تحياتي ..
قبل ما يقارب الالف واربعمئة عام تقريبا نجح رجل امي فقيرلا يقرا او يكتب مستوطنا مع قومه الصحراء العربية ذات الطبيعة الموغلة في الغلظة والجدب والتي تصل في كثير من الأحيان إلى حد التوحش والهمجية في كافة أوجهها مما طبع أثارها القاسية على ملامح وصفات قاطنيها ناهيك عن طبعاهم ، نجح هذا الأمي في أن يعيد أو قل في صنع جيل جديد من الرجال والنساء يحمل من السمات والقيم والأخلاق ما هو مختلف تماما بل ويبعد كل البعد في تعاطيه الحياتي عما كان سائدا في تلك الفترة من أعراف وأخلاق وقيم سلوكية كان يشوب معظمها الخطأ والانحلال والسقوط بالإضافة إلى انحرافها عن مكنونات الفطرة الإلهية والبشرية في التعامل الاجتماعي في تلك البقعة المنقطعة أو أية بقعة أخرى وجد بها بشر على وجه البسيطة ، فقد استطاع في فترة وجيزة لا تتجاوز الخمس عشرة عاما أن يصيغ من نفر قليل مجتمعا مغايرا متميزا عما عايشه وعايشوه طوال حياتهم أو منذ قرون مضت ، يقوم اساسه على مبادئ إنسانية راقيه قوامها الاحترام والعدل والمساواة في التعامل ، والحق والصدق والإنصاف في التعاطي ، والثقة وحسن المعاشرة والتواد في التعايش سواء بين أفراده أو مع من يتواصل معهم من المجتمعات المحيطة به على اختلافها..
فلا عبودية ولاسرقة أو اعتداء واغتصاب حقوق .. لا كذب أو غش أو كراهية وتميز للأخر بالعرق أو اللون والدين أو الطائفة و النوع ولا حتى القبيلة ، لا استغلال لا محسوبية أو نفوذ لا تعصب أو جهالة ضد إنسان أو حيوان أو حتى نبات بل حتى ما يحيك بالصدر ويخفيه المرء في دواخله ضد الآخرين أيا كان أضحى من المحرمات في هذا المجتمع الجديد .. الكل سواسية متساوون في الحقوق والواجبات ، يتعاشون بسلام ويعين بعضهم بعضا متراحمين متوادين وفق مبدأ الإيثار والتفضيل للأخر على النفس في كل مناحي الحياة بعيدا عن التنافس أو التشاحن الذي يقود إلى البغضاء والخلاف .. واضحي مبدأ الكل للواحد والواحد للكل رسالة قوية لمن في قلبه مرض اتجاه هذا المجتمع الجديد .
فكيف تمكن هذا الرجل بقدراته البسيطة ومواهبه المعدومة أن يحقق المستحيل ، المدينة الفاضلة ، المجتمع المتكامل المـتآخي والمتماسك حتى الكمال ؟
ولا يتيه عنا الجواب حين نبحث عنه بصدق وتجرد دون حاجة إلى جدال أو فلسفة .. إنها الفطرة .. إنسانية الإنسان ..
لقد استنهض محمد الانسان قبل محمد الرسول ، الإنسانية في دواخل أصحابه وتابعيه ، استنفر من باطنهم فطرة الله تعالى التي خلق عليها النفس البشرية ، الفطرة السوية الصحيحة التي لا ترضى بالخطأ أو بالانحراف مسلكا وطريقة حياة ، ليحررها من كل القيود التي تعيق حركتها كالأنانية وحب الذات والتعصب الأعمى والشهوة والحقد والكراهية والحرام واللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية اتجاه الآخر أو حتى عدم الشعور بوجوده ثم أطلق لها العنان لتتفاعل مع الحياة وتنتج أفعالا ايجابية كان من أثارها كل ما سبق وأكثر ، لم يكن محمد الإنسان بحاجة في بدايات دعوته أصحابه والناس إلى صلاة أو صيام وقيام لم يكن بحاجة إلى زكاة أو صدقة أو حج وما خلافه من طقوس وشعائر بل لا اذهب بعيدا إن قلت انه لم يكن بحاجة حتى إلى تأييد الله تعالى اكثر من استدعاء الإنسان من داخل كل منهم ليصل بهم إلى كل ذلك السمو الأخلاقي والسلوكي قبل أن يدعوهم إلى الإيمان بالدين الجديد ذلك أن محمد الإنسان كان متواجدا بينهم قبل هذه اللحظة قبل الدعوة يعيش معهم كل ذلك السمو والرقي لذلك استجاب لنبوته كل الباحثين عن إنسانيتهم وحقيقة وجودهم في هذا الكون ، كل ذوي النفوس الحية الأبية العاقلة المنصفة .
