mohamadamin
حكيم المنتدى
أصحاب الكهف (2)
ونحن اليوم وما يليه مع آيات الإيمان، الذي يشع من قلوب أصحاب الكهف الفتيان، ويسطع بالنور والبرهان؛ لقد أيقنوا صادقين، وأعلنوا واثقين، أن الله هو رب كل شيءٍ، وهو المسير لكل شيءٍ وحي، وهو المدبر لكل ما في الأرض والسماء، وكل ما في التراب والماء، وكل ما حواه النور والهواء، وكل ما بان واختفى، وكل ما دنى وعلا، وكل ما دب وعام، وكل ما طار وحام، وكل ما اعوج واستقام، وكل ما قعد وقام، وكل ما استيقظ ونام.
لقد أعلنوا أن الله رب كل ما جف ونمى، وكل ما توقف وسعى، وكل ما عطش وارتوى، وهو الرب لكل صغيرٍ وكبير، ولكل صخرٍ وكوكبٍ منير، وكل غصنٍ ناعم، وزهرٍ باسم، ولكل ورقةٍ وحبة، وكل يابسةٍ ورطبة، ولكل شجرةٍ وعشبة، ولكل رملةٍ وقبة، وكل قطرة ماءٍ جاريةٍ أو منصبة، وكل سحابةٍ سائرةٍ، وكل غيمةٍ ماطرة، وكل ريحٍ عاصفةٍ مدمرةٍ أو رياحٍ مبشرة.
لقد أيقن الفتية بأن ربهم هو الواحد القهار، وهو الله العليم بكل ما يجري في الليل والنهار، وفي الوديان والأنهار، وفي الصحاري والبحار، وفي الشموس والأقمار، وفي الكواكب الدرية الأنوار، وفي الجبال والحقول ذات الأثمار، وفي النجوم الجامحة المدار، وفي المجرات الواسعة الأقطار.
وإنه مع ذلك المحيي والمميت، وهو الله الحي الذي لا يموت، وهكذا عرفه أصحاب الكهف فآمنوا، وبعلمه اهتدوا ولهداهم أعلنوا، وهكذا وصفهم الله وبالحق قص علينا نبأهم، وفصله لكل ذي قلبٍ سليم، ولكل شابٍ واعٍ مستقيم، فاستمعوا يا شباب إلى ما يقوله عنهم ربهم:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ..).
نعم؛ فالقصص الصادق والنبأ الحق؛ إنما يكون من الله الحكيم، فهو بكل شيءٍ عليم، وهو الذي يدبر الحادث والآتي والقديم، وكل ما يقوله الناس عن غيرهم فهو ظنٌّ وأوهام، وتخريصٌ ولغوٌ في الكلام، فليكن علمنا مصدره الله فهو الحي الذي لا يموت، وهو الذي بيده الملكوت، وعن علمه لا يغيب شيء ولا يفوت، فالعلم له، وقوله الحق الذي له الثبات، فعليه الاعتماد، وقوله هو النور والرشاد، إن كلمات الله لا تُبدل، فكيف نعتمد على قول من يموت ويجهل!! لكن الناس رغم هذا يركنون إلى أقوال الناس، ويساوون بين الحق الثابت وبين الباطل والالتباس، وهذا هو الذي يثير فيهم الوسواس، ويجعلهم سايرين على طريق القنوط واليأس. فلندع مزاعم الإنسان عن الإنسان، ولنستمع قول الله الحق عن هؤلاء الفتيان؛
(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)) [سورة الكهف].
