mohamadamin
حكيم المنتدى
أصحاب الكهف (1)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام منه على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وعلى الأنبياء والمرسلين من قبله، وبعد:
واليوم ندعوكم إلى رحلةٍ جديدة، مع مجموعة من الفتيان لهم نقوشٌ رشيدة، فمن هؤلاء الفتيان الذين لهم هذا الوصف، وعليهم سنتعرف؟ إنهم لمن تأمل لن يكونوا سوى أصحاب الكهف.
إن هؤلاء الفتية كان لهم في كتاب الله ذكرٌ جميل، وكان لهم في رحمة الله ظلٌ ظليل، لقد عُرفوا بأنهم أخلصوا لله حباً، وكان الدين المخلص لهم نسباً، فهم معروفون لكل الناس مع أنهم في الكهف محتجبون، وأصبحوا مدار أحاديث الناس مع أنهم عنهم معتزلون، فيا للعجب من هؤلاء الذين تلاحقهم الشهرة وهم فيها زاهدون!! حتى لقد أصبح كهفهم النكرة المجهول، معرفةً معهوداً لكل الألسنة والعقول، ولي على ذلك أقوى دليل؛
ها هو الله سبحانه يعرف كهفهم بالألف واللام، وكأنه عَلَمٌ من الأعلام، وموقعٌ معهودٌ في ذهن كل الأنام، فالله يسميهم عند ذكره لهم أصحاب الكهف، إن الألف واللام لا تدخل إلا على معهودٍ معروف، فيقول مثلاً: القمر أو الشمس أوالكتاب أو القرآن أو النبي، أو غير ذلك من الأعلام التي لا تُنكَر ولا تُجهَل، وهي معهودةٌ لكل من يفهم ويعقل، وقد يكون العهد كما يقال ذكرياً بأن يُذكر الاسم أولاً بلا تعريف، ثم إذا عهد وعرف صح إدخال الألف واللام عليه، وقد يكون العهد ذهنياً، وهنا تدخل الألف واللام عليه بلا ذكرٍ سابق، بل اعتماداً على شهرته التي هو بها في الأذهان لاصق.
وهكذا أصبح الكهف من خلال شهرة أصحابه مشهوراً معروفاً لكل الناس، معهوداً في الأذهان بلا التباس، ولهذا عرفه الله من بداية الكلام، وكأنه جبلٌ شامخً أو نجمٌ ساطع، أو مَعْلمٌ حضاريٌّ وإنسانيٌّ شائع، بل أصحابه أصبحوا به يُعرفون، وإليه يُنسبون، وإليه يُضافون، فسبحان الذي يكسوا النكرات بالشهرة، ويُحول المجهلوات إلى معارف ظاهرة.
وهنا نسأل: لماذا نال هذا الكهف هذا المقام؟. ونال أصحابه هذا الاهتمام؟. هل تدرون ما هو السر؟.
إن السر أن هؤلاء الفتيان كانوا عباد الرحمن، وهو الرب الذي لا يخفى على العقول والأذهان، وهو المعرفة الكبرى، والحقيقة العظمى، التي بها تُعرف المعارف والحقائق جمعاء، فمن انتسب إليه فقد نال البقاء والخلود، ومن انحاز إليه فقد حاز الفوز والفلاح السديد، ومن اعتمد عليه فقد اعتمد على الحي القيوم الواجب الثبات والوجود، والذي به يقوم كل موجود، وكيف لا وهو الله ذو العرش المجيد، القوي الشديد، الغني الحميد، الفعال لما يريد، بل وهو الغفور الودود، فكيف يُجهل من انتسب إليه؟! أو كيف يُفقد وهو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد؟!
بهذا الإله العظيم، اشتهر أصحاب الكهف والرقيم، وكانوا من آيات ربهم ولهم عنده مقامٌ كريم، ومع ذلك فإن الله يقول عنهم:
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا(9)) [سورة الكهف] ؟!.
