mohamadamin
حكيم المنتدى
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
سنعرف حقيقة شريفة هامة عن تنزيل القرآن، وهي حقيقة تؤكد للإنسان المتردد المرتاب؛ أن هذا القرآن هو الحق المنزل من الرحمن الوهاب.
ومن تأمل الآيات المتعلقة بالموضوع؛ يجد أن القضية تبدأ بالقسم بالنجوم، ولكن بأساليب متعددة؛ ففي سورة الواقعة مثلاً نقرأ قوله تعالى:
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)).
فالله يقسم وهو الصادق، يقسم بمواقع النجوم، ثم يؤكد أن هذا قسم عظيم، لو كان الإنسان يعلم ما هي المواقع وما هو الموضوع، ولكن الإنسان غافل عن هذا الأمر العظيم، والله العلي العظيم يقسم بذلك على ماذا؟ على شيء هام عظيم، وهو قوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).
فالكرم صفة القرآن، وهو مكرم لمن سمعه وطاع، ثم إن هذا القرآن محفوظ في كتاب مكنون، أي في نظام مستور محفوظ عند ربه العلي العظيم، وهو لا يتنزل إلا بأيدٍ كريمة مطهرة، هم الملائكة المطهرون، وهذا هو معنى (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)، أي أن تنزيله بالملائكة لا سواهم، فهو منزه عن كل رجس شيطاني أو افتراء إنساني؛ بل هو كرم رباني، (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فأكرم به وأعظم من تنزيل، إنه رب العالمين؛ الذي يعلم كل شيء ويدبره، ويخلق كل شيء ويقدره، ويرزق كل شيء ويسيره، ولما خلقه ييسره، فكيف لا ينزل على الإنسان هذا القرآن ليهديه إلى الحق والإحسان؛ لكن الإنسان رغم ذلك لا يحمد الله على هذا الفضل ولا يشكر، بل يتردد ويدهن؛ ولهذا جاء التساؤل الرباني المخيف، فقال الله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)) [سورة الواقعة].
إنه سؤال مخيف، وعلى الإنسان أن يستحيي ولا يحيف، فيستجيب لربه ويتجه إلى القرآن بقلبٍ سليمٍ شغوف؛ لينال عند ربه المقام الكريم الشريف، فإن جعل رزقه من القرآن هو التكذيب، فهو المصير الرهيب، وهكذا كان القسم في سورة الواقعة بمواقع النجوم؛ فإذا انتقلنا إلى سورة النجم نجد قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1))؛ إن القسم يتكرر ولكن بالنجم، والمراد بالنجم هنا هو جنس النجوم؛ فالألف واللام للجنس؛ فالله يقسم بالنجوم كلها، وهي آية عظمى من آيات ربها، على ماذا يقسم الله؟! إنه يقسم على قوله بعد ذلك: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)). إن المشركين المكذبين لما سمعوا محمداً الرسول يتلو القرآن، ويدعو إلى ربه الرحمن؛ قالوا هذا رجل قد ضل عن دين الآباء، وغوى عن السبيل المعهود للملأ؛ لكن الله يقسم بالنجوم كلها على أن صاحبهم المعروف لهم هو أكثر عقلاً وأرجح وأحسن عملاً وأصلح.
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، وكيف يضل ويغوى وهو لا ينطق إلا بالقرآن وإلا بالهدى.
(وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)) ليس القرآن الذي ينطق به منطلقاً من هواه، وليس قولاً افتراه؛ بل وحيٌ تلقاه.
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)) نعم إنه وحي يوحى إليه من ربه الذي اختاره واصطفى. أما كيف جاءه هذا الوحي وكيف تلقاه؛ فإن البيان يأتي مباشرة:
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)). إنه جبريل، إنه الروح الأمين نزل به على قلبه، وأوحى به من ربه.
(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12))؟!. أي أن فؤاده على علمٍ ويقين أن هذا القرآن وحي من رب العالمين، فكيف تمارونه على علم يعلمه ويراه، ويقينٍ أتاه؟!.
وبعد: فإذا تابعنا السور والآيات؛ لوجدنا القسم بالظواهر السماوية، يتكرر من الله على نفس القضية، وهي القرآن؛ ففي سورة التكوير يقول الله:
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِي الْكُنَّسِ(16)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)).