لقد بدأ الخير من عند أنفسهم، فزكى الله أنفسهم، ولقد بادروا في مقتبل أعمارهم، إلى الطريق اللائق بهم، وهو الإيمان بربهم، فأقبل الله عليهم ومن النور زادهم، هذا هو المنشأ الذي يجب أن ينشأ فيه كل فتى، وهذا هو المهد الأنقى والأرقى الذي تستنير فيه العقول وتنمو القوى، وهذا هو الحقل الخصيب، الذي يثمر فيه الشباب اللبيب، وهو المنهل العذب السلسبيل، الذي يُسقاه كل شابٍّ نبيل، إنه الإيمان بربه الجليل، إنه يعني معرفة ربه الذي خلقه وصوره، والذي كما يشاء سيره ودبره، وللسبيل الذي يختاره يسره، فله الخيار وحده، وليس للناس الخِيَرَة، فإذا آمن الإنسان بربه هكذا، جاءه من ربه العون والعطاء، وزاده الله من عنده هدى، ومن يهده الله فقد اهتدى؛ ذلك لأن هدى الله هو الهدى، أما سواه فلا يأتيك منه إلا العمى والردى، ومن أين يأتي هدىً من الأعمى والأصم!! فالله وحده هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وبعلم الله لا سواه، يسمو الإنسان ويتقدم، وبه يكرم، وبهدى من الله تستنير كل الأمم، وتنكشف لها الدياجي والظلم، وهكذا كان الفتية الذين آمنوا بربهم، كانوا معتزين بهداهم، أقوياء بربهم؛ لا ينثنون عن سبيل الله المستقيم، ولا ينحرفون عن إيمانهم بربهم الكريم، وكيف لا والله يقول عنهم:
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ..).
فهو معهم، وهو حاميهم من كل ما يصيبهم، فبينما الطغاة من حولهم يهددونهم ويتوعدون، وبدعوتهم إلى العودة إلى ملة الكفر مرغمين، وبينما الشرك يكشر أنيابه لهم، وينشر الأخطار حولهم، إذا هم يواجهون ذلك بثبات الرجال، وبفتوة الأبطال، ويمضون بنور الحق والإيمان، ويعلنون بجلاء أن ربهم هو الله رب كل شيءٍ وحي، وأن كل مدعوٍّ سواه هو الضلال والغي، ولنستمع قولهم كما يحكيه ربهم:
(..إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)) [سورة الكهف].
كلمات تصك آذان الطغاة المشركين، وتمحق بهتان الغواة الضالين، فيا للسمو السامق، وللجمال الفائق!! ويا للإيمان الصادق!! ويا لليقين الواثق!!
هكذا هو الشباب القوي الإيمان، وهكذا هو المسلك الحق للفتيان، فالله هو الرب الذي يُطاع وسواه يُرفض، وكيف لا وهو رب السماوات والأرض، فإذا كان هو خالقهما وربهما، وهو المدبر كل شيءٍ فيهما وبينهما، والعليم بما يجري عليهما وفيهما، ولا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء؛ فكيف لا يكون هو الرب للإنسان وهو السميع البصير!! وكيف لا يكون الإنسان هو المربوب لهذا الرب العظيم الكبير!!
إن اتخاذه وحده رباً وإلهاً، هو مسكن الإنسان العاقل الذي لا يرضى لنفسه سفاهاً؛ لكن اتخاذ غيره إلهاً هو الخسران والشطط، وهو الهلاك والدرك المنحط، (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، هكذا أعلنوها كلمةً ناصعةً بالتوحيد، وعليها استقاموا رغم التهديد، فماذا جرى بينهم وبين الطغاة؟
إن الحقيقة التي نقرأها من موقف الفتية أصحاب الكهف هي أن شباب الأمة النافع لنفسه ولأمته؛ هو الذي يتفتح قلبه على معرفة ربه، وينمو عقله في ظل العلم من ربه ذي الجلال، فينطلق معلناً أن الله ربه الذي يُعبد ويُرجى، ويُحمد ويُدعى، ويُقصد ويُخشى، وأنه هو الله الواحد القهار، خالق كل شيءٍ بإتقانٍ واقتدار، والمطلع على كل أعمال العباد باستمرار، وهو الرحيم الغفار، وإليه مرجع الناس أجمعين، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وهو الذي يحاسب فيجازي المؤمنين، ويعاقب المفسدين.