يعني هل تظنون أيها الناس أنهم من الآيات التي تُعَظَّم؟.
كلا؛ فهم آيةٌ صغيرةٌ من آيات الله الأعظم، ولكن مقامهم عنده مكرم، لأنهم انحازوا إليه بإيمانٍ لا يُهزم، ويقينٍ لا يلين ولا يُفصم، فكانوا آيةً من آياته التي تثير الخيال، وتدعوا إلى الاختلاف في الأقوال، فالناس يتحدثون عنهم بلا علمٍ يقين، ويقولون عنهم رجماً بالغيب الذي لا يُبين. ولكن الله رب العالمين يعلم عنهم العلم الحق، ويقص علينا عنهم النبأ الأصدق؛ قد تسألون أيها الشباب عن شأنهم، وقد يقول أحدكم:
لماذا يقص علينا الله نبأهم؟. ولماذا يستحقون هذا الاهتمام من ربهم؟.
إن الجواب هو أنهم عبرةٌ لأولي الألباب؛ لأنهم صالحون مؤمنون مسلمون، والإسلام هو المعراج إلى المعرفة بالله وهو السبيل إلى العلم والحق المبين، ومن عرف الله حق معرفته؛ فقد فاز بمحبته، ومن قدر الله حق قدره، فقد اقترب من رحمته، ومن أيقن بالعلم الذي يأتيه من الله، فقد ارتقى إلى مقام المنعم عليهم بنعمته، وهم الأنبياء والمرسلون، ومعهم من اهتدى بهدى الله وللمرسلين متبعون، وهؤلاء الفتية كانوا من هؤلاء الذين اتبعوا المرسلين، واستقاموا على ملتهم ثابتين، وكيف لا وها هم قد تركوا الدنيا والمتاع الفاني، وانحازوا إلى الله الباقي، وزهدوا في زينة الدنيا الغرورة، وطمعوا في رحمة الله المنشورة، ولنسمع ما يقول الله عنهم:
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ..).
لقد كان الكهف البعيد النائي عن الدنيا ومتاعها وعن الأهل والديار، هو المأوى لهم وهو مقام الاستقرار، ولكن ليس هو المعتمد المكين الذي عليه يُعتَمد، بل الله هو الذي يرجى ويقصد، ورحمته هي المطلب وبها يكون الرشد، ولهذا أطلقوا عند التوجه إلى كهفهم، كلمات الاعتصام بربهم؛
(..فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)) [سورة الكهف].
فالله قريبٌ منهم ينادونه بلا حرف نداء، ويسألونه ما هو أغلى وأسمى من الدنيا، وهو الرحمة من لدنه لا سوى، ثم يرجونه أن يهيئ لهم الشيء الأهم، وهو الرشد في أمرهم، إنه الله ربهم المأوى والملجأ لا الكهف، وإنه المقصود والمنشود والهدف، فماذا نالوه من ربهم من عطاء، وماذا جرى؟.
قد يسأل سائلٌ: أنت ترحب بهم إلى أين؟. إلى الكهف!! وهل فيه متسعٌ للمستمعين؟.
إنه سؤالٌ قد يقال، ولكن الحق: لقد كان الكهف الصغير الضيق الأرجاء، قد كان مع الرحمة المنشورة على الفتيان أوسع من الأرض والسماء.
وهذا هو ما سأله الفتية وهم يأوون إليه، لقد أعلنوا أن ربهم هو المقصود والمعتمد عليه أبدا؛
(..فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)) [سورة الكهف].
نعم إن الله هو الملجأ الحق، وهو المأوى الأوسع الذي فيه الآمال تتحقق، ومن لدنه الرحمة الواسعة تفتح لهم كالغيث المنهمر، والرشد معها مهيأ لهم ويهديهم إلى الأمر الذي يسعدهم ويسر، فهل بعد الرحمة الربانية والرشد الرحماني، من مطلبٍ أو مطمحٍ إنساني؟.
إنها خيرٌ من متاع الدنيا القليل، ومن غرور الزينة الوبيل، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)) [سورة يونس].
