوله. ولا ننزلهم جنة ولا ناراً، ولكنا نقول كما قال الله تعالى ذكره: ¨{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[14].
فنقول: هم في مشيئة الله تعالى ذكره، إن شاء أن يعذبهم عذبهم وأدخلهم النار بذنوبهم، وإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته فأدخلهم الجنة، غير أنه إن أدخلهم النار فعاقبهم بها لم يخلدهم فيها، ولكنه يعاقبهم فيها بقدر إجرامهم، ثم يخرجهم بعد عقوبته إياهم بقدر ما استحقوا فيدخلهم الجنة، لأن الله جل ثناؤه وعد على الطاعة الثواب، وأوعد على المعصية العقاب، ووعد أن يمحو بالحسنة السيئة ما لم تكن السيئة شركاً.
فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يبطل بعقاب عبد على معصيته إياه ثوابه على طاعته، لأن ذلك محو بالسيئة الحسنة لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوف من العدل والفضل والعفو عن الجرم.
والعدل: العقاب على الجرم، والثواب على الطاعة.
فأما المؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدل ولا فضل، وليس من صفته أن يكون خارجاً من إحدى هاتين الصفتين.
وبعد: فإن الأخبار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متظاهرة بنقل من يمتنع في نقله الخطأ والسهو والكذب، ويوجب نقله العلم، أنه ذكر أن الله جل ثناؤه يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا وصاروا حمماً، بذنوب كانوا أصابوها في الدنيا ثم يدخلهم الجنة[15]. وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»[16]. وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربه -عز وجل ذكره- فيقال: أخرج منها منهم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان[17]. في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبر - صلى الله عليه وسلم - .[18]
*موقفه من المرجئة:
- جاء في كتابه التبصير في معالم الدين قال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الإيمان اسم للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله -تعالى ذكره- خبراً عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين}[19]. بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا.
غير أن المعنى الذي يستحق به اسم مؤمن بالإطلاق، هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله -تعالى ذكره- من معرفة وإقرار وعمل.
وذلك أن العارف المعتقد صحة ما عرف من توحيد الله -تعالى ذكره- وأسمائه وصفاته، مصدق لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته، فكذلك العارف بنبوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، المعتقد صحة ذلك، وصحة ما جاء به من فرائض الله.
وذلك أن معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده، تصديق من العامل بعمله ذلك لله -جل ثناؤه-، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
كما إقراره بوجوب فرض ذلك عليه، تصديق منه لله ورسوله بإقراره أن ذلك له لازم فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحد منهما على انفراده اسم إيمان.
وكان العبد مأموراً بالقيام بجميعها كما هو مأمور ببعضها، وإن كانت العقوبة على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخف، كان بينا أنه غير جائز تسمية أحد مؤمنا ووصفه به مطلقا من غير وصل إلا لمن استكمل معاني التصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله.
كما أن العلم الذي يأتي مطلقاً هو العلم بما ينوب أمر الدين.
فلو أن قائلاً قال لرجل عرف منه نوعاً، وذلك كرجل كان عالماً بأحكام المواريث دون سائر علوم الدين، فذكره ذاكر عند من يعتقد أن اسم عالم لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا من قلنا: إنه يلزمه، فقال: فلان عالم بالإطلاق ولم يصله، فيقال: فلان عالم بالفرائض أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة وأساء في المقالة، لأنه وضع اسم العموم على خاص عند من لا يعلم مراده، وإن كان قائل ذلك أراد الخصوص.
وإن كان أراد العموم وهو يعلم أن هذا الاسم لا يستحق إلا من كان جامعا علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب.
وكذلك القائل لمن لم يكن جامعاً أداء جميع فرائض الله -عز ذكره- من معرفة وإقرار وعمل: هو مؤمن، إما كاذب، وإما مخطئ في العبارة، مسيء في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمن بما هو به مؤمن، لأن وصفنا من وصفنا بهذه الصفة، وتسميتنا له هذه التسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها.
فمن لم يكن جامعاً ذلك فإنما له ذلك الاسم بالخصوص، فغير جائز وصف من كان له من صفات الإيمان خاص، ومن أسمائه بعض بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصف إذا وصف بذلك أن يقول له -إذا عرف وأقر وفرط في العمل- هو مؤمن بالله ورسوله، فإذا أقر بعد المعرفة بلسانه وصدق وعمل ولم تظهر منه موبقة ولم تعرف منه إلا المحافظة على أداء الفرائض. قيل: هو مؤمن إن شاء الله.
وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا إن شاء الله، لأنا لا ندري هل هو مؤمن ضيع شيئاً من فرائض الله عز ذكره أم لا، بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مضيع شيئاً منها ولا مفرط، فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال، فمن لم يكن مكملاً جميع معانيه -والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحد- لم يكن مستحقاً اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال، لأن الناقص غير جائز تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل.[20]
- وقال أيضاً: والحق في ذلك عندنا أن يقال: الإيمان يزيد وينتقص، لما وصفنا قبل من أنه معرفة وقول وعمل. وأن جميع فرائض الله تعالى ذكره التي فرضها على عباده من المعاني التي لا يكون العبد مستحقاً اسم مؤمن بالإطلاق إلا بأدائها.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا شك أن الناس متفاضلون في الأعمال، مقصر وآخر مقتصد مجتهد ومن هو أشد منه اجتهاداً، كان معلوماً أن المقصر أنقص إيماناً من المقتصد، وأن المقتصد أزيد منه إيماناً، وأن المجتهد أزيد إيماناً من المقتصد والمقصر، وأنهما أنقص منه إيماناً، إذ كان جميع فرائض الله كما قلنا قبل.