وعليه؛ فإن الشاب المؤمن بهذه الحقائق عن ربه، يستقيم على الصراط السوي مطمئناً قلبه، وكيف لا وربه الحق هو الله رب كل شيءٍ والمدبر، وهو الله بارئ كل شيءٍ والمسير، وهو الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، فله تخضع الوجوه والجباه، وإليه يفتقر كل الناس وينالون من عطاه، بل كل شيءٍ إليه فقير، وعليه يعتمد كل صغيرٍ وكبير، وهو بكل الخلق عليمٌ خبير، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)) [سورة غافر]. هذا هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذا هو ما أيقن به أصحاب الكهف وأعلنوه، وبه استمسكوا في السر والجهر وأيقنوه، فكانوا بحكم الله عاملين، وبقوة الله ثابتين، وبعون الله سائرين، فلم يعترفوا بسوى الله رباً، ولم يسألوا سواه إرباً، فلا المال ولا الأهل ينفعون، ولا القبيلة والعشيرة يغنون، ولا الأوطان والديار تحمي ولا تصون، ولا الثروة المادية تعز ولا عدمها يهين، بل الله هو الرب؛ الذي يعطي كل حاجةٍ وإرب، وهو النافع والضار والمغني بما وهب، وهو القريب المجيب الطلب، وهو الناصر المعز الذي لا يُغلب، وهو الذي يحمي ويصون وإليه المهرب، فهو الذي يسأل ويُرجى ويُخشى وإليه المنقلب، وهو المحبوب وحبه يفوق حب الأولاد والأم والأب، إليه تتجه الوجوه خاشعة، وإليه تنطلق الآمال واسعة، وإليه تشرئب العيون دامعة، وبه تطمئن القلوب طائعة، وبمعرفته تزكوا النفوس لامعة، وبطاعته تسمو الأعمال وتصلح، وبرحمته تفوز في المآل وتفلح، وهذا هو المقام العالي، وهذا هو المنبع الشافي، والمشرب الصافي، فمن عبد ربه الحق؛ فلا يقول إلا قولاً سديدا، ومن عرف ربه الحق فلا يعمل إلا عملاً رشيدا، وهذا هو ما لاح من أصحاب الكهف بوضوح، ولقد عرفنا أمس إعلانهم الصريح؛
(..إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)) [سورة يوسف].
وعلى ضوء هذا الإعلان الصارم، يتوجه الفتية إلى القوم بسؤالٍ حازم:
(هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ..).
إنهم يشيرون إلى القوم باستضعافٍ واستنكار، ويصفون قومهم بصفةٍ تدل على جهلهم بربهم القهار، فقد اتخذوا من دونه آلهة، وعبدوهم بلا أدلةٍ واضحة، وهذا دليلٌ على ضلالتهم الضائعة، وعلى خسرانهم في العاجلة والآجلة.
إن اتخاذ إلهٍ معبودٍ، هو من أكبر القضايا التي لا بد فيها من دليل، ولا بد من علمٍ واضحٍ جليل، لكن قومهم يعتمدون في أهم القضايا على الظنون، وهي صفةٌ لا يتصف بها إلا الغافلون؛
(..لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ..).
إنه سؤالٌ هام، وهو للجاهلين كاللجام، فليس لهم دليلٌ على عبادة غير الله ولا هدى، وإنما هو البهتان واتباع الهوى، وهذا هو الظلم الذي يُردي، وهو الضلال المظلم الذي لا يُجدي؛
(..فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(15)) [سورة الكهف].
هكذا ختم الفتية سؤالهم لقومهم، فلقد ظلموا أنفسهم وفعلوا ما يضرهم، وادعوا أن ذلك أمر به ربهم، وهو كذبٌ وبهتان، فالله لا يرضى لعباده الكفر، ولكنه يرضى لهم الشكر، ولا يرضى منهم الكذب والافتراء، ولكنه يحب الصدق والنقاء؛ (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ(33)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34)) [سورة الزمر].