لذا لم يكن غريبا أن ينطلق أصحابه بعد كل هذا في بناء أركان الرسالة التي جاء بها وتقوية الدعوة إليها بل وينشطوا على كافة الصعد والمستويات من اجل إيصالها إلى العالم اجمع لاستشعارهم إنها تعيد تطوير النفس البشرية وتعيدها إلى حقيقتها التي خلقت من اجلها كما فعلت معهم ..عبادة الله تعالى في أعمار الأرض وبنائها ..
وهذا ما نحتاجه نحن اليوم ، أن نعي حقيقة وجودنا في هذا الكون ، أن نستنهض إنسانيتنا وكينونة بشريتنا قبل الدين وطقوسه أن نحرر الإنسان بداخل كل منا من القيود التي كبلناه بها لعناوين دنيوية شتى ما انزل الله بها من سلطان ، أن نتخلص من أدراننا السلوكية الخاطئة في حياتنا اليومية بدئا من ابسط الأشياء إلى أكبرها ..
في المنزل ، في العمل في الشارع في كل مكان وظرف نتواجد فيه وعلى أي مستوى نكون عليه ، يجب أن نتحمل مسؤوليتنا في التواصل مع الحياة ومن يعيايشنا فيها بشكل ايجابي يكون عنوانه الاساس مبادئ الفضيلة والإنصاف والاحترام ، اي أن نخضع أفعالنا وحركاتنا إلى مبدأ الفضل في التعامل وليس العدل فقط فليس من الإنسانية أن نقول نعامل الآخرين كما يعاملوننا بل لا يجب أن تكون أفعالنا وتحركنا اتجاه الآخرين استجابة آلية لحركاتهم اتجاهنا فان أُحسن إلينا أحسنا وان أسئ إلينا أسأنا وإلا أصبحنا إمعات ، شخصيات هلامية بلا ملامح او هوية او حتى لون لا تضر ولا تنفع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ..
" لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا "
نعم .. ينبغي أن تكون أفعالنا وحركتنا انجازات ايجابية ، مواقف بطوليه ان صح القول تدفع المقابل لتعديل تحركاته ان كانت خاطئة أو اقل سموا ورفعة فلا أقابل السوء بما هو أسوء ولا الظلم بما هو اظلم ولا الإجرام بما هو اشد وانكي ولا الكذب والغش والاحتيال والاستغلال بما هو أبشع منها وأظل .. حتى لا ندخل في خانة المساواة في الصفة ومن ثم الوصول إلى الفجر في ردة الفعل .
هكذا هو الإسلام الحقيقي إسلام محمد صلى الله عليه وسلم، الدين الذي أوحى به الله تعالى إليه وحمله إلى العالم صحابته وتابعيه حتى وصل إلى كل بقعة في الأرض ، إسلام الفطرة الصحيحة ، إسلام أخلاق وقيم ومبادئ ومعاملة ومحبه وتسامح وليس ما نمارسه هذه الأيام من حركات والتفاتات وبعض تمتمات لآيات القرآن غالبنا لا يفقه معناها ونظن إننا مسلمين والحقيقة إننا ابعد ما نكون عن هذا الدين وتعاليمه السمحة الجميلة الرائعة ورقيه الأخلاقي السامي .
الحقيقة المرة التي لا نعيها جميعا إننا لم نبتعد عن الإسلام فحسب بل لقد مسخناه في حياتنا وألغينا كل دور فعال له ، افرغناه من محتواه ، من مادته الأساس وأبقينا على الاسم فقط واستبدلناه بانحطاط لم يسبق له مثيل ..