وهذا هو مطلب أولي الألباب، وهو مطمح النابهين من الشباب، وإنه للهدف الذي يستحق التنافس عليه، وهو المآل الذي يجب السعي إليه، وإن أصحاب الكهف قد اختاروا الهدف الأسمى الذي لا يُعلى عليه، وعلى أي حالٍ فلقد يلوح للناس هنا سؤالٌ وهو: لقد عرفنا في الحلقة الماضية أن الكهف بأصحابه أصبح معروفاً معهوداً لا يُنكر، وإذن فأين هو موقع الكهف؟ وأين يوجد؟.
لكن الجواب على هذا السؤال هو: ليس المهم معرفة الكهف، ولا تحديد موقعه والمكان، بل المهم هو العبرة مما جرى لأصحابه الفتيان، وهذا هو الموقع الهام الذي يجب أن نبحث عنه ونفهم ما يعنيه، إن الإنسان هو المهم الذي يجب أن نتتبع مواقفه ومسالكه، لنعرف العاقل كيف صلته بربه، وكيف استطاع أن يطمئن بذكر الله قلبه، ولنعرف الغافل عن ربه كيف ضاع وكيف كانت عيشته ضنكاً رغم كثرة المتاع، هذه هي العبرة التي يجب أن نعرف، وهذا هو ما يتوخاه قصص القرآن، إنه العبرة والعظة للإنسان، ولقد كان في قصص الأنبياء والصالحين أمثلة تسموا بالناس إلى السعادة والأمان، ولقد قال الله:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)) [سورة يوسف].
وهكذا فإن قصة أصحاب الكهف الفتيان، فيها عبرةٌ للشباب في كل زمانٍ ومكان، لقد تفتحت أذهانهم على معرفة الله، ونمت عقولهم في ظل هدى الله، ولقد تاقت نفوسهم إلى تقى الله، وبهذا نعرف أيها الشباب أنهم استغلوا شبابهم في طريق الصواب، وهذا يعني أن موسم الشباب هو الموسم الحقيقي للمعرفة والإيمان، وهو الموعد الحق للتوجه إلى الله بإحسان، وهو الفرصة الأولى المتاحة لإخلاص الدين للرحمن.
إن مرحلة الفتوة قوةٌ يجب أن تتوجه إلى ما يفيد، وهي العطاء الذي يجب أن يطمح إلى كل علمٍ أصيلٍ جديد، وذلك العلم هو معرفة الله الغني الحميد، ذي العرش المجيد، والتوجه إليه على جناح الإسلام والتوحيد، والاستجابة له على سبيل الإيمان الرشيد، إن هذا هو العلم الذي يعلو على كل علم، بل هو أساس كل علم، فمن عرف ربه حق معرفته، فقد وقف على المنبع الحق لرحمته وحكمته، وقد ارتقى على معراج قربه ومحبته، فيا له من مقامٍ يليق بالشباب الطموح، وإنه لكم جميعاً يا شباب متاحٌ مفتوح، فاستبقوا إليه وتنافسوا بروحٍ سموح.
وبعدُ فلننظر ماذا نال الفتيان من ربهم المجيد، وقد سألوه من لدنه رحمةً ورشدا، إن الآيات تخبرنا أن ربهم استجاب لهم في الحال، وان عطاءه منهمراً عقب السؤال، ولهذا جاء حرف الفاء لعطف ما أعطاهم الله، وقال:
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11)) [سورة الكهف].