نعم؛ إن الله لا يقبل القول الشطط المعوج، ولكنه يحب القول بالقسطاس الأبلج، إن الإنسان السوي، هو الذي يعتمد في كل قضاياه الحياتية على العلم اليقين، والسلطان المبين، وهذا هو شأن كل المؤمنين الصادقين، وهو مسلك أولي الألباب، وهو السبيل الآمن للنابهين الشباب.
إنهم يتخذون العلم أساس كل حركةٍ للإنسان، ومنبع كل سعيٍ وعلاقةٍ وشأن، فبدون العلم والهدى والسلطان المبين، يسقط الناس في ضلالٍ مهين، ويحاطون بظلامٍ عمين، وذلك هو الطريق الخطر في الدنيا ويوم الدين، وهكذا يتضح لنا أن أصحاب الكهف يتصفون بالعقل والنضج في حياتهم، ويعتمدون على العلم والنور في قراراتهم، ويخطون على اليقين في كل تحركاتهم، وهذا هو الوصف الذي يحسن أن يتصف به الشباب في كل مجال، وهو الطريق الذي يستقيمون عليه في كل الأعمال والأقوال، وهو الأساس الذي يبنون عليه الخطط والآمال، فلا يقولون إلا عن دليل، ولا يؤملون إلا وأمامهم ما يبشر بالوصول، ولا يعملون إلا وقد اتضح أمامهم سلامة السبيل، وإلا فإن النهاية هي الفشل الشامل، والشلل الكامل، وهذا يؤكد أن البحث العلمي المستمر، هو الحل العملي لكل عملٍ مثمر، وإلا فهو هباءٌ مندثر، وهذا ما حرص عليه أصحاب الكهف العلماء؛ لقد رفضوا مجتمعاً يعيش في ظلماء، فهل تحول الرفض إلى فراقٍ صادق؟، أم رضخوا لمجتمع الجهل الماحق؟.
للموضوع بقية ....
ونحن اليوم وما يليه مع آيات الإيمان، الذي يشع من قلوب أصحاب الكهف الفتيان، ويسطع بالنور والبرهان؛ لقد أيقنوا صادقين، وأعلنوا واثقين، أن الله هو رب كل شيءٍ، وهو المسير لكل شيءٍ وحي، وهو المدبر لكل ما في الأرض والسماء، وكل ما في التراب والماء، وكل ما حواه النور والهواء، وكل ما بان واختفى، وكل ما دنى وعلا، وكل ما دب وعام، وكل ما طار وحام، وكل ما اعوج واستقام، وكل ما قعد وقام، وكل ما استيقظ ونام.
لقد أعلنوا أن الله رب كل ما جف ونمى، وكل ما توقف وسعى، وكل ما عطش وارتوى، وهو الرب لكل صغيرٍ وكبير، ولكل صخرٍ وكوكبٍ منير، وكل غصنٍ ناعم، وزهرٍ باسم، ولكل ورقةٍ وحبة، وكل يابسةٍ ورطبة، ولكل شجرةٍ وعشبة، ولكل رملةٍ وقبة، وكل قطرة ماءٍ جاريةٍ أو منصبة، وكل سحابةٍ سائرةٍ، وكل غيمةٍ ماطرة، وكل ريحٍ عاصفةٍ مدمرةٍ أو رياحٍ مبشرة.
لقد أيقن الفتية بأن ربهم هو الواحد القهار، وهو الله العليم بكل ما يجري في الليل والنهار، وفي الوديان والأنهار، وفي الصحاري والبحار، وفي الشموس والأقمار، وفي الكواكب الدرية الأنوار، وفي الجبال والحقول ذات الأثمار، وفي النجوم الجامحة المدار، وفي المجرات الواسعة الأقطار.