لقد أضاف إلى النجوم آيتي الليل والصبح، وعلى أيٍ فالخنُس هي النجوم العظمى التي تخنُس من مواقعها ثم تكنُس أي تختفي في مواضعها.
ثم على ماذا هذا القسم الكوني؟
إنه على قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)).
أي أن القرآن قول ملقى على محمد من رسول كريم هو جبريل الموصوف بتلك الصفات الدالة على التمكن والقوة والقرب والأمانة.
إذن فإن المتلقي لا بد أن يكون على علمٍ ودراية بما يتلقى من ربه؛ ولهذا قال: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ(23)وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)).
بعد هذا البيان عن القرآن يقول: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26))؟.
إنه سؤال من الله مخيف للناس أجمعين، أين هم ذاهبون والعلم والهدى بين أيديهم يقودهم إلى الحق المبين (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27))؛ أي ليس هذا القرآن إلا علم فيه الهدى والحكمة والنور والرحمة للإنس والجن أجمعين.
غير أنه لا ينال هذا العطاء إلا من أحب الاستقامة على الهدى؛ ولهذا قال: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)). فمن شاء الاستقامة هداه ربه العليم، أما من لم يشأ فقد ذهب في سبيل الضلال البهيم، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)).
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..(9)) [سورة الإسراء]،
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)) [سورة البقرة].
(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)) [سورة هود].
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)) [سورة الزخرف].
بهذه الآيات، وبهذه الصفات وصف الله القرآن في مختلف السور، وبمختلف أساليب البيان، وإن شئتم المزيد فاستمعوا:
(..وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)) [سورة فصلت].
(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68)) [سورة ص].
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(29)) [سورة ص].
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)) [سورة ص].
ثم إن الله يؤكد أن هذا الذكر منزل من عنده، بل ويؤكد ذلك أقوى توكيد ويقول:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)) [سورة الحجر].
وعليه: فإن هذا الذكر لم يكن إنزاله ليهمل وينسى؛ بل ليعمل به ويتلى، ولم يكن كلاماً عادياً، بل علم رباني من تذكر به يحيا. (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)) [سورة يس].
وهو مع ذلك علم يعرفه الأولون:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ(196)) [سورة الشعراء].
وهكذا يتأكد لكل الناس أن هذا القرآن قد أنزل محفوظاً ومصاناً من الوسواس الخناس، وأن محمداً قد بلغه كما أنزله إليه ربه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تردد ولا إدهان، بل إتقانٍ وإحسان، وإيمان بربه الرحمن: (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا(4)الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)) [سورة طه].
والله قد جعله فضلاً للنبي الكريم الأمين، ونعمة ورحمة للعالمين: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87)لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)) [سورة الحجر].
ولقد شكر الرسول هذا العطاء من ربه وحمل ما آتاه بصبر وثبات، مطيعاً قول ربه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)) [سورة الحجر].
ولقد صدع الرسول بما أمره الله ولم يتراجع ولم يدهن، وكيف لا والله قد ثبته وصد محاولات الفتانين والمكذبين : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)) [سورة الإسراء].
وهكذا يتأكد لكل الناس أن الرسول مثبت من ربه ليبلغ ما أنزل إليه، ومعصوم من الافتتان بمكر الناس: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)) [سورة المائدة].
ومع التكليف والتحذير فإن الله يأتيه بالتأمين والتبشير، والوعد الجميل: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)) [سورة القلم]، إنه قسم بالقلم، على ماذا يقسم الله؟، على قوله لرسوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)) [سورة القلم].
وما هو الخلق العظيم؟.
إنه القرآن الكريم، وعليه فإنه يقول له: (فَلَا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)) [سورة القلم].
هكذا جاء في سورة القلم. أما في سورة الحاقة فإن الله يقسم بكل شيء ويقول: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(39)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ(41)وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)) [سورة الحاقة].
إن الله رب العالمين هو المنزل، وهو الحارس المراقب لما أنزل، ومراقب للرسول، ولهذا قال الله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)) [سورة الحاقة].
إنه التهديد بالقتل والتنكيل، وإن ذلك هو الذي يعلمه الرسول من ربه العليم القدير، وكيف لا والقرآن كما يصفه ربه: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48)) [سورة الحاقة]، ثم يقول: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(52)) [سورة الحاقة].
فسبحان الذي أنزل القرآن، وحرسه من كل بهتان، إنه الله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)) [سورة الجن].
