قصة ... لاتنتهى

الموضوع في 'منتدى اللغة العربية' بواسطة Samir Aser, بتاريخ ‏يوليو 17, 2005.

  1. Samir Aser

    Samir Aser New Member

    إنضم إلينا في:
    ‏يوليو 15, 2005
    المشاركات:
    300
    الإعجابات المتلقاة:
    38
    نقاط الجوائز:
    0


    قصة ... لاتنتهى

    سار نحو البيت الكبير ذى الطوابق الأربعة ووقف قليلا يتأمل الحديقة المُتْربة ويملأ رئتيه برائحة التمر حنا ؛ ثم دفع الباب برفق ودخل . تجلس أمه كعادتها فى زاوية من زوايا الصالة الكبيرة ، تمسك بمسبحتها الطويلة ، بجوارها جهاز الراديو العتيق ، تنبعث منه آيات الذكر الحكيم مرتلة بصوت عال . قامت أخته الكبرى روحية تحتضنه بحنان ؛ وتحلّق حوله صبيان وبنات أخواته يرمقونه فى صمت . جلس إلى جوار أمه وربت على كتفها فى رفق ، فتنهدت بعمق .
    - بس بس.... فيه ايه ؟
    - أبوك .
    - تاااااااانى ... تانى يا أمى .
    - من يومين نايم ، لا بياكل ولا بيشرب ولا عايز يتكلم .
    مد يده وأغلق الراديو ؛ فصاحت به أمه :
    - سيب القرآن .
    - طيب طيب... دلوقتى .
    انفتحت أخته الكبرى :
    - آهى كده على طول... عاملة البيت مأتم ؛ ومحرّجه ع العيال ينزلوا هنا ؛ وكل ما الراجل يتكلِّم كلمة ؛ تقول له اسمع القرآن أحسن ... انت إللى هتقوله هتعيده ، احنا حفظنا قصة حياتك صَمْ ... أهو سكت خالص ، علشان تستريحى...
    أسكتها بإشارة من يده ؛ وقام بهدوء ليفتح باب غرفة أبيه عن آخره . ألقى نظرة اشفاق غامضة نحو أبيه الذى نام على جانبه مولياً وجهه نحو الحائط . تقدم بهدوء وجلس على المقعد بجوار الفراش وأخرج علبة سجائره ؛ وتناول منها سيجارة ؛ جعل يديرها بين أصابعه ويبتسم ؛ ثم أشعلها ونفث دخانها فى صمت .
    تنحنح العجوز وسعل وتململ فى فراشه ثم استدار بصعوبة وبطء واعتدل قاعدا :
    - مين ؟
    - أنا يا با .
    - انت جيت يا أحمد... حمدالله على السلامة يابنى .
    - الله يسلمك... خد سيجارة ... مش هتاخد منى سيجارة ؟
    ؛ ومد يده نحو والده بسيجارة ؛ ومد العجوز يده المرتعشة مفرودة الأصابع تبحث عن السيجارة :
    - أمك فين ؟
    - ماتخافش ... خد اشرب .
    يمسك العجوز بالسيجارة ويديرها بين أصابعه ؛ يشعل لأبيه السيجارة ؛ ليأخذ العجوز نفساً عميقاً نافثاً الدخان من منخريه ؛ يسعل ويدمدم :
    - هيه دى سجاير دى... فين البلايرز والبَحّارى بتاع زمان ... يالله ؛ ربنا يقطع سَجَرِتها واللى عملها .
    وتسلل الأطفال إلى داخل الحجرة ، وجلس كل واحد منهما كيفما اتفق .
    - قل لى يابا... انت شربت السجاير وانت عندك كام سنه ؟
    لمعت عينى العجوز :
    - يااااااااااه ... من زمان قوى ... وأنا عندى تمانتاشر سنة ... كانت ببلاش بنستلمها فى الكامب.
    قال أحد الأطفال :
    - فى كامب الطِّيره .
    فرد عليه الآخر :
    - لأ.. فى كامب العزيزية .
    ويتساءل آخر :
    - هوه جدو كان بيشتغل عند الإنجليز ليه ؟
    فيرد عليه آخر :
    - هوه كان فيه شغل إلاّ عندهم ؛ وبعدين همه كانوا بيحاربوا هتلر ، وقالوا لجدو لو