وإنه مع ذلك المحيي والمميت، وهو الله الحي الذي لا يموت، وهكذا عرفه أصحاب الكهف فآمنوا، وبعلمه اهتدوا ولهداهم أعلنوا، وهكذا وصفهم الله وبالحق قص علينا نبأهم، وفصله لكل ذي قلبٍ سليم، ولكل شابٍ واعٍ مستقيم، فاستمعوا يا شباب إلى ما يقوله عنهم ربهم:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ..).
نعم؛ فالقصص الصادق والنبأ الحق؛ إنما يكون من الله الحكيم، فهو بكل شيءٍ عليم، وهو الذي يدبر الحادث والآتي والقديم، وكل ما يقوله الناس عن غيرهم فهو ظنٌّ وأوهام، وتخريصٌ ولغوٌ في الكلام، فليكن علمنا مصدره الله فهو الحي الذي لا يموت، وهو الذي بيده الملكوت، وعن علمه لا يغيب شيء ولا يفوت، فالعلم له، وقوله الحق الذي له الثبات، فعليه الاعتماد، وقوله هو النور والرشاد، إن كلمات الله لا تُبدل، فكيف نعتمد على قول من يموت ويجهل!! لكن الناس رغم هذا يركنون إلى أقوال الناس، ويساوون بين الحق الثابت وبين الباطل والالتباس، وهذا هو الذي يثير فيهم الوسواس، ويجعلهم سايرين على طريق القنوط واليأس. فلندع مزاعم الإنسان عن الإنسان، ولنستمع قول الله الحق عن هؤلاء الفتيان؛
(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)) [سورة الكهف].
لقد بدأ الخير من عند أنفسهم، فزكى الله أنفسهم، ولقد بادروا في مقتبل أعمارهم، إلى الطريق اللائق بهم، وهو الإيمان بربهم، فأقبل الله عليهم ومن النور زادهم، هذا هو المنشأ الذي يجب أن ينشأ فيه كل فتى، وهذا هو المهد الأنقى والأرقى الذي تستنير فيه العقول وتنمو القوى، وهذا هو الحقل الخصيب، الذي يثمر فيه الشباب اللبيب، وهو المنهل العذب السلسبيل، الذي يُسقاه كل شابٍّ نبيل، إنه الإيمان بربه الجليل، إنه يعني معرفة ربه الذي خلقه وصوره، والذي كما يشاء سيره ودبره، وللسبيل الذي يختاره يسره، فله الخيار وحده، وليس للناس الخِيَرَة، فإذا آمن الإنسان بربه هكذا، جاءه من ربه العون والعطاء، وزاده الله من عنده هدى، ومن يهده الله فقد اهتدى؛ ذلك لأن هدى الله هو الهدى، أما سواه فلا يأتيك منه إلا العمى والردى، ومن أين يأتي هدىً من الأعمى والأصم!! فالله وحده هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وبعلم الله لا سواه، يسمو الإنسان ويتقدم، وبه يكرم، وبهدى من الله تستنير كل الأمم، وتنكشف لها الدياجي والظلم، وهكذا كان الفتية الذين آمنوا بربهم، كانوا معتزين بهداهم، أقوياء بربهم؛ لا ينثنون عن سبيل الله المستقيم، ولا ينحرفون عن إيمانهم بربهم الكريم، وكيف لا والله يقول عنهم:
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ..).
فهو معهم، وهو حاميهم من كل ما يصيبهم، فبينما الطغاة من حولهم يهددونهم ويتوعدون، وبدعوتهم إلى العودة إلى ملة الكفر مرغمين، وبينما الشرك يكشر أنيابه لهم، وينشر الأخطار حولهم، إذا هم يواجهون ذلك بثبات الرجال، وبفتوة الأبطال، ويمضون بنور الحق والإيمان، ويعلنون بجلاء أن ربهم هو الله رب كل شيءٍ وحي، وأن كل مدعوٍّ سواه هو الضلال والغي، ولنستمع قولهم كما يحكيه ربهم:
(..إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)) [سورة الكهف].