فكل عامل فمقصر عن الكمال، فلا أحد إلا وهو ناقص الإيمان غير كامله، لأنه لو كمل لأحد منهم كمالا تجوز له الشهادة به، لجازت الشهادة له بالجنة، لأن من أدى جميع فرائض الله فلم يبق عليه منها شيء، واجتنب جميع معاصيه فلم يأت منها شيئاً ثم مات على ذلك، فلا شك أنه من أهل الجنة. ولذلك قال عبدالله بن مسعود في الذي قيل له: إنه قال: إني مؤمن ألا قال: إني من أهل الجنة.
لأن اسم الإيمان بالإطلاق إنما هو للكمال. ومن كان كاملاً كان من أهل الجنة، غير أن إيمان بعضهم أزيد من إيمان بعض، وإيمان بعض أنقص من إيمان بعض، فالزيادة فيه بزيادة العبد بالقيام باللازم له من ذلك.[21]
*موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: فإن قال قائل: فهل من معاني المعرفة شيء سوى ما ذكرت؟ قيل: لا.
فإن قال: فهل يكون عارفاً به من زعم أنه يفعل العبد ما لا يريده ربه ولا يشاء؟ قيل: لا. وقد دللنا فيما وصفناه بالعزة التي لا تشبهها عزة على ذلك. وذلك أنه من لم يعلم أنه لا يكون في سلطان الله -عز ذكره- شيء إلا بمشيئته، ولا يوجد موجود إلا بإرادته، لم يعلمه عزيزاً. وذلك أن من أراد شيئاً فلم يكن وكان ما لم يرد، فإنما هو مقهور ذليل، ومن كان مقهوراً ذليلاً فغير جائز أن يكون موصوفاً بالربوبية.
فإن قال: فإن من يقول هذا القول يزعم أن إرادة الله ومشيئته: أمره ونهيه، وليس في خلاف العبد الأمر والنهي قهر له؟
قيل له: لو كان الأمر كما زعمت، لكان الله تعالى ذكره لم يعم عباده بأمره ونهيه، لأنه يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[22].
فإن تك المشيئة منه أمراً، فقد يجب أن يكون من لم يهتد لدين الإسلام لم يدخله الله عز وجل في أمره ونهيه الذي عم به خلقه، وفي عمومه بأمره ونهيه جميعهم، مع ترك أكثرهم قبوله الدليل الواضح على أن قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[23] إنما معناه: لو شاء الله لجمعهم على دين الإسلام، وإذ كان ذلك كذلك كان بيناً فساد قول من قال: مشيئة الله -تعالى ذكره- أمره ونهيه!.[24]
- وقال رحمه الله: وقال آخرون -وهم جمهور أهل الإثبات وعامة العلماء والمتفقهة من المتقدمين والمتأخرين-: إن الله تعالى ذكره وفق أهل الإيمان للإيمان، وأهل الطاعة للطاعة، وخذل أهل الكفر والمعاصي، فكفروا بربهم، وعصوا أمره.
قالوا: فالطاعة والمعصية من العباد بسبب من الله -تعالى ذكره- وهو توفيقه للمؤمنين، وباختيار من العبد له.
قالوا: ولو كان القول كما قالت القدرية، الذين زعموا أن الله -تعالى ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يفعلون ما شاؤوا، ولبطلت حاجة الخلق إلى الله -تعالى ذكره- في أمر دينه، وارتفعت الرغبة إليه في معونته إياهم على طاعته.
قالوا: وفي رغبة المؤمنين في كل وقت أن يعينهم على طاعته ويوفقهم ويسددهم، ما يدل على فساد ما قالوا.[25]
ــــــــــ
[1] تاريخ بغداد (2/162-169) ووفيات الأعيان (14/191-192) وتذكرة الحفاظ (2/710-716) وميزان الاعتدال (3/498-499) والوافي بالوفيات (2/284-286) واللسان (5/100-103) والسير (14/267-282).
[2] (2/519-569).
[3] السير (14/270).
[4] السير (14/275).
[5] الفتح (13/198).
[6] أصول الاعتقاد (2/353-354/514) وانظر صريح السنة (18-20).
[7] المائدة الآية (64).
[8] الرحمن الآية (27).
[9] انظر تخريجه في مواقف الشافعي سنة (204هـ).
[10] انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
[11] انظر تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ).
[12] السير (14/279) وانظر التبصير في معالم الدين (132-139).
[13] التبصير في معالم الدين (160-162).
[14] النساء الآية (48).
[15] أحمد (3/56) والبخاري (1/98-99/22) ومسلم (1/172/184) من حديث يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[16] تقدم في مواقف جابر بن عبدالله سنة (78هـ).
[17] أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/116) والبخاري (13/519-520/7440) ومسلم (1/180-181/193) وابن ماجه (2/1442-1443/4312).
[18] التبصير في معالم الدين (183-186).
[19] يوسف الآية (17).
[20] التبصرة (ص.190-193).
[21] التبصرة (ص.197-199).
[22]الأنعام الآية (35).
[23]الأنعام الآية (35).
[24]التبصير في معالم الدين (ص.130-131).
[25]التبصير في معالم الدين (ص.170-171).