العلمانيون.. وسخرية لا تضر إلا أصحابها
-------------------------------
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
فلقد اقتضت حكمة الله -عز وجل- أن مَن ترك ما ينفعه وهو قادر على الانتفاع به ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك الحق ابتلي بالباطل، ومن ترك عبادة الله -عز وجل- ابتلي بعبادة غيره، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه -عز وجل- ابتلي بالذل للعبيد.
وعلمانيو هذا العصر وزنادقته وملاحدته -وخصوصًا بعض الكتاب والمفكرين، ومن يسمون أنفسهم بالمبدعين!- لما تركوا الاشتغال بما ينفعهم، ابتلاهم الله -عز وجل- بالاشتغال بما يضرهم.
والمسلم من حيث كونه مسلمًا يشهد "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" يجب عليه أن ينشغل بتحقيق معنى هذه الكلمة ولا يكتفي بترديدها باللسان فقط، بل عليه أن يؤمن بها بقلبه، ويتيقن أنه لا معبود بحق إلا الله -تعالى-، وتقوم جوارحه بالعمل لتحقيق ذلك واقعًا ملموسًا عمليًا يصرف من خلاله جميع العبادات ظاهرها وباطنها لله -عز وجل- وحده، متبعًا في ذلك منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرعته، داعيًا الناس مِن حوله إلى تحقيق ذلك، آمرًا بالمعروف بكل صوره، ناهيًا عن المنكر بكل أشكاله، صالحًا في نفسه، مُصلحًا للخلق من حوله مهما كان موقعه، مؤمنًا إيمانًا لا شك فيه ولا تردد أن هذه هي الغاية التي خلقه الله -عز وجل- من أجلها، وأن هذا هو الطريق لتحقيق سعادته في الدنيا والآخرة؛ قال عزَّ من قائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، وقال أيضًا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110).
واقع زنادقة العصر وملاحدته
فاسدون مفسدون:
لقد ترك بعض هؤلاء القوم تلك الغاية التي حددها لهم خالقهم، واكتفوا من الإسلام بحظ قليل لا يتجاوز مجرد التسمي بأسماء المسلمين، وانشغلوا بالانغماس في الباطل والدعوة إليه، وبذل الجهد وإفناء العمر في الفساد والإفساد في الأرض بشتى الصور، وسخَّروا أقلامهم ومنابرهم التي تسلطوا عليها في الدعوة والترويج للفجور والعري والإباحية والإلحاد، ونشر ذلك في كل مكان، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن مصيبتهم الكبرى أنهم يعتقدون أنهم مصلحون، فجمعوا على أنفسهم مصيبتين:
الأولى: أنهم مفسدون.
والثانية: ادعاؤهم أنهم مصلحون.
فكانوا كمنافقي الأمس الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12).
كراهيتهم الشنيعة للعلماء والصالحين:
- فهم ينتهزون كل فرصة في سب العلماء والدعاة والصالحين من أهل السنة والجماعة، ويسخرون منهم، ويَتخذ هذا السب وهذه السخرية أشكالاً متعددة.. منها:
- اتهامهم بأنهم يدعون الناس إلى الرجوع إلى عهود الظلام..!
وهذه من أبشع التهم -وإلى الله المشتكى-؛ حيث يصفون عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام والتابعين وتابعيهم بإحسان بأنها عهود ظلام، وهذا -والله- نفاق ما بعده نفاق، وزندقة ما بعدها زندقة، وقلب للحقائق مقيت حيث يصفون النور بالظلام، قال الله -عز وجل-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (المائدة:16)، وقال أيضًا: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).
وهذه التهمة في الحقيقة لن تجدي ولن تنفع ولن تُغير من الحقيقة شيئًا، ولن ينطفئ هذا النور أبدًا، ولقد حاول أسلافهم نفس المحاولة، ولكنها باءت بالفشل، قال الله -عز وجل-: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).
ويا للعجب حين يصفون أنفسهم بأنهم دعاة التنوير!
والمرء يتساءل: من هم أصحاب التنوير؟
الذين يُعبِّدون الدنيا بدين الله، ويدعون الناس إلى الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واتباع سلف الأمة الذين مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض، والذين زكاهم الله -عز وجل- بقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا) (البقرة:137)، أم هم الذين يدعون الناس إلى الانسلاخ من هذا الدين، واعتناق مذاهب فكرية إلحادية مرة يستوردونها من المشرق، ومرة أخرى يستوردونها من المغرب، وفي كل مرة يخرجون على الناس بأنه لا صلاح لهم إلا باعتناق هذا المذهب، ثم سرعان ما ينقلبون إلى النقيض؟!
يا للعجب.. !
يتساءل المرء: من هم الدعاة إلى التنوير؟
الذين يدعون الناس إلى التحلي بمكارم الأخلاق، والتخلص عن رذائلها، والبعد عن اللهو والعبث، والاشتغال بما تنصلح به الدنيا والدين، أم أولئك الذين يدعون إلى الخلاعة والفساد، وإلى الرقص والمجون والإباحية، وينفقون الأموال الطائلة في الترويج لذلك؟! وماذا حصدوا وحصد الناس معهم من تنويرهم المزعوم؟!
- ومن أشكال السب والسخرية أيضًا: اتهامهم لأهل السنة والجماعة من العلماء والدعاة بالمتاجرة في الدين!
وهي في الحقيقة تهمة لا ينكرها هؤلاء الصالحون، وشرف لا يدعونه، ولكن ليس على نية أهل الباطل؛ فأهل السنة والجماعة في جميع العصور وإلى أن تقوم الساعة قد عقدوا صفقتهم الرابحة مع الله -عز وجل- لما قال: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ولما قسَّم الله الناس كما جاء في سورة البقرة قال عن قسمٍ منهم رائعٍ بحق: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207).
هذه هي تجارة العلماء والدعاة الرابحة، بل هي قضيتهم؛ يعبِّدون الخلق لله، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، وإلى اتباع كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عالمين معتقدين أن في ذلك العصمة من الضلال، والنجاة في الدنيا والآخرة، ويبذلون في ذلك كل غال مهما كانت التبعات، قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).
هذه هي تجارة العلماء والدعاة من أهل السنة والجماعة، والتي يطلقون عليها التجارة بالدين، والسؤال: فما هي تجارتكم إذن؟ والإجابة قد جاءت بين السطور التي تقدمت بما يغني عن التكرار: بضاعة عفنة يؤذون بها الناس ويقودونهم بها إلى النار -والعياذ بالله- يبيعون فيها دينهم بدنياهم، وصدق الله القائل: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) (النساء:77).
- ومن أشكال السب والسخرية أيضًا السخرية من لباس العلماء والدعاة من أهل السنة والجماعة:
وهذا يدل على أنهم قمم في الجهل والجهالة، ونقصد بالجهالة السخرية من الناس والاستهزاء بهم، فهذه ليست أبدًا من شيم الكرام، بل إنها خصلة من خصال اليهود، كما قال الله -عز وجل- عنهم لما أمرهم موسى -عليه السلام- أن يذبحوا بقرة امتثالاً لأمر الله: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة:67)، فليس الاستهزاء بالناس من أخلاق الصالحين.
والحقيقة أن القضية واحدة في الماضي والحاضر، وأن هذه السخرية أراحت أفئدة ذوي الألباب أصحاب العقول والبصائر، لأنها وفرت عليهم عناء البحث عن تطبيق لهذه الآية في واقعنا المعاصر، قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) (المطففين:29-33).
ونحن ندعو هؤلاء القوم إلى العودة إلى دين الله، وإلى توبة نصوح مستصحبة بالعمل من أجل نشر قيم الإسلام العظيمة في بلاد المسلمين فيما تبقى من أعمارهم عوضًا عما فاتهم، وذلك قبل فوات الأوان، وقبل أن تتبدل المواقف فيصير الساخر الضاحك على الناس في الدنيا مسخورًا منه مضحوكًا عليه، ويصير المسخور منه المضحوك عليه في الدنيا ساخرًا ضاحكًا، وذلك في عرصات القيامة حين يكون الضحك والسخرية أمرًا مشروعًا وعدلاً من رب العزة -تبارك وتعالى-.
والله وحده المستعان.. وعليه التكلان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فضيلة الشيخ/ عليّ حاتم
المصدر: (موقع صوت السلف)