إن رحمة الله انهالت عليهم، وعزلتهم عما حولهم، كيف عزلتهم؟. بأن ضرب الله على آذانهم فلم يسمعوا شيئاً ولم يتسرب إليهم صوت فكانوا بذلك في مأمنٍ من مشاغل الدنيا والمتاع، وفي معزلٍ عن هموم الناس ، وهكذا استمروا سنين معدودة، لا يعرفون ما حولهم من أحداث، بل هم برحمة الله في حالةٍ آمنةٍ سعيدة، وفي سبيلٍ صالحةٍ رشيدة، وكيف لا وهم معزولون عن الفتنة، منزهون عن شهوات الدنيا التي تردي وتغر الغافلين، محفوفون برحمة الله التي يفرح بها المهتدون، متظللون بفضله الذي يفضله المؤمنون، وهذا هو المطمع الذي يراد، وهذا هو المطمح الذي يتوق إليه أهل الرشاد، ثم فهل استمر حالهم في الكهف أبداً؟. كلا كلا؛ بل لقد بعثهم الله بعد سنين طابت مرقدا. ولكن هل أحصاها من الناس أحد؟. لم يحصها أحدٌ، ولم يعلم بها أحد، ولم يكن العلم بهم وبحالهم وبسنين لبثهم، إلا لله الواحد الأحد، فهو الذي يحصي كل شيءٍ عددا، وهو وحده أحصى لما لبثوا أمدا.
ولقد اختصر قصتهم أولاً بأسلوبٍ معجز، وأجملها إجمالاً موجز؛ ثم بعد الإجمال أتانا بالتفصيل، وبعد الإيجاز سيلوح التكميل، ليؤكد لنا الله أنهم فتيةٌ يستحقون الاهتمام، وأن نبأهم فيه النور التام، فلا بد من إيضاحه بعد الإبهام، ليستقر ويثبت في الأفهام، إنه هدىً لكل الناس في كل زمان، وإنه لدعوةٌ للشابات والشبان؛ ليكونوا مثل هؤلاء الفتية، الذين رفضوا الشرك والفتنة، وأعلنوا كلمة التوحيد تدك غباء الطغيان، وتحطم ظنون البهتان، وترفع رايات الحق والبرهان، وتؤكد أن رب الناس الحق هو الرحمن.
بهذا استمسكوا، وعليه استقاموا.. ولكن هل أعلنوا هذا اليقين منفردين، أم بلغوه إلى الناس موقنين؟
للموضوع بقية .....
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام منه على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وعلى الأنبياء والمرسلين من قبله، وبعد:
واليوم ندعوكم إلى رحلةٍ جديدة، مع مجموعة من الفتيان لهم نقوشٌ رشيدة، فمن هؤلاء الفتيان الذين لهم هذا الوصف، وعليهم سنتعرف؟ إنهم لمن تأمل لن يكونوا سوى أصحاب الكهف.
إن هؤلاء الفتية كان لهم في كتاب الله ذكرٌ جميل، وكان لهم في رحمة الله ظلٌ ظليل، لقد عُرفوا بأنهم أخلصوا لله حباً، وكان الدين المخلص لهم نسباً، فهم معروفون لكل الناس مع أنهم في الكهف محتجبون، وأصبحوا مدار أحاديث الناس مع أنهم عنهم معتزلون، فيا للعجب من هؤلاء الذين تلاحقهم الشهرة وهم فيها زاهدون!! حتى لقد أصبح كهفهم النكرة المجهول، معرفةً معهوداً لكل الألسنة والعقول، ولي على ذلك أقوى دليل؛
ها هو الله سبحانه يعرف كهفهم بالألف واللام، وكأنه عَلَمٌ من الأعلام، وموقعٌ معهودٌ في ذهن كل الأنام، فالله يسميهم عند ذكره لهم أصحاب الكهف، إن الألف واللام لا تدخل إلا على معهودٍ معروف، فيقول مثلاً: القمر أو الشمس أوالكتاب أو القرآن أو النبي، أو غير ذلك من الأعلام التي لا تُنكَر ولا تُجهَل، وهي معهودةٌ لكل من يفهم ويعقل، وقد يكون العهد كما يقال ذكرياً بأن يُذكر الاسم أولاً بلا تعريف، ثم إذا عهد وعرف صح إدخال الألف واللام عليه، وقد يكون العهد ذهنياً، وهنا تدخل الألف واللام عليه بلا ذكرٍ سابق، بل اعتماداً على شهرته التي هو بها في الأذهان لاصق.
وهكذا أصبح الكهف من خلال شهرة أصحابه مشهوراً معروفاً لكل الناس، معهوداً في الأذهان بلا التباس، ولهذا عرفه الله من بداية الكلام، وكأنه جبلٌ شامخً أو نجمٌ ساطع، أو مَعْلمٌ حضاريٌّ وإنسانيٌّ شائع، بل أصحابه أصبحوا به يُعرفون، وإليه يُنسبون، وإليه يُضافون، فسبحان الذي يكسوا النكرات بالشهرة، ويُحول المجهلوات إلى معارف ظاهرة.
وهنا نسأل: لماذا نال هذا الكهف هذا المقام؟. ونال أصحابه هذا الاهتمام؟. هل تدرون ما هو السر؟.
إن السر أن هؤلاء الفتيان كانوا عباد الرحمن، وهو الرب الذي لا يخفى على العقول والأذهان، وهو المعرفة الكبرى، والحقيقة العظمى، التي بها تُعرف المعارف والحقائق جمعاء، فمن انتسب إليه فقد نال البقاء والخلود، ومن انحاز إليه فقد حاز الفوز والفلاح السديد، ومن اعتمد عليه فقد اعتمد على الحي القيوم الواجب الثبات والوجود، والذي به يقوم كل موجود، وكيف لا وهو الله ذو العرش المجيد، القوي الشديد، الغني الحميد، الفعال لما يريد، بل وهو الغفور الودود، فكيف يُجهل من انتسب إليه؟! أو كيف يُفقد وهو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد؟!
بهذا الإله العظيم، اشتهر أصحاب الكهف والرقيم، وكانوا من آيات ربهم ولهم عنده مقامٌ كريم، ومع ذلك فإن الله يقول عنهم:
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا(9)) [سورة الكهف] ؟!.
يعني هل تظنون أيها الناس أنهم من الآيات التي تُعَظَّم؟.
كلا؛ فهم آيةٌ صغيرةٌ من آيات الله الأعظم، ولكن مقامهم عنده مكرم، لأنهم انحازوا إليه بإيمانٍ لا يُهزم، ويقينٍ لا يلين ولا يُفصم، فكانوا آيةً من آياته التي تثير الخيال، وتدعوا إلى الاختلاف في الأقوال، فالناس يتحدثون عنهم بلا علمٍ يقين، ويقولون عنهم رجماً بالغيب الذي لا يُبين. ولكن الله رب العالمين يعلم عنهم العلم الحق، ويقص علينا عنهم النبأ الأصدق؛ قد تسألون أيها الشباب عن شأنهم، وقد يقول أحدكم:
لماذا يقص علينا الله نبأهم؟. ولماذا يستحقون هذا الاهتمام من ربهم؟.
إن الجواب هو أنهم عبرةٌ لأولي الألباب؛ لأنهم صالحون مؤمنون مسلمون، والإسلام هو المعراج إلى المعرفة بالله وهو السبيل إلى العلم والحق المبين، ومن عرف الله حق معرفته؛ فقد فاز بمحبته، ومن قدر الله حق قدره، فقد اقترب من رحمته، ومن أيقن بالعلم الذي يأتيه من الله، فقد ارتقى إلى مقام المنعم عليهم بنعمته، وهم الأنبياء والمرسلون، ومعهم من اهتدى بهدى الله وللمرسلين متبعون، وهؤلاء الفتية كانوا من هؤلاء الذين اتبعوا المرسلين، واستقاموا على ملتهم ثابتين، وكيف لا وها هم قد تركوا الدنيا والمتاع الفاني، وانحازوا إلى الله الباقي، وزهدوا في زينة الدنيا الغرورة، وطمعوا في رحمة الله المنشورة، ولنسمع ما يقول الله عنهم:
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ..).
لقد كان الكهف البعيد النائي عن الدنيا ومتاعها وعن الأهل والديار، هو المأوى لهم وهو مقام الاستقرار، ولكن ليس هو المعتمد المكين الذي عليه يُعتَمد، بل الله هو الذي يرجى ويقصد، ورحمته هي المطلب وبها يكون الرشد، ولهذا أطلقوا عند التوجه إلى كهفهم، كلمات الاعتصام بربهم؛
(..فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)) [سورة الكهف].
فالله قريبٌ منهم ينادونه بلا حرف نداء، ويسألونه ما هو أغلى وأسمى من الدنيا، وهو الرحمة من لدنه لا سوى، ثم يرجونه أن يهيئ لهم الشيء الأهم، وهو الرشد في أمرهم، إنه الله ربهم المأوى والملجأ لا الكهف، وإنه المقصود والمنشود والهدف، فماذا نالوه من ربهم من عطاء، وماذا جرى؟.
قد يسأل سائلٌ: أنت ترحب بهم إلى أين؟. إلى الكهف!! وهل فيه متسعٌ للمستمعين؟.
إنه سؤالٌ قد يقال، ولكن الحق: لقد كان الكهف الصغير الضيق الأرجاء، قد كان مع الرحمة المنشورة على الفتيان أوسع من الأرض والسماء.
وهذا هو ما سأله الفتية وهم يأوون إليه، لقد أعلنوا أن ربهم هو المقصود والمعتمد عليه أبدا؛
(..فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)) [سورة الكهف].
نعم إن الله هو الملجأ الحق، وهو المأوى الأوسع الذي فيه الآمال تتحقق، ومن لدنه الرحمة الواسعة تفتح لهم كالغيث المنهمر، والرشد معها مهيأ لهم ويهديهم إلى الأمر الذي يسعدهم ويسر، فهل بعد الرحمة الربانية والرشد الرحماني، من مطلبٍ أو مطمحٍ إنساني؟.
إنها خيرٌ من متاع الدنيا القليل، ومن غرور الزينة الوبيل، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)) [سورة يونس].
وهذا هو مطلب أولي الألباب، وهو مطمح النابهين من الشباب، وإنه للهدف الذي يستحق التنافس عليه، وهو المآل الذي يجب السعي إليه، وإن أصحاب الكهف قد اختاروا الهدف الأسمى الذي لا يُعلى عليه، وعلى أي حالٍ فلقد يلوح للناس هنا سؤالٌ وهو: لقد عرفنا في الحلقة الماضية أن الكهف بأصحابه أصبح معروفاً معهوداً لا يُنكر، وإذن فأين هو موقع الكهف؟ وأين يوجد؟.
لكن الجواب على هذا السؤال هو: ليس المهم معرفة الكهف، ولا تحديد موقعه والمكان، بل المهم هو العبرة مما جرى لأصحابه الفتيان، وهذا هو الموقع الهام الذي يجب أن نبحث عنه ونفهم ما يعنيه، إن الإنسان هو المهم الذي يجب أن نتتبع مواقفه ومسالكه، لنعرف العاقل كيف صلته بربه، وكيف استطاع أن يطمئن بذكر الله قلبه، ولنعرف الغافل عن ربه كيف ضاع وكيف كانت عيشته ضنكاً رغم كثرة المتاع، هذه هي العبرة التي يجب أن نعرف، وهذا هو ما يتوخاه قصص القرآن، إنه العبرة والعظة للإنسان، ولقد كان في قصص الأنبياء والصالحين أمثلة تسموا بالناس إلى السعادة والأمان، ولقد قال الله:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)) [سورة يوسف].
وهكذا فإن قصة أصحاب الكهف الفتيان، فيها عبرةٌ للشباب في كل زمانٍ ومكان، لقد تفتحت أذهانهم على معرفة الله، ونمت عقولهم في ظل هدى الله، ولقد تاقت نفوسهم إلى تقى الله، وبهذا نعرف أيها الشباب أنهم استغلوا شبابهم في طريق الصواب، وهذا يعني أن موسم الشباب هو الموسم الحقيقي للمعرفة والإيمان، وهو الموعد الحق للتوجه إلى الله بإحسان، وهو الفرصة الأولى المتاحة لإخلاص الدين للرحمن.
إن مرحلة الفتوة قوةٌ يجب أن تتوجه إلى ما يفيد، وهي العطاء الذي يجب أن يطمح إلى كل علمٍ أصيلٍ جديد، وذلك العلم هو معرفة الله الغني الحميد، ذي العرش المجيد، والتوجه إليه على جناح الإسلام والتوحيد، والاستجابة له على سبيل الإيمان الرشيد، إن هذا هو العلم الذي يعلو على كل علم، بل هو أساس كل علم، فمن عرف ربه حق معرفته، فقد وقف على المنبع الحق لرحمته وحكمته، وقد ارتقى على معراج قربه ومحبته، فيا له من مقامٍ يليق بالشباب الطموح، وإنه لكم جميعاً يا شباب متاحٌ مفتوح، فاستبقوا إليه وتنافسوا بروحٍ سموح.
وبعدُ فلننظر ماذا نال الفتيان من ربهم المجيد، وقد سألوه من لدنه رحمةً ورشدا، إن الآيات تخبرنا أن ربهم استجاب لهم في الحال، وان عطاءه منهمراً عقب السؤال، ولهذا جاء حرف الفاء لعطف ما أعطاهم الله، وقال:
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11)) [سورة الكهف].
إن رحمة الله انهالت عليهم، وعزلتهم عما حولهم، كيف عزلتهم؟. بأن ضرب الله على آذانهم فلم يسمعوا شيئاً ولم يتسرب إليهم صوت فكانوا بذلك في مأمنٍ من مشاغل الدنيا والمتاع، وفي معزلٍ عن هموم الناس ، وهكذا استمروا سنين معدودة، لا يعرفون ما حولهم من أحداث، بل هم برحمة الله في حالةٍ آمنةٍ سعيدة، وفي سبيلٍ صالحةٍ رشيدة، وكيف لا وهم معزولون عن الفتنة، منزهون عن شهوات الدنيا التي تردي وتغر الغافلين، محفوفون برحمة الله التي يفرح بها المهتدون، متظللون بفضله الذي يفضله المؤمنون، وهذا هو المطمع الذي يراد، وهذا هو المطمح الذي يتوق إليه أهل الرشاد، ثم فهل استمر حالهم في الكهف أبداً؟. كلا كلا؛ بل لقد بعثهم الله بعد سنين طابت مرقدا. ولكن هل أحصاها من الناس أحد؟. لم يحصها أحدٌ، ولم يعلم بها أحد، ولم يكن العلم بهم وبحالهم وبسنين لبثهم، إلا لله الواحد الأحد، فهو الذي يحصي كل شيءٍ عددا، وهو وحده أحصى لما لبثوا أمدا.
ولقد اختصر قصتهم أولاً بأسلوبٍ معجز، وأجملها إجمالاً موجز؛ ثم بعد الإجمال أتانا بالتفصيل، وبعد الإيجاز سيلوح التكميل، ليؤكد لنا الله أنهم فتيةٌ يستحقون الاهتمام، وأن نبأهم فيه النور التام، فلا بد من إيضاحه بعد الإبهام، ليستقر ويثبت في الأفهام، إنه هدىً لكل الناس في كل زمان، وإنه لدعوةٌ للشابات والشبان؛ ليكونوا مثل هؤلاء الفتية، الذين رفضوا الشرك والفتنة، وأعلنوا كلمة التوحيد تدك غباء الطغيان، وتحطم ظنون البهتان، وترفع رايات الحق والبرهان، وتؤكد أن رب الناس الحق هو الرحمن.
بهذا استمسكوا، وعليه استقاموا.. ولكن هل أعلنوا هذا اليقين منفردين، أم بلغوه إلى الناس موقنين؟
للموضوع بقية .....