سنعرف حقيقة شريفة هامة عن تنزيل القرآن، وهي حقيقة تؤكد للإنسان المتردد المرتاب؛ أن هذا القرآن هو الحق المنزل من الرحمن الوهاب.
ومن تأمل الآيات المتعلقة بالموضوع؛ يجد أن القضية تبدأ بالقسم بالنجوم، ولكن بأساليب متعددة؛ ففي سورة الواقعة مثلاً نقرأ قوله تعالى:
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)).
فالله يقسم وهو الصادق، يقسم بمواقع النجوم، ثم يؤكد أن هذا قسم عظيم، لو كان الإنسان يعلم ما هي المواقع وما هو الموضوع، ولكن الإنسان غافل عن هذا الأمر العظيم، والله العلي العظيم يقسم بذلك على ماذا؟ على شيء هام عظيم، وهو قوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).
فالكرم صفة القرآن، وهو مكرم لمن سمعه وطاع، ثم إن هذا القرآن محفوظ في كتاب مكنون، أي في نظام مستور محفوظ عند ربه العلي العظيم، وهو لا يتنزل إلا بأيدٍ كريمة مطهرة، هم الملائكة المطهرون، وهذا هو معنى (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)، أي أن تنزيله بالملائكة لا سواهم، فهو منزه عن كل رجس شيطاني أو افتراء إنساني؛ بل هو كرم رباني، (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فأكرم به وأعظم من تنزيل، إنه رب العالمين؛ الذي يعلم كل شيء ويدبره، ويخلق كل شيء ويقدره، ويرزق كل شيء ويسيره، ولما خلقه ييسره، فكيف لا ينزل على الإنسان هذا القرآن ليهديه إلى الحق والإحسان؛ لكن الإنسان رغم ذلك لا يحمد الله على هذا الفضل ولا يشكر، بل يتردد ويدهن؛ ولهذا جاء التساؤل الرباني المخيف، فقال الله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)) [سورة الواقعة].
إنه سؤال مخيف، وعلى الإنسان أن يستحيي ولا يحيف، فيستجيب لربه ويتجه إلى القرآن بقلبٍ سليمٍ شغوف؛ لينال عند ربه المقام الكريم الشريف، فإن جعل رزقه من القرآن هو التكذيب، فهو المصير الرهيب، وهكذا كان القسم في سورة الواقعة بمواقع النجوم؛ فإذا انتقلنا إلى سورة النجم نجد قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1))؛ إن القسم يتكرر ولكن بالنجم، والمراد بالنجم هنا هو جنس النجوم؛ فالألف واللام للجنس؛ فالله يقسم بالنجوم كلها، وهي آية عظمى من آيات ربها، على ماذا يقسم الله؟! إنه يقسم على قوله بعد ذلك: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)). إن المشركين المكذبين لما سمعوا محمداً الرسول يتلو القرآن، ويدعو إلى ربه الرحمن؛ قالوا هذا رجل قد ضل عن دين الآباء، وغوى عن السبيل المعهود للملأ؛ لكن الله يقسم بالنجوم كلها على أن صاحبهم المعروف لهم هو أكثر عقلاً وأرجح وأحسن عملاً وأصلح.
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، وكيف يضل ويغوى وهو لا ينطق إلا بالقرآن وإلا بالهدى.
(وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)) ليس القرآن الذي ينطق به منطلقاً من هواه، وليس قولاً افتراه؛ بل وحيٌ تلقاه.
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)) نعم إنه وحي يوحى إليه من ربه الذي اختاره واصطفى. أما كيف جاءه هذا الوحي وكيف تلقاه؛ فإن البيان يأتي مباشرة:
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)). إنه جبريل، إنه الروح الأمين نزل به على قلبه، وأوحى به من ربه.
(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12))؟!. أي أن فؤاده على علمٍ ويقين أن هذا القرآن وحي من رب العالمين، فكيف تمارونه على علم يعلمه ويراه، ويقينٍ أتاه؟!.
وبعد: فإذا تابعنا السور والآيات؛ لوجدنا القسم بالظواهر السماوية، يتكرر من الله على نفس القضية، وهي القرآن؛ ففي سورة التكوير يقول الله:
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِي الْكُنَّسِ(16)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)).