لقد استبدلناه بعادات وتقاليد عبثية ،استبدلناه ببدوية متوحشة موغلة في الهمجية والبربرية والتخلف ، استبدلناه بعنصرية عجيبة وتمييز أعجب وبطائفية وقبلية ومذهبية وقطرية وتعصب وأنانية وبخل اشد غرابة استبدلناه بجمود فكري وعقلي وثقافي وعلمي فريد من نوعه بل هو أشبه بالجهل المطبق منه إلى العقل والمنطق استبدلناه بتبعية وتقليد أعمى وخنوع وذل لكل حي وان كان حيوانا أو نبات و بنفاق اجتماعي هزلي مضحك انحطت معه أخلاقنا وسلوكياتنا حدا تخلينا فيه حتى عن أخلاق الكفار التي كانت سائدة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وجود لكرم حاتم الطائي المجرد من كل مصلحة ولا نبل المُطعِم بن عدي في إغاثة الملهوف والمستجير وان كان عدوا ولا إيثار أولئك النفر من كفار قريش الذين أبوا أن يجوع أهليهم وإخوتهم في شعاب مكة إبان حصار الرسول صلى الله عليه وسلم رغم إنهم ليسوا على دينه ويناصبونه العداء ولا شهامة أبو جهل حين رفض اقتراح اقتحام منزل النبي وترويع من بقي من أهله فيه حين خرج صلى الله عليه وسلم من مكة .
لم نعد نقيم وزنا لخلق أو قيمة أو معنى في حياتنا حتى إنسانيتنا وبشريتنا وفطرتنا استخففنا بها الى الحد الذي لم تعد معه امة تنافسنا في هذا الاستخفاف على وجه الأرض ، فنزعم إننا ندعى إلى أعظم دين على الأرض وأخلاقنا وسلوكياتنا أسوء من أسوء وثني عرفه التأريخ ..
نستقوي على المسكين ونسرق الفقير ونغتصب البريء ونظلم الضعيف ونسترق المحروم برزقه وقوت عياله ونستغل حاجات الناس أسوء وأرذل استغلال ونمنع عن الأجير أجره وان استوفيناه بخسناه ،لا نجير ولا نتراحم ولا نتواد ولا نتواصل ، نتباغض في التوافه ونتحاسد على الأتفه ، نتخاصم خصام المعاتيه والحمقى فنصل إلى حد الفجر والكفر ، سلاحنا على اهلنا مشهور وعلى العدو مكسور مشلول ، لا نحفظ ذمة ولا نبقي على عشرة ، احترمنا الحجر وأهنا البشر ، الإمعة التافه فينا يحكم ويأمر وينهي ، والمهزوز الحقير يحاسب ويسأل ويفتي ويقضي ، منعنا العمل ومنحنا الجدل .. نبخل على أهلنا ويفيض كرمنا على عدونا ، نحاور كل مخلوق حتى الحجر والنبات ومن يديه بدمائنا تخوض نهار مساء ولا نسمح بكلمة او رأي لمن يشاركنا أرضا وسماء ، حكمنا بما لم ينزل الله تعالى وتولينا من لن يرضى عنا حتى نتبع ملته وهذا ما سائرون اليه للأسف ..
ثم قايضنا كل شيء جميل وراقي في حياتنا وعرضناه في سوق نخاستنا بمقابل بخس بدئا .. بصلاتنا وتاريخنا ولغتنا وشرف الكلمة والوعد والوفاء والقرآن والعرض والشرف والصدق والامانه حتى تحقق فينا كل ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعنا الأعاجم حتى دخلنا خلفهم جحور الضب و تداعت علينا أممهم تنهش فينا حتى اتخمت , وملئنا كروشنا من الدنيا بحرامها قبل حلالها حتى أفشلتنا وشتتت شملنا واستمرئنا الفاحشة حتى اعتدناها فسلط علينا ما لم يكن فيمن قبلنا من بلاء ولا زلنا من سيئ إلى أسوء بغير هدى كالأعمى إلى حتفه يسير وأخشى ما أخشاه أن يتحقق فينا قول الله تعالى ..
فهل نعقل ونعي ما نحن فيه من كارثه مقبلون عليها .
احترامي ..