    مااشتغلتش معانا هناخدك أسير لغاية لمّا الحرب تخلص .
    - قل لى يابا ... هيه المسافة بينّا وبين فلسطين كام بالظبط ؟
    أشرق وجه العجوز :
    - كان القطار بيطلع من القنطرة شرق العِشا ، يوصل اللّد الفجر ؛ وبعدين حيفا على الساعة عشرة الصبح .
    قال أحد الأطفال للآخر :
    - جدو اتولد فى حيفا .
    فوكزه الآخر :
    - بس احنا مصريين يا خويا .
    ويسترسل العجوز بلهجة خاصة :
    - أنا كنت فورمان على اليهود فى فلسطين ؛ كنت رَيِّس عليهم ؛ الكابتن الإنجليزى قال لى : ( يو فورمان )، كانت الحرب شغّاله وكُنّا بنعمل اتناشر ألف صفيحة بنزين فى اليوم علشان الطيارات والدبابات ؛ الصّاج يُخُش على السير أبو بَكَرات من هنا ، يطلع فى الآخر صفيحة مدهونة مليانه بنزين ؛ وكل واحد له شُغله ؛ وأنا واقف لهم زى الصقر ( بانشر شوب .... بانشر ) ؛ اليهود ولاد الكلب يقولولى : يامصرى فََوِّت الصفيحة المخرومة ؛ احنا بنشتغل بالألف .
    يصمت العجوز قليلا ثم يسترسل بلهجه فلسطينيه :
    - قرّب يازَلَمييييييى ... قرب يا زلميييييى ؛ عشرة بِقِرييييش.. خمستاااشر بقرييييش .. عشرييين بقِرِييييشْ .
    - أيوه البرتقان كان بِبَلاش... قل لى يابا انت بتحلق دقنك ازّاى من غير مراية .
    رفع العجوز يده :
    - هات... هات الموس وأنا أوريك .
    يضع أحمد طرف الملاءة على صدر العجوز ، ويمسك العجوز بالموسى ذى الشفرة الواحدة بأصابعه الطويلة النحيلة ؛ وبطريقة خاصة محترفة يتحسس ذقنه بأنامل يده الخالية وببراعة يقوم بإزالة لحيته النابتة رويداً رويداً ؛ وقد تعلقت به عيون الصغار تراقبه فى اهتمام .
    - الله.... ايه الحلاوة دى ياعم الشباب... أيوه كده .
    - كان الزَّمُور بتاع الغارة لما يضرب.. الكلاب تهوهو ، والقطط تنونو ، والعيال تعيط .. كنت بشوف الطيارين جوه الطيّارات ؛ وأنا على جبل الكَرْمِل ؛
    ويقاطعه صغير :
    - ماش دا ياجدو الجبل إللى ضربت فيه اليهود .
    ويقهقه العجوز ضاحكا :
    - أنا كنت صُغَّير ؛ وطلعت وادى العشاق فوق.... ياسلااااااااام ... تبقى قاعد وتزيح بإيدك فروع الشجر علشان تِكَلِّم إللى جنبك .
    - ضربتهم ازّاى يا جدو.... ضربتهم ازّاى .
    وينظر العجوز فى اتجاه أحمد :
    - كنت جاهل وقعدت مع أصحابى نشرب.... الدنيا لفِّت بيه ياواد ياأحمد.. اليهود ولاد الكلب كل واحد ماسك واحده وواخد راحته ع الآخر ؛ دمّى فار ؛ قمت قايم شادد فرع شجرة لبلوب وطِحْت فيهم ضرب ؛ إللى ياخد خبطه يقوم يجرى زى الفُرِِّيرَه وهو بيصرخ : ايييمااااااا ؛ ايييمااااااا ....المصرى سِكِر... المصرى سِكِر .
    وابتسم أحمد فى مكر :
    - كان لك أصحاب فلسطينيين يابا .
    - ياسلااااام ... يوسف ....دا كان ولد .... مره أنا ويوسف ومحمد الصعيدى وابن خالى سُهيل رحنا نتفرج على فيلم لص بغداد فى سينما أمفتياتر ...
    - لأ ياجدو فى سينما آرمون...