لقد أضاف إلى النجوم آيتي الليل والصبح، وعلى أيٍ فالخنُس هي النجوم العظمى التي تخنُس من مواقعها ثم تكنُس أي تختفي في مواضعها.
ثم على ماذا هذا القسم الكوني؟
إنه على قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)).
أي أن القرآن قول ملقى على محمد من رسول كريم هو جبريل الموصوف بتلك الصفات الدالة على التمكن والقوة والقرب والأمانة.
إذن فإن المتلقي لا بد أن يكون على علمٍ ودراية بما يتلقى من ربه؛ ولهذا قال: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ(23)وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)).
بعد هذا البيان عن القرآن يقول: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26))؟.
إنه سؤال من الله مخيف للناس أجمعين، أين هم ذاهبون والعلم والهدى بين أيديهم يقودهم إلى الحق المبين (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27))؛ أي ليس هذا القرآن إلا علم فيه الهدى والحكمة والنور والرحمة للإنس والجن أجمعين.
غير أنه لا ينال هذا العطاء إلا من أحب الاستقامة على الهدى؛ ولهذا قال: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)). فمن شاء الاستقامة هداه ربه العليم، أما من لم يشأ فقد ذهب في سبيل الضلال البهيم، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)).
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..(9)) [سورة الإسراء]،
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)) [سورة البقرة].
(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)) [سورة هود].
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)) [سورة الزخرف].
بهذه الآيات، وبهذه الصفات وصف الله القرآن في مختلف السور، وبمختلف أساليب البيان، وإن شئتم المزيد فاستمعوا:
(..وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)) [سورة فصلت].
(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68)) [سورة ص].
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(29)) [سورة ص].
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)) [سورة ص].
ثم إن الله يؤكد أن هذا الذكر منزل من عنده، بل ويؤكد ذلك أقوى توكيد ويقول:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)) [سورة الحجر].
وعليه: فإن هذا الذكر لم يكن إنزاله ليهمل وينسى؛ بل ليعمل به ويتلى، ولم يكن كلاماً عادياً، بل علم رباني من تذكر به يحيا. (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)) [سورة يس].
وهو مع ذلك علم يعرفه الأولون:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ(196)) [سورة الشعراء].
وهكذا يتأكد لكل الناس أن هذا القرآن قد أنزل محفوظاً ومصاناً من الوسواس الخناس، وأن محمداً قد بلغه كما أنزله إليه ربه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تردد ولا إدهان، بل إتقانٍ وإحسان، وإيمان بربه الرحمن: (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا(4)الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)) [سورة طه].
والله قد جعله فضلاً للنبي الكريم الأمين، ونعمة ورحمة للعالمين: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87)لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)) [سورة الحجر].
ولقد شكر الرسول هذا العطاء من ربه وحمل ما آتاه بصبر وثبات، مطيعاً قول ربه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)) [سورة الحجر].
ولقد صدع الرسول بما أمره الله ولم يتراجع ولم يدهن، وكيف لا والله قد ثبته وصد محاولات الفتانين والمكذبين : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)) [سورة الإسراء].
وهكذا يتأكد لكل الناس أن الرسول مثبت من ربه ليبلغ ما أنزل إليه، ومعصوم من الافتتان بمكر الناس: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)) [سورة المائدة].
ومع التكليف والتحذير فإن الله يأتيه بالتأمين والتبشير، والوعد الجميل: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)) [سورة القلم]، إنه قسم بالقلم، على ماذا يقسم الله؟، على قوله لرسوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)) [سورة القلم].
وما هو الخلق العظيم؟.
إنه القرآن الكريم، وعليه فإنه يقول له: (فَلَا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)) [سورة القلم].
هكذا جاء في سورة القلم. أما في سورة الحاقة فإن الله يقسم بكل شيء ويقول: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(39)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ(41)وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)) [سورة الحاقة].
إن الله رب العالمين هو المنزل، وهو الحارس المراقب لما أنزل، ومراقب للرسول، ولهذا قال الله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)) [سورة الحاقة].
إنه التهديد بالقتل والتنكيل، وإن ذلك هو الذي يعلمه الرسول من ربه العليم القدير، وكيف لا والقرآن كما يصفه ربه: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48)) [سورة الحاقة]، ثم يقول: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(52)) [سورة الحاقة].
فسبحان الذي أنزل القرآن، وحرسه من كل بهتان، إنه الله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)) [سورة الجن].