المصدر: قصة ... لاتنتهى في منتدى : منتدى اللغة العربية قصة ... لاتنتهى سار نحو البيت الكبير ذى الطوابق الأربعة ووقف قليلا يتأمل الحديقة المُتْربة ويملأ رئتيه برائحة التمر حنا ؛ ثم دفع الباب برفق ودخل . تجلس أمه كعادتها فى زاوية من زوايا الصالة الكبيرة ، تمسك بمسبحتها الطويلة ، بجوارها جهاز الراديو العتيق ، تنبعث منه آيات الذكر الحكيم مرتلة بصوت عال . قامت أخته الكبرى روحية تحتضنه بحنان ؛ وتحلّق حوله صبيان وبنات أخواته يرمقونه فى صمت . جلس إلى جوار أمه وربت على كتفها فى رفق ، فتنهدت بعمق . - بس بس.... فيه ايه ؟ - أبوك . - تاااااااانى ... تانى يا أمى . - من يومين نايم ، لا بياكل ولا بيشرب ولا عايز يتكلم . مد يده وأغلق الراديو ؛ فصاحت به أمه : - سيب القرآن . - طيب طيب... دلوقتى . انفتحت أخته الكبرى : - آهى كده على طول... عاملة البيت مأتم ؛ ومحرّجه ع العيال ينزلوا هنا ؛ وكل ما الراجل يتكلِّم كلمة ؛ تقول له اسمع القرآن أحسن ... انت إللى هتقوله هتعيده ، احنا حفظنا قصة حياتك صَمْ ... أهو سكت خالص ، علشان تستريحى... أسكتها بإشارة من يده ؛ وقام بهدوء ليفتح باب غرفة أبيه عن آخره . ألقى نظرة اشفاق غامضة نحو أبيه الذى نام على جانبه مولياً وجهه نحو الحائط . تقدم بهدوء وجلس على المقعد بجوار الفراش وأخرج علبة سجائره ؛ وتناول منها سيجارة ؛ جعل يديرها بين أصابعه ويبتسم ؛ ثم أشعلها ونفث دخانها فى صمت . تنحنح العجوز وسعل وتململ فى فراشه ثم استدار بصعوبة وبطء واعتدل قاعدا : - مين ؟ - أنا يا با . - انت جيت يا أحمد... حمدالله على السلامة يابنى . - الله يسلمك... خد سيجارة ... مش هتاخد منى سيجارة ؟ ؛ ومد يده نحو والده بسيجارة ؛ ومد العجوز يده المرتعشة مفرودة الأصابع تبحث عن السيجارة : - أمك فين ؟ - ماتخافش ... خد اشرب . يمسك العجوز بالسيجارة ويديرها بين أصابعه ؛ يشعل لأبيه السيجارة ؛ ليأخذ العجوز نفساً عميقاً نافثاً الدخان من منخريه ؛ يسعل ويدمدم : - هيه دى سجاير دى... فين البلايرز والبَحّارى بتاع زمان ... يالله ؛ ربنا يقطع سَجَرِتها واللى عملها . وتسلل الأطفال إلى داخل الحجرة ، وجلس كل واحد منهما كيفما اتفق . - قل لى يابا... انت شربت السجاير وانت عندك كام سنه ؟ لمعت عينى العجوز : - يااااااااااه ... من زمان قوى ... وأنا عندى تمانتاشر سنة ... كانت ببلاش بنستلمها فى الكامب. قال أحد الأطفال : - فى كامب الطِّيره . فرد عليه الآخر : - لأ.. فى كامب العزيزية . ويتساءل آخر : - هوه جدو كان بيشتغل عند الإنجليز ليه ؟ فيرد عليه آخر : - هوه كان فيه شغل إلاّ عندهم ؛ وبعدين همه كانوا بيحاربوا هتلر ، وقالوا لجدو لو مااشتغلتش معانا هناخدك أسير لغاية لمّا الحرب تخلص . - قل لى يابا ... هيه المسافة بينّا وبين فلسطين كام بالظبط ؟ أشرق وجه العجوز : - كان القطار بيطلع من القنطرة شرق العِشا ، يوصل اللّد الفجر ؛ وبعدين حيفا على الساعة عشرة الصبح . قال أحد الأطفال للآخر : - جدو اتولد فى حيفا . فوكزه الآخر : - بس احنا مصريين يا خويا . ويسترسل العجوز بلهجة خاصة : - أنا كنت فورمان على اليهود فى فلسطين ؛ كنت رَيِّس عليهم ؛ الكابتن الإنجليزى قال لى : ( يو فورمان )، كانت الحرب شغّاله وكُنّا بنعمل اتناشر ألف صفيحة بنزين فى اليوم علشان الطيارات والدبابات ؛ الصّاج يُخُش على السير أبو بَكَرات من هنا ، يطلع فى الآخر صفيحة مدهونة مليانه بنزين ؛ وكل واحد له شُغله ؛ وأنا واقف لهم زى الصقر ( بانشر شوب .... بانشر ) ؛ اليهود ولاد الكلب يقولولى : يامصرى فََوِّت الصفيحة المخرومة ؛ احنا بنشتغل بالألف . يصمت العجوز قليلا ثم يسترسل بلهجه فلسطينيه : - قرّب يازَلَمييييييى ... قرب يا زلميييييى ؛ عشرة بِقِرييييش.. خمستاااشر بقرييييش .. عشرييين بقِرِييييشْ . - أيوه البرتقان كان بِبَلاش... قل لى يابا انت بتحلق دقنك ازّاى من غير مراية . رفع العجوز يده : - هات... هات الموس وأنا أوريك . يضع أحمد طرف الملاءة على صدر العجوز ، ويمسك العجوز بالموسى ذى الشفرة الواحدة بأصابعه الطويلة النحيلة ؛ وبطريقة خاصة محترفة يتحسس ذقنه بأنامل يده الخالية وببراعة يقوم بإزالة لحيته النابتة رويداً رويداً ؛ وقد تعلقت به عيون الصغار تراقبه فى اهتمام . - الله.... ايه الحلاوة دى ياعم الشباب... أيوه كده . - كان الزَّمُور بتاع الغارة لما يضرب.. الكلاب تهوهو ، والقطط تنونو ، والعيال تعيط .. كنت بشوف الطيارين جوه الطيّارات ؛ وأنا على جبل الكَرْمِل ؛ ويقاطعه صغير : - ماش دا ياجدو الجبل إللى ضربت فيه اليهود . ويقهقه العجوز ضاحكا : - أنا كنت صُغَّير ؛ وطلعت وادى العشاق فوق.... ياسلااااااااام ... تبقى قاعد وتزيح بإيدك فروع الشجر علشان تِكَلِّم إللى جنبك . - ضربتهم ازّاى يا جدو.... ضربتهم ازّاى . وينظر العجوز فى اتجاه أحمد : - كنت جاهل وقعدت مع أصحابى نشرب.... الدنيا لفِّت بيه ياواد ياأحمد.. اليهود ولاد الكلب كل واحد ماسك واحده وواخد راحته ع الآخر ؛ دمّى فار ؛ قمت قايم شادد فرع شجرة لبلوب وطِحْت فيهم ضرب ؛ إللى ياخد خبطه يقوم يجرى زى الفُرِِّيرَه وهو بيصرخ : ايييمااااااا ؛ ايييمااااااا ....المصرى سِكِر... المصرى سِكِر . وابتسم أحمد فى مكر : - كان لك أصحاب فلسطينيين يابا . - ياسلااااام ... يوسف ....دا كان ولد .... مره أنا ويوسف ومحمد الصعيدى وابن خالى سُهيل رحنا نتفرج على فيلم لص بغداد فى سينما أمفتياتر ... - لأ ياجدو فى سينما آرمون... - آى والله صحيح فى سينما آرمون ؛ ويومها اتخانقنا واحنا طالعين م السِيما مع اليهود... جُبَنه ولاد كلب ... كنا فى حَيِّهم ؛ والواد محمد الصعيدى قال لنا : واد انت وهوه كل واحد يحط ضهره فى ضهر أخوه ؛ إللى أشوفه جاى عليّه أتعزم وأقوله ( باكاشا أدون ) واديلو يالبُنيه فى وشه... ورقعناهم حتة علقة... وهربنا منهم . - تعرفوا ياولاد جَدّكم كان بطل وكان فتوه ؛ مره اتراهن انه يمشى على ايديه على بلاج حيفا ؛ وجابه من أوله لآخره . لمعت عينى العجوز وتألقت حدقتاه وقام مترنحاً ؛ ووقف أمام الصغار يفرد ساعديه جانبا ويضغط بهما للخلف ؛ ثم يركع يلمس بهما الأرض ويعود يرفعهما لأعلى ؛ واختل توازنه لبرهه ؛ فبادر أحمد ومد يده ليعاونه فدفع يده : - عيب... عيب ياأحمد... أبوك لسه شديد . ؛ ثم رفع صوته وهو يتوجه خارج غرفته : - ياوليّه.... يا أم أحمد... مافيش لُقمه حلوه كِده . فردت بلهجة متبرمة : - لمّا تِستَحمّى الأول ؛ وتغير هدومك . فالتفت ناحية ابنه : - شايف... شايف ؟ ! . ثم بلهجة طفولية آمره : - طب هاتيلى غيار نضيف وجلابيه . ومضى من فوره نحو الحمّام . وشرعت روحية فى تغيير ملاءات السرير : - ربنا يخليك لينا ياخويا ومايحرمناش من طَلّتك علينا ...بينى وبينك هُمّه الاتنين أصعب من بعض.... ماانت عارف . - أمك غلبانه ياروحية... كبرت هيه الأخرى... ماعادش عندها مرارة . وخرج من الغرفة يتبعه الصغار ؛ يتأمل أمّه وهى تعد الطعام للعجوز : - ازيك يا أم أحمد . - الحمد لله يابنى .... أبوك صعب قوى ... مابيبطلش طلبات ؛ شاى ، قهوة ، سجاير ؛ وأنا مابطقش ريحتها . - معلش استحمليه . وينتهى العجوز ؛ ويخرج فرحاً مستبشراً : - مين يعادينا نفنيه ؛ فى أراضينا هاأو ... أو ... أو . وتزوم الأم : - بلاش هيصه ؛ الأكل أَهُه . - يابااااااى عليكى . ويتحلق الصغار حول العجوز ؛ - الكابتن الانجليزى قاللى : يو فورمان....... ويمضى العجوز مسترسلا فى قصة دائرية لا نهاية لها ؛ ولاتنتهى أسئلة الصغار وتعليقاتهم وضحكاتهم ، وقهقهات العجوز المُرْهَقَة ؛ وبينما ظهرت الراحة على وجه أحمد وروحية ؛ يبدو التبرم والملل على وجه الأم زامة شفتيها تُنحِيها جانبا من آن لآخر فى استياء واضح . - طيب ... أنا هاتِّكل على الله . - ماهو بدرى يابنى . - معلش عندى شغل كتير مستنينى . ويقبّل رأس العجوز ؛ وينحنى ليُقبّل يد أمه هامساً : - اتوصّى بأبويا .... استحملى شويه . - أنا صابرة طول عمرى . تحتضنه أخته مُقبّلة وجنتيه بقبلات رنّانة . - سلامو عليكو . ويمضى نحو الباب ؛ وقبل أن يخطو خطوات قليله مبتعداً ؛ يترامى إلى أذنيه صوت أمه الصارم : - يالله يا واد انت وهُوَّه كل واحد يروّح ؛ قوموا ذاكروا بقه ؛ مانتوا عارفين الحكايات دى ؛ ولاّ هِيَّه تسالى ؛ يالله ياروحية ؛ خُدى عيالك واطلعى فوق زمان جوزك جاى . ويرتفع عاليا صوت الشيخ / محمد رفعت الملائكى مرتلا أيات الذكر الحكيم يبتسم ؛ ويتناول سيجارة ؛ يديرها بين أصابعه ؛ ويشعلها ؛ ثم يمضى فى طريقه . سميرعصر
احسنت!! اسلوب قصصي موفق!! بصراحة تستحق ان يكون لك قسم خاص بقصصك يضم ابداعاتك و تستحق عن جدارة لقب ( قاص منتديات كتاب العرب ).... واتمنى ان تكون قصصك القادمة في مستوى اعلى من الحالية... مع تمنياتي لك بالتوفيق ..........