كلمات تصك آذان الطغاة المشركين، وتمحق بهتان الغواة الضالين، فيا للسمو السامق، وللجمال الفائق!! ويا للإيمان الصادق!! ويا لليقين الواثق!!
هكذا هو الشباب القوي الإيمان، وهكذا هو المسلك الحق للفتيان، فالله هو الرب الذي يُطاع وسواه يُرفض، وكيف لا وهو رب السماوات والأرض، فإذا كان هو خالقهما وربهما، وهو المدبر كل شيءٍ فيهما وبينهما، والعليم بما يجري عليهما وفيهما، ولا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء؛ فكيف لا يكون هو الرب للإنسان وهو السميع البصير!! وكيف لا يكون الإنسان هو المربوب لهذا الرب العظيم الكبير!!
إن اتخاذه وحده رباً وإلهاً، هو مسكن الإنسان العاقل الذي لا يرضى لنفسه سفاهاً؛ لكن اتخاذ غيره إلهاً هو الخسران والشطط، وهو الهلاك والدرك المنحط، (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، هكذا أعلنوها كلمةً ناصعةً بالتوحيد، وعليها استقاموا رغم التهديد، فماذا جرى بينهم وبين الطغاة؟
إن الحقيقة التي نقرأها من موقف الفتية أصحاب الكهف هي أن شباب الأمة النافع لنفسه ولأمته؛ هو الذي يتفتح قلبه على معرفة ربه، وينمو عقله في ظل العلم من ربه ذي الجلال، فينطلق معلناً أن الله ربه الذي يُعبد ويُرجى، ويُحمد ويُدعى، ويُقصد ويُخشى، وأنه هو الله الواحد القهار، خالق كل شيءٍ بإتقانٍ واقتدار، والمطلع على كل أعمال العباد باستمرار، وهو الرحيم الغفار، وإليه مرجع الناس أجمعين، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وهو الذي يحاسب فيجازي المؤمنين، ويعاقب المفسدين.
وعليه؛ فإن الشاب المؤمن بهذه الحقائق عن ربه، يستقيم على الصراط السوي مطمئناً قلبه، وكيف لا وربه الحق هو الله رب كل شيءٍ والمدبر، وهو الله بارئ كل شيءٍ والمسير، وهو الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، فله تخضع الوجوه والجباه، وإليه يفتقر كل الناس وينالون من عطاه، بل كل شيءٍ إليه فقير، وعليه يعتمد كل صغيرٍ وكبير، وهو بكل الخلق عليمٌ خبير، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)) [سورة غافر]. هذا هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذا هو ما أيقن به أصحاب الكهف وأعلنوه، وبه استمسكوا في السر والجهر وأيقنوه، فكانوا بحكم الله عاملين، وبقوة الله ثابتين، وبعون الله سائرين، فلم يعترفوا بسوى الله رباً، ولم يسألوا سواه إرباً، فلا المال ولا الأهل ينفعون، ولا القبيلة والعشيرة يغنون، ولا الأوطان والديار تحمي ولا تصون، ولا الثروة المادية تعز ولا عدمها يهين، بل الله هو الرب؛ الذي يعطي كل حاجةٍ وإرب، وهو النافع والضار والمغني بما وهب، وهو القريب المجيب الطلب، وهو الناصر المعز الذي لا يُغلب، وهو الذي يحمي ويصون وإليه المهرب، فهو الذي يسأل ويُرجى ويُخشى وإليه المنقلب، وهو المحبوب وحبه يفوق حب الأولاد والأم والأب، إليه تتجه الوجوه خاشعة، وإليه تنطلق الآمال واسعة، وإليه تشرئب العيون دامعة، وبه تطمئن القلوب طائعة، وبمعرفته تزكوا النفوس لامعة، وبطاعته تسمو الأعمال وتصلح، وبرحمته تفوز في المآل وتفلح، وهذا هو المقام العالي، وهذا هو المنبع الشافي، والمشرب الصافي، فمن عبد ربه الحق؛ فلا يقول إلا قولاً سديدا، ومن عرف ربه الحق فلا يعمل إلا عملاً رشيدا، وهذا هو ما لاح من أصحاب الكهف بوضوح، ولقد عرفنا أمس إعلانهم الصريح؛
(..إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)) [سورة يوسف].
وعلى ضوء هذا الإعلان الصارم، يتوجه الفتية إلى القوم بسؤالٍ حازم:
(هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ..).
إنهم يشيرون إلى القوم باستضعافٍ واستنكار، ويصفون قومهم بصفةٍ تدل على جهلهم بربهم القهار، فقد اتخذوا من دونه آلهة، وعبدوهم بلا أدلةٍ واضحة، وهذا دليلٌ على ضلالتهم الضائعة، وعلى خسرانهم في العاجلة والآجلة.
إن اتخاذ إلهٍ معبودٍ، هو من أكبر القضايا التي لا بد فيها من دليل، ولا بد من علمٍ واضحٍ جليل، لكن قومهم يعتمدون في أهم القضايا على الظنون، وهي صفةٌ لا يتصف بها إلا الغافلون؛
(..لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ..).
إنه سؤالٌ هام، وهو للجاهلين كاللجام، فليس لهم دليلٌ على عبادة غير الله ولا هدى، وإنما هو البهتان واتباع الهوى، وهذا هو الظلم الذي يُردي، وهو الضلال المظلم الذي لا يُجدي؛
(..فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(15)) [سورة الكهف].
هكذا ختم الفتية سؤالهم لقومهم، فلقد ظلموا أنفسهم وفعلوا ما يضرهم، وادعوا أن ذلك أمر به ربهم، وهو كذبٌ وبهتان، فالله لا يرضى لعباده الكفر، ولكنه يرضى لهم الشكر، ولا يرضى منهم الكذب والافتراء، ولكنه يحب الصدق والنقاء؛ (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ(33)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34)) [سورة الزمر].
نعم؛ إن الله لا يقبل القول الشطط المعوج، ولكنه يحب القول بالقسطاس الأبلج، إن الإنسان السوي، هو الذي يعتمد في كل قضاياه الحياتية على العلم اليقين، والسلطان المبين، وهذا هو شأن كل المؤمنين الصادقين، وهو مسلك أولي الألباب، وهو السبيل الآمن للنابهين الشباب.
إنهم يتخذون العلم أساس كل حركةٍ للإنسان، ومنبع كل سعيٍ وعلاقةٍ وشأن، فبدون العلم والهدى والسلطان المبين، يسقط الناس في ضلالٍ مهين، ويحاطون بظلامٍ عمين، وذلك هو الطريق الخطر في الدنيا ويوم الدين، وهكذا يتضح لنا أن أصحاب الكهف يتصفون بالعقل والنضج في حياتهم، ويعتمدون على العلم والنور في قراراتهم، ويخطون على اليقين في كل تحركاتهم، وهذا هو الوصف الذي يحسن أن يتصف به الشباب في كل مجال، وهو الطريق الذي يستقيمون عليه في كل الأعمال والأقوال، وهو الأساس الذي يبنون عليه الخطط والآمال، فلا يقولون إلا عن دليل، ولا يؤملون إلا وأمامهم ما يبشر بالوصول، ولا يعملون إلا وقد اتضح أمامهم سلامة السبيل، وإلا فإن النهاية هي الفشل الشامل، والشلل الكامل، وهذا يؤكد أن البحث العلمي المستمر، هو الحل العملي لكل عملٍ مثمر، وإلا فهو هباءٌ مندثر، وهذا ما حرص عليه أصحاب الكهف العلماء؛ لقد رفضوا مجتمعاً يعيش في ظلماء، فهل تحول الرفض إلى فراقٍ صادق؟، أم رضخوا لمجتمع الجهل الماحق؟.
للموضوع بقية ....