    - آى والله صحيح فى سينما آرمون ؛ ويومها اتخانقنا واحنا طالعين م السِيما مع اليهود... جُبَنه ولاد كلب ... كنا فى حَيِّهم ؛ والواد محمد الصعيدى قال لنا : واد انت وهوه كل واحد يحط ضهره فى ضهر أخوه ؛ إللى أشوفه جاى عليّه أتعزم وأقوله ( باكاشا أدون ) واديلو يالبُنيه فى وشه... ورقعناهم حتة علقة... وهربنا منهم .
    - تعرفوا ياولاد جَدّكم كان بطل وكان فتوه ؛ مره اتراهن انه يمشى على ايديه على بلاج حيفا ؛ وجابه من أوله لآخره .
    لمعت عينى العجوز وتألقت حدقتاه وقام مترنحاً ؛ ووقف أمام الصغار يفرد ساعديه جانبا ويضغط بهما للخلف ؛ ثم يركع يلمس بهما الأرض ويعود يرفعهما لأعلى ؛ واختل توازنه لبرهه ؛ فبادر أحمد ومد يده ليعاونه فدفع يده :
    - عيب... عيب ياأحمد... أبوك لسه شديد .
    ؛ ثم رفع صوته وهو يتوجه خارج غرفته :
    - ياوليّه.... يا أم أحمد... مافيش لُقمه حلوه كِده .
    فردت بلهجة متبرمة :
    - لمّا تِستَحمّى الأول ؛ وتغير هدومك .
    فالتفت ناحية ابنه :
    - شايف... شايف ؟ ! .
    ثم بلهجة طفولية آمره :
    - طب هاتيلى غيار نضيف وجلابيه .
    ومضى من فوره نحو الحمّام . وشرعت روحية فى تغيير ملاءات السرير :
    - ربنا يخليك لينا ياخويا ومايحرمناش من طَلّتك علينا ...بينى وبينك هُمّه الاتنين أصعب من بعض.... ماانت عارف .
    - أمك غلبانه ياروحية... كبرت هيه الأخرى... ماعادش عندها مرارة .
    وخرج من الغرفة يتبعه الصغار ؛ يتأمل أمّه وهى تعد الطعام للعجوز :
    - ازيك يا أم أحمد .
    - الحمد لله يابنى .... أبوك صعب قوى ... مابيبطلش طلبات ؛ شاى ، قهوة ، سجاير ؛ وأنا مابطقش ريحتها .
    - معلش استحمليه .
    وينتهى العجوز ؛ ويخرج فرحاً مستبشراً :
    - مين يعادينا نفنيه ؛ فى أراضينا هاأو ... أو ... أو .
    وتزوم الأم :
    - بلاش هيصه ؛ الأكل أَهُه .
    - يابااااااى عليكى .
    ويتحلق الصغار حول العجوز ؛
    - الكابتن الانجليزى قاللى : يو فورمان.......
    ويمضى العجوز مسترسلا فى قصة دائرية لا نهاية لها ؛ ولاتنتهى أسئلة الصغار وتعليقاتهم وضحكاتهم ، وقهقهات العجوز المُرْهَقَة ؛ وبينما ظهرت الراحة على وجه أحمد وروحية ؛ يبدو التبرم والملل على وجه الأم زامة شفتيها تُنحِيها جانبا من آن لآخر فى استياء واضح .
    - طيب ... أنا هاتِّكل على الله .
    - ماهو بدرى يابنى .
    - معلش عندى شغل كتير مستنينى .
    ويقبّل رأس العجوز ؛ وينحنى ليُقبّل يد أمه هامساً :
    - اتوصّى بأبويا .... استحملى شويه .
    - أنا صابرة طول عمرى .
    تحتضنه أخته مُقبّلة وجنتيه بقبلات رنّانة .
    - سلامو عليكو .
    ويمضى نحو الباب ؛ وقبل أن يخطو خطوات قليله مبتعداً ؛ يترامى إلى أذنيه صوت أمه الصارم :
    - يالله يا واد انت وهُوَّه كل واحد يروّح ؛ قوموا ذاكروا بقه ؛ مانتوا عارفين الحكايات دى ؛ ولاّ هِيَّه تسالى ؛ يالله ياروحية ؛ خُدى عيالك واطلعى فوق زمان جوزك جاى .
    ويرتفع عاليا صوت الشيخ / محمد رفعت الملائكى مرتلا أيات الذكر الحكيم
    يبتسم ؛ ويتناول سيجارة ؛ يديرها بين أصابعه ؛ ويشعلها ؛ ثم يمضى فى طريقه .

    سميرعصر

     
    أعجب بهذه المشاركة Samo
  2. jam1966

    jam1966 مشرف عام سابق

    إنضم إلينا في:
    ‏نوفمبر 3, 2004
    المشاركات:
    3,734
    الإعجابات المتلقاة:
    3,802
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    بلاد العرب اوطاني
    اخي العزيز Sammora
    اشكر لك ابداعاتك التواصلة
    واتمنى لك مسقبلا مشرقا
    تحياتي لك
     
  3. Samir Aser

    Samir Aser New Member

    إنضم إلينا في:
    ‏يوليو 15, 2005
    المشاركات:
    300
    الإعجابات المتلقاة:
    38
    نقاط الجوائز:
    0
    شكراً أخى جام ؛ ربنا ينفع بك أمة المسلمين .
     
  4. بنت النور

    بنت النور مشرفة سابقة

    إنضم إلينا في:
    ‏مارس 9, 2005
    المشاركات:
    814
    الإعجابات المتلقاة:
    223
    نقاط الجوائز:
    0
    احسنت!! اسلوب قصصي موفق!!

    بصراحة تستحق ان يكون لك قسم خاص بقصصك يضم ابداعاتك و تستحق عن جدارة لقب ( قاص منتديات كتاب العرب )....

    واتمنى ان تكون قصصك القادمة في مستوى اعلى من الحالية...


    مع تمنياتي لك بالتوفيق ..........
     
  5. Samir Aser

    Samir Aser New Member

    إنضم إلينا في:
    ‏يوليو 15, 2005
    المشاركات:
    300
    الإعجابات المتلقاة:
    38
    نقاط الجوائز:
    0
    أشكرك أختى الغالية / بنت النور .
     
  6. e.jamil

    e.jamil New Member

    إنضم إلينا في:
    ‏نوفمبر 23, 2006
    المشاركات:
    259
    الإعجابات المتلقاة:
    107
    نقاط الجوائز:
    0
    مكان الإقامة:
    Jordan - Amman
    مشكور أخي
     
  7. muslima

    muslima مشرفة الهندسة المدنية والمعمارية والمختارات الأدبي إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏يوليو 2, 2007
    المشاركات:
    3,694
    الإعجابات المتلقاة:
    1,505
    نقاط الجوائز:
    128
    الوظيفة:
    مهندسة مدني
    مكان الإقامة:
    Gaza -Palestine
    أحسنت أخي الكريم​
     
  8. flowers

    flowers مشرف قسم العلاج الطبيعي

    إنضم إلينا في:
    ‏سبتمبر 3, 2006
    المشاركات:
    8,280
    الإعجابات المتلقاة:
    3,967
    نقاط الجوائز:
    128
    الوظيفة:
    طبيب
    مكان الإقامة:
    فلسطين الحبيبة
    الله يعطيك العافية
    ولا يحرمنا من موضوعاتك الجميلة
     
  9. mol-14

    mol-14 Well-Known Member

    إنضم إلينا في:
    ‏فبراير 2, 2007
    المشاركات:
    618
    الإعجابات المتلقاة:
    180
    نقاط الجوائز:
    58
    شكرا اخي على القصة وبارك الله فيك...
     

مشاركة هذه